image_print

ظاهرة تنصير الإسلام

مرت أوروبا بعصور سيطرت فيها الكنيسة على عقول العامة، وقد سميت تلك الحقبة بعصور الظلام، إلا أنه في مطلع القرن الثامن عشر وُلِد ما يسمى بعصر التنوير، أي العصر الذي خفتت فيه أصوات الكنائس وطبقات الكهنة فيها، وارتفعت فيه أصوات الفلاسفة والمفكرين والصناعيين ومختلف الطبقات الاستثمارية.

ذلك العصر كان عصر الردة عن المسيحية بشكل شبه جماعي، حيث إن الذوق العام كان يميل إلى فنون الإمبراطورية الرومانية وأمجاد الفلسفة اليونانية والنزعة المادية التي تقدس العلم التجريبي والتقدم العلمي، من هنا فقد أصبح التمرد على المسيحية نشاطًا تخلص له الكثير من أصحاب العقول وجماهيرهم، حتى أصبحت الشبهات الموجهة ضد المسيحية مكررة على مدار الأجيال بلا جديد.

سيولة الأفكار

في مطلع القرن العشرين بدأت الفلسفة الغربية تتلون بنوع من السيولة، أو ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة، وهو جهد يمتاز بالتمرد على الثوابت، وإلغاء كل المسلمات. ولم تسلم الأديان من محاولة التمييع تلك، وعلى الرغم من أن كل منكري الدين على مدار التاريخ كانوا يتهمون النص الديني بأنه منتَج بشري، فلا جديد أن يشهد هذا القرن بضع نظريات من مشاهير الفكر حول تفسير ظاهرة الدين. وعلى الرغم من كونها مغالطة منطقية تنطلق من مبدأ (المصادرة على المطلوب) والبحث في الدين من منطلق أنه بشري بادئ الأمر، إلا أن المشكلة الحقيقة لا تكمن هنا، بل إن المشكلة في أن الغرب الذي شكك في المسيحية بدأ ينظر إلى الإسلام على أنه مسيحية من نوع آخر! فكانت الشبهات التي هي الطوب المرميّ على المسيحية، نفسها الموجهة نحو الإسلام، فبدأ الجدال بنفس الشبهات والأيادي والطوب ذاته!

ادعاء التناقض بين العلم والدين

كانت نصوص الأناجيل تتدخل في شؤون علوم الطبيعة بشكل قوي، وكانت النصوص تتناقض مع صريح العلوم بشكل صارخ، فكان ينظر إلى النص الإنجيلي أنه رواية أخرى عن الطبيعة، تختلف عن رواية العلوم التي تبنى على التجربة والبرهان، ومن ثمّ أصبح الكتاب المقدس ويكأنه كتاب علم عفى عليه الزمن، ولا بد أن يؤخذ بالحديث في العلم إذا حال تعارضه مع النص الديني.

من هنا ادعوا التشابه بين الإنجيل والقرآن وبدأت حملات التشكيك في القرآن ككل من نفس المنطلق، ولكن النظر إلى القرآن أنه كتاب في العلم لهو ظلم فادح، إذ إن آيات القران تتعدى ستة آلاف أية، إلا أن الآيات التي تتحدث عن الكون بشكل صريح فهي قرابة ألف آية، والنظر في القرآن بنفس نظرة التشكيك التي لم يسلم منها الكتاب المقدس إنما هو ظلم وعدم إنصاف، ولعل أول من وضح تقارب هذا الأسلوب في التشكيك كان موريس بوكاي في سبعينيات القرن الماضي؛ إذ إن الكتاب المقدس عَكَس صورة وحالة الثقافة العلمية في عصور تدوينه؛ أما القرآن، فقد خالف الكثير من الثقافة العلمية في عصر نزوله، وصدقته كثير من مكتشفات العلم الحديث!

ومن ناحية أخرى فإن الغرب استورد نهضته العلمية وأسس العلوم الطبيعة من الحضارات الأخرى التي كان المسلمون أهم مصادرها، وقد كان القرآن ذاته الآمر بالنظر في الوجود بمنطق علمي رصين فقال تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} [يونس: 101].

ليرجع المشككون إلى تاريخ علم الفلك مثلًا، فقد كان منشأه وتطوره في تاريخ المسلمين بسبب القرآن، وبعدما تفوق المسلمون في تأسيس تلك العلوم والبراعة فيها، أخذ الغرب ما انتهينا إليه ثم بدأ يشكك في الكتاب المقدس -الذي كتب بأيدي بشر على ضوء ثقافة العصر في منأى عن مكتشفات العلم– بحجة أنه متعارض مع العلم. ثم يخرج الغرب على المسلمين متكبِّرًا ومشكّكًا في القرآن قياسًا على ما في الكتاب المقدس من تناقض وخطأ!

ادعاءات الأركيولوجيا

مع موجة التشكيك في المسيحية تصاعد التشكيك بنبوة عيسى عليه السلام بهدف نفي ربانية الدين، وقد أسرف بعض من الناس في الشك، حتى بدأت موجة تشكيك في الوجود التاريخي لسيدنا عيسى من الأساس! وهنا بدأت جهود موازية -عن طريق علم الأركيولوجيا- للبحث عن آثار تثبت وجوده في تلك الحقبة الزمنية التي تحدثت الأناجيل عنها، فكان الفصل بين عيسى المذكور في الإنجيل وعيسى الذي تدرسه الأركيولوجيا، ويكأن النص الديني لا قيمة له طالما علم الأركيولوجيا لا يقر بمصداقيته!

من هنا استُخدِم نفس الأسلوب في التشكيك بالإسلام، ونشأ جدال متصاعد مداره التشكيك التاريخي والأركيولوجي بوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم! وهو في الحقيقة سخف ما بعده سخف، فلو شكك إنسان في وجود أشهر نبي على مستوى الأديان، وأشهر شخصية أثرت في التاريخ العالمي منذ القرن السابع الميلادي فهذا في الحقيقة نوع من أنواع الخبل.

يكفينا أن يعلم المشكك أن عالم التاريخ المسيحي أسد جبرائيل قد ألف كتابا بعنوان “مصطلح التاريخ” ليقارن بين منهجية علم التاريخ الغربي historical methodology  ومنهجية علماء الحديث في الدين الإسلامي. لتكون الدقة التاريخية في علم الحديث سابقة على علم التاريخ المجرد، فضلا عن أن الفرق بينها ألف سنة! وكيف يكون الشك بهذا الإسراف في وجود شخصية دونها التاريخ العالمي في كتب صينية وهندية وبيزنطية وبأيدي غير مسلمين منكرين لنبوته!

ومن هنا، صدر في عام 2019 كتاب بعنوان “أركيولوجية الإسلام” للدكتور أحمد حسن وفي عام 2021 كتاب الدليل الأركيولوجي على وجود الأنبياء للدكتور سامي عامري. وكلا المؤلفين وضحوا أن تلك الشبهة نصرانية بحتة ولولا تأثر أبناء المسلمين بها لما كانت تستحق الالتفات!

هل للقرآن مصدر بشري؟

لعل أقدم وأشهر شبهة موجهة ضد الإسلام هو أن القران الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى، ولو تأملت كلام المتأثرين بتلك الشبهة لسمعت العجب العجاب. فمنهم من حرف التاريخ إلى درجة جعلته أشبه بالسيناريو السينمائي القابل لإعادة التأليف حتى يوفر للقرآن الظروف المناسبة التي يقتبس منها من كتب أهل الكتاب!

والعجيب أن تلك الشبهة كانت موجهة للكتاب المقدس في الأساس، وإذا فهمنا جيدا المسيحية والوثنية فسنعلم أنهما لا يختلفان عن بعضهما البعض في النقاط الأساسية وإنما يشتركان في الأصل الواحد وهما حقيقة واحدة وشيء واحد!

إن شبهة الاقتباس أصلها مسيحي، وإلا، كيف يفسر المتشكك وجود 50 اختلاف بين أطول قصة في القرآن -قصة سيدنا يوسف- وبينخا في الرواية التوراتية! [انظر كتاب براهين النبوة، سامي عامري]. وكيف نفسر تصحيح القرآن لعقائد اليهود والنصارى بدلا من النقل التوافقي معهما!؟

معضلة الشر

تتأسس معضلة الشر على إشكال فلسفي يوجه إلى الكثير من الأديان والعقائد، وهو سبب في ارتداد الكثير من النصارى عن المسيحية في الأساس؛ لأن المسيحية تنص أن الله محبة، وأن المسيح جزء منه وأنه صلبه من أجل البشرية. فإذا كان كذلك، فلماذا يزال الشر موجودًا، أين المحبة، وأين نتيجة الصلب إذن!؟

ولو تأملت التراث الإسلامي، لوجدت أن الفلاسفة كانوا منشغلين بقضايا كثيرة كلفت الأمة قرونا في الغوص فيها. أما معضلة الشر فهي شبه غائبة من الكتب الإسلامية، لأنها ببساطة أسخف ما يكون في وجهة نظر المعتقد الإسلامي الذي ينص أن الله متصف بالعدل ولكنه متصف بالحلم أيضًا، وأن الله له الأسماء الحسنى كلها لا بعض صفات بحسب، وأن هذه الحياة دار ابتلاء وأن الآخرة دار القرار وأن هناك يوم القيامة وفيه سيعوض الله كل مظلوم، وأن القصة لا تنتهي بالموت!

فسحب جدال معضلة الشر من كونها شبهة مسيحية بحتة إلى دائرة الإسلام ما هو إلا رمي للإسلام بشبهة ينسفها طفل لا يعلم من ثقافته الدينية سوى الأسس العامة!

هذا المرور الخاطف على هذه القضايا غيض من فيض، قصدت فيه أن أوضح أصول الشبهات المطروحة وأنها شبهات بمثابة سهام موجهة نحو مسيحية في الأساس، وقد حُوِّلت وجهة الأسهم نحو الإسلام لا أكثر

ولعل المشكلة تكمن في جهل الغرب بالإسلام، والتكاسل عن الابتكار للطعن فيه، فاكتفوا بنقل نفس الشبهات له. أما عن المسلمين، فالمشكلة تكمن في عدم إلمامهم بتاريخ الغرب والجدال العلماني الكنسي. ومع انعدام الثقافة الدينية عند الكثير من المسلمين، أصبح الكثير ضحية لشبهات تنسف دين غيره، ولا تضر دينه في شيء!


مراجع للاستزادة

الإجابة القرانية (مهاب السعيد)

براهين النبوة (سامي عامري)

الدليل الأركيولوجي على وجود الأنبياء (سامي عامري)

العلم والوحي (سامي عامري)

هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى (سامي عامري)

مصطلح التاريخ (أسد جبرائيل)

زوال إسرائيل بين التنبؤ الحدسي والواقع الحسي

لطالما اجتذبت القضية الفلسطينية تضامن الشعوب وبعض الأنظمة -ولو دبلوماسيًّا- عقب كل حدث بارز، أو إثر كل هجوم إسرائيلي على الأراضي المقدسة. إلا أن الأحداث الأخيرة في الأراضي المحتلة وما تلاها من تصعيد إسرائيلي قد شدّت انتباه العالم -على غير المعتاد- بالتضامن هذه المرة الذي تجاوز المألوف.

لقد جدّد هذا التصعيد وما رافقه من تدنيس للأقصى وتهجير قسري لأهالي حي الشيخ جراح مواقف التضامن بين الشعب الفلسطيني وشعوب شتى، الغربية منها قبل العربية والإسلامية، وشدّ من أزر عرى الأخوة بين المسلمين والفلسطينيين، مما أحدث ضغطًا دوليًّا على الكيان دفعه إلى وقف العدوان المباشر وتدنيس المقدسات بالأراضي المباركة.

ما لبث هذا التضامن الدولي ضد إسرائيل أن أعاد لساحة النقاش التنبّؤات التي قالت بفرضية زوالها، خصوصًا بعد الصراعات السياسية الداخلية التي يعيشها الكيان بين مختلف طبقاته، والتي سنأتي للإشارة إليها خلال المقال.

يهود وليس صهاينة

تعددت النبؤات المؤذنة بزوال إسرائيل من خلال الإشارات الضمنية والصريحة أو التأويلات لنصوص في الكتب المنزَلة، ومن أشهر الروايات المؤيدة لذلك هي اليهودية منها، فهذه الأخيرة لا تعترف أصلًا بقيام دولة إسرائيل، إذ تؤكّد النصوص التوراتية أن قَدَرَ الشعب اليهودي أن يظل مشتَّتًا إلى أجل مسمًّى يصنع الله أثناءه معجزةً توحد البشرية جمعاء تحت لواء حكمه تعالى.

وهذا حسب زعم عرّاب هذه الرواية الحاخام دوفيد فيس (Yisroel Dovid Weiss)  الذي ردّ على سؤال المذيع عما إذا كانت هذه الرواية استنتاجه أو استنباطه الخاص من التوراة، فأجاب نافيا؛ ”لا، في الحقيقة قيام الدولة الصهيونية يخالف الخضوع والاستسلام لحكم الله الذي حرّم أن تشيّد دولة قومية لليهود على حساب أرض شعب آخر أو حتى أن تقام على أرض خالية وغير مأهولة، فهذا مُحرم ويعد ثورة ضد الحكم الإلهي”

في حين تُنبئ روايات أخرى من التوراة أن آخر زعماء الدولة الإسرائيلية سيكون ”عطاء الله” فحدد علماء وحاخامات عمرَ الدولة في 76 عاماً ونسبوا ذلك إلى ”نتنياهو”  باعتبار أن كلمة “نتن” مرادفة لـ ‘عطاء” وياهو مرادفة لـ كلمة  ”الله”

هل اقتربت الساعة؟! 2022 موعد الزوال

من المسلمين، يعتبر الشيخ بسام جرار أشهر من نظّر لزوال إسرائيل عام 2022 اعتمادًا على ما أطلق عليه الإعجاز “العددي القرآني” ومتطلباته من خلال علم “حساب الجُمّل” الذي لا يسع المجال للتفصيل فيه بهذا المقال، لكن من جملة ما اعتمد عليه في فرضيته هو ربطه للأحداث المتعاقبة على الدولة الإسرائيلية بالإفساد في الأرض المذكور في القرآن حسب الآية:

{وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا  (7) عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:4-8]

فربط الإفساد الثاني (حيث الوعد بالعقوبة) بآية أخرى من السورة نفسها {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] كما أشار إلى أنّ عدد الآيات من الآية 21 من سورة المائدة (حيث بداية الكلام عن نبوءة اسرائيل) إلى الآية 104 من سورة الإسراء هو 1443 آية، وأنّ عدد الكلمات من بداية الكلام عن نبوءة الإفساد أول سورة الإسراء إلى قوله تعالى: “لفيفا” هو أيضاً 1443 كلمة، وهذا العدد يوافق العام 1443 هـ/ 2022م.

وسواء كانت تنبؤات الكتب المقدسة أساس ما اعتمدت عليه أطراف أخرى في تأييدها لنفس مصير الدولة الإسرائيلية أم أحداث حسية تعيشها هذه الأخيرة.

بعيدًا عن التنبؤات .. واقع إسرائيل المضطرب

شنت إسرائيل الحرب على نفسها إثر تصعيدها الأخير على الأراضي المحتلة، فتفاجؤها بمستوى الردّ وزعزعة المقاومة الفلسطينية لاستقرار الداخل الإسرائيلي، أعاد اعتدال ميزان الرعب بين الطرفين بعدما تمكن الكيان من ساحة الحرب لعقود. لم تفلح هذه المرة في شيطنة المقاومة و”أرهبة ” حركتها، ولا أرى من العدل بخس وسائل التواصل الاجتماعي فضلها في ذلك، بعدما صرفت هذه الأخيرة انتباه الجماهير عن العديد من القنوات، الغربية منها والعربية، لعدم مهنيّتها في نقل الحقائق وتحيزها السياسي الواضح لرأي أنظمتها.

مما يؤكد ذلك، استطلاع رأي أجرته مؤسسة “هارفارد هاريس” يُظهر تغير كبير في آراء الأمريكيين بالنسبة للقضية الفلسطينية مع تراجع تأييد إسرائيل في المنطقة، وجاء في إجمالي الاستطلاع حول سؤال ”مَن المسؤول الأكبر عن العنف في الشرق الأوسط ” أن %60 من الفئة الشابة صوّتت ضد إسرائيل، فضلًا عن المظاهرات الشعبية بعدد من الولايات والمقاطعات التي ندّدت بالجولة التصعيدية الإسرائيلية على الأراضي المحتلة.

لم يقتصر هذا التنديد على الشعوب والمجتمع المدني فقط، فوفق ما نشَرته صحيفة الغارديان (The Gardian) البريطانية، وقع أكثر من 50 سياسي أوروبي رسالة تدعم تحقيق الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب في ”الأراضي الفلسطينية”.

أما على المستوى الداخلي، لم تسلم إسرائيل من التخبط السياسي والاجتماعي إثر صعود التيارات الدينية القومية لمواطن صنع القرار فنتج عن ذلك تضارب في السياسات الممثلة للنظام على جميع المستويات، الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية والإعلامية، بفعل الطابع الأيديولوجي والفقهي للحراك الجديد الذي يسبح ضد التيار العلماني الممثل للقيم الديمقراطية والليبرالية، ففي دراسة حديثة أخرجها الدكتور صالح النعامي الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي بيّن فيها مدى تأثير هذا التشكل الجديد للنخبة الإسرائيلية على الصراع العربي الإسرائيلي كافة.

إن هذا التناقض السياسي يمكنه أن يغير الواقع الاجتماعي على المستوى الداخلي مربكًا بذلك المخططات الكبرى المعتمدة في تأسيس الدولة التي اتخذت من الدين ذريعة (لاستقطاب اليهود) من أجل الاستيطان الأوّلي.

على أيٍّ، فإنه لا يمكن لنا الجزم يقينًا بزوال الكيان الصهيوني في عام محدّد كـ ( 2022)، خصوصًا وأن أكثر من نافح عن فرضية الزوال في هذا التاريخ “الشيخ بسام جرار “أكد على أنه اجتهاد قد يصيب فيه وقد يخطئ، والأوضاع السياسية الدولية ما تزال موجهة لصالح الكيان وتزداد هيمنته الدولية والإقليمية، إذ إن زوال “الكيان” يستوجب تغيُّرًا دوليًّا في موازين القوة وفي ظرف وجيز لصالح الدول المناهضة لإسرائيل، هذا بالإضافة إلى سلسلة التطبيع مع عدد من الأنظمة العربية التي  نفت عن العلاقة مع الكيان نكهة الصراع والعدائية.

إلا أنه يجب التنبيه على أنه تعالى لا شيء يعجزه، فهو المتصرف في كونه المُمضي حكمه فيه. وبداية الأمل تتجلى في تعثرات وتخبط الكيان تجاه الرأي العام بفعل تطورات وأحداث شدّت الانتباه وأعادت الاعتبار لطرف القضية الأضعف الذي ظل لعقود متحيَّز ضده لقلة حيلته، وسط عالم قل ما وزعه الضمير بقدر ما وزعه السلطان والقوة.


المصادر:

  • صالح النعامي، النخبة الإسرائيلية الجديدة دراسة في أثر صعود التيار الديني على مراكز صنع القرار، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة – قطر، ط1، 2020.
  • بسام جرار، زوال إسـرائيل عام 2022م نبوءة أم صُدَف رقميـة، مركز نون للأبحاث والدراسات القرآنية

http://www.bassamjarrar.com/Part-1/Israel2020.aspx

 

 

 

الهوية الفرعونية وخيوط العنكبوت

بعد تلك الزفّة الهائلة التي تَمَّت في مصر لما يسمى بالمُومْياوات المَلَكيّة وما صاحبها من حشد إعلامي قبل الحدث وبعده، تعالَت أصوات الكثيرين منادية بضرورة الرجوع إلى ماضينا العريق والعودة إلى هُويتنا المفقودة، وتجدّد الجدل القديم حول حقيقة الهوية المصرية هل هي الفِرْعَوْنِيَّة أم الهويّة العربية الإسلامية؟

إنّ ما وصَلَنا من الحضارة الفرعونية أو على الأقل ما يُدَرَّس منها في المدارس والجامعات إنما هو خليط من الوثنية والإيمان بآلهة الطبيعة، والرمز لها برموز مختلفة واعتقاد تأثيرها في الكون، ثم الإيمان بنوع من الحياة بعد الموت يَمْثُلُ الميت بِحَسَبِه أمامَ مجلسٍ من الآلهة يحاسبه على أعماله، ويفحص مدى إيمانه بالآلهة والتزامه بتقديم القرابين لها.

نُقِلَتْ لنا تلك الثقافة الدينية مع جملةٍ من تاريخ مصر القديم مدونةً على أبنية المعابد ومِسلّاتها الشاهقة وتماثيلها محكمة الصنع والبنية، أو مدفونة في مقابر تَضُمّ مع جسد الميت المحنّط جزءًا كبيرًا من ثروته وأدوات معيشته التي كانوا يعتقدون أنها لازمةُ للحياة بعد الموت. كل ذلك في حِزْمة من الأساطير تدور حول صراع الآلهة وإيقاع بعضها ببعض ومحاولة بعضها الاستئثار بالإلهية دون البعض الآخر([1] ).

ومن المؤسف أن البعض قد أثلج صدورَهم ما رأَوْه في الموكب المذكورِ من ترانيمَ وأناشيد وثنيّة ورقصات تحتوي على إشارات شركيّة، فكل هذا من وجهة نظرهم رجوعٌ إلى الأصل، وتمسُّك بالهُوية التي ضاعت مع الزمان، فضاع بها المصري بين أمم الأرض، وتحوّل من المصري القائد والراعي والإله والعالِم والفنان وصانع الحضارة إلى المصري المتسوّل على موائد الحضارات المُتَفَتِّتِ في فضاء الهُويات.

 أرضُ الحضارات

لقد تَكَوَّنَتْ على ضفاف النيل العديدُ من الحضارات بدايةً من الحضارة المصرية القديمة بعصورها المختلفة والتي كان الوجود العربي مكوِّنًا أساسًا من مكوناتها، “فلقد عرفت مصر قبل الإسلام فرعي العرب الكبيرين: القحطانيون الزُرَّاع كانوا يعبرون البحر ويستقرون في الوادي ويختلطون بسكانه، والعدنانيون كانوا يجوبون الصحراء الشرقية بدوًا رُحَّلًا، ولهذا لم يختلطوا كثيرًا بالمصريين، وهم الذين حاربهم الفراعنة طويلًا. ومعنى ذلك بوضوح أن تعريب مصر سبق في بدايته الفتح العربي والعصر الإسلامي، وأنه قديم في مصر مثلما كان قديمًا في السودان، وإنْ كان الفتح نفسه هو الخطوة الحاسمة”([2]).

ثم كانت مصر امتدادًا مؤثرًا للحضارة اليونانية والرومانية، وعلى أرضها نشأتْ الحضارة القبطية ثم ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية. وفي كل هذه الحضارات كان التعدد الديني سمة من سمات النسيج البشري المصري، خاصة الوجود اليهودي، ثم الانتشار المسيحي الذي طبع مصر بطابعه الثري في كل جوانب الحياة الروحية والمادية قرونًا عديدة امتدت حتى بعد الفتح الإسلامي لها، “وثمة هنا مفارقة طريفة: وهي أن درجة انتشار كل من الأديان الثلاثة في مصر تكاد تتناسب عكسيًّا مع درجة ارتباط رسولها بمصر. فموسى أشدهم ارتباطًا بمصر، ولد وعاش وربي بها، بل يعدّه البعض مصريًّا بالأصل، ومع ذلك فلم تنتشر اليهودية في أوجها إلا انتشارًا جزئيًّا محليًّا جدًّا. أما عيسى فقد جاءها طفلًا وأقام بها بعض الوقت، ولم تنتشر المسيحية في أوجها إلا نصف انتشار على الأكثر. أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده من بين أصحاب الرسالات الثلاث الذي لم يجئ إلى مصر، وإن كان وحده الذي أصهر منها، ومع ذلك فقد قُدِّرَ للإسلام أن ينتشر بها الانتشار الأكمل والأشمل”([3]).

استوعب المصريّون كل هذه الحضارات وأثَّروا فيها وتأثّروا بها، واحتضنت أرض مصر من كل حضارة أعظم فلاسفتها وأقواهم فيها أثرًا، ففي الزمن القديم عاش فيها هرمس الهرامسة الذي يُعتَقَد على نحو واسع أنه كان نبي الله إدريس -عليه السلام-([4]).

مع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot

وحين حطَّتْ المسيحية في مصر رحالها نبغ فيها أوريجين الفيلسوف السكندري الكبير (185 ـ 254م) منحدرًا من أسرة وثنية اعتنقت المسيحية وتحمّلت أشد الأذى والاضطهاد في سبيلها، وقد تركت تلك الحوادث أثرًا عميقًا في نفسه فأقبل على الكتب الدينية دارسًا وشارحًا لعباراتها كاشفًا لغوامضها محاولًا التوفيق بينها وبين الأفكار العريقة لمدرسة الإسكندرية الفلسفية. وقد بلغ أوريجين في ذلك الغاية القصوى حتى أضحى من المؤكد أنه ليس هناك أحد ترك أثرًا واضحًا في اللاهوت المسيحي بعد القديس بولس مثلما فعل أوريجين([5]).

كما احتضنت مصر واحدًا من أعظم فلاسفة اليهود على الإطلاق، موسى بن ميمون، الذي كان طبيبًا خاصًّا للملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي، وكتب العديد من الكتب في الدين والفلسفة، مما خلَّدَ اسمَه ضمن كبار فلاسفة العصور الوسطى وكان محل تقدير من العامة والخاصة، ويَعدُّه اليهود أكبر فلاسفتهم على الإطلاق حتى قال ناعيه: من موسى إلى موسى لم يقم مثلُ موسى([6]).

التغير المصري الأعمق والأتمّ

تفاعل المصريّون مع كل هذه الحضارات تفاعلا واعيًا وعميقًا، لكن تفاعلهم مع الحضارة العربية الإسلامية كان أشد عمقًا وأكثر شمولًا، حتى أنهم ككثيرٍ غيرِهم قبلوا الإسلام دينًا وثقافةً ولغةً، فصارت مصر إحدى الحواضر الإسلامية التي مثَّلتْ في تاريخ الإسلام نبعًا صافيًا فياضًا لعلوم القرآن والسنة واللغة، ولعلوم الفلسفة والطب والفلك والفيزياء كذلك، وأضحت حصنًا حصينًا ضد كثير من الحملات العسكرية العاتية التي استهدفت بيضة الإسلام وشأفته بل سلامَ العالم وأمنَه.

إنّ مَرَدَّ هذا القبول التام للإسلام هي أسباب ثلاثة: التسامح الديني، وإدارة المسلمين الرفيقة والعادلة لشؤون البلاد، وقرب التصور الإسلامي للإله من تصور الكثير من المسيحيين غير المؤمنين بالتصور الرسمي الكنسي([7]).

وهذا يؤكده ما قام به عمرو بن العاص حين فتح مصر إذ أمَّنَ نصارى مصر على كنائسهم وأديرتهم ثم سمح للبابا آنذاك بنيامين الأول أن يعود ليباشر عمله في أمان بعد أن ظل مختفيًا لسنوات هربًا من الرومان وبطشهم.

وحتى وإن جرَتْ سياسة الولاة بعد ذلك تجاه جموع الشعب على العسف أحيانًا والعدل أخرى إلا أن العلاقات بين طوائف الشعب كان فيها من التسامح والتعايش القسط الوافر. يقول صاحب كتاب (تاريخ الأمة القبطية)([8]): “ومن حسن الحظ أن علاقاتهم الشخصية مع أفراد المسلمين المتوطنين بينهم لم تكن غيرَ مُرْضِيَةً وأنَّا لَمْ نر في التاريخ ما يدل على وجود تعصُّبات دينية بل ربما وجد بين المسلمين مَنْ أنصفَهم وذبَّ عنهم”.

آثارٌ لا تُمْحَى وهُوِيَّةٌ لا تزول    

من بين الآثار العريقة الكثيرة العجيبة التي تَعُجُّ بها أرض مصر تبقى آثار الحضارة الإسلامية شاهدة على تَشَرُّبِ كل شبر من تلك الأرض المباركة حضارة الإسلام وثقافته، فبينما تتركّز آثار الحضارات الأخرى في منطقةٍ مَّا هنا أو هناك تنفرد آثار الحضارة الإسلامية بتوزعها على جميع الأنحاء والنجوع والقرى في القطر المصري، وتلك الآثار التي تتنوع بين مساجد ومدارس وزوايا وتكايا وخوانك ما زال الكثير منها إلى الآن يَعِجُّ بالحياة والحركة مواصلًا دوره الثقافي والديني دون أن يتنكّر لماضيه أو يبخل على حاضره، أو يتحول لبناء صامت يحكي عن فترة قد انقطعت عنها الحياة أو انقطع هو عنها فلم يعد قادرًا على مسايرتها. وفي حِسْبة رياضية بسيطة يقارن جمال حمدان بين المدة الزمنية لتاريخ مصر القديم وتاريخها العربي الإسلامي فيخرج بنتيجة حاسمة هي أن طول تاريخنا العربي يعادل نحو ثلث إلى نصف تاريخنا الفرعوني تقريبًا، ونحو ربع تاريخنا كله([9]).

جمال حمدان

لكن هل يعني ذلك انقطاعًا تامًّا بين الحضارة الإسلامية والعربية وبين غيرها من الحضارات التي سبقتْها على أرض مصر؟

يحلو للبعض أن يعتقد هذا موهمًا أن مصر تعيش مرحلة من الغربة عن ثقافتها وماضيها منذ الفتح الإسلامي إلى الآن، متنكرًا بقوله هذا للواقع والتاريخ. فلم يُؤْثَرْ عن المسلمين أنهم حطموا تمثالًا أو خربوا معبدًا أو طمسوا أثرًا ينتمي لحضارات سابقة بل تركوها مصدرًا للمعرفة والثقافة والعبرة والعظة. وما زالت اللغة المصرية المتداولة تحمل في طياتها كلمات تُنسَبُ إلى اللغة المصرية القديمة تزيد على ألف كلمة([10]). فالقول بالاستيعاب وليس بالانقطاع هو الأقرب للقَبول تاريخًا وواقعًا. فمصر كما وُصِفَتْ بحق “وثيقة من جلد الرِّقِّ، الإنجيلُ فيها مكتوب فوق هيرودوت، وفوقَ ذلك القرآن، وخلف الجميع لا تزال الكتابة القديمة مقروءةً جلية([11]) “.

لعل ممّا ساعد وزاد من وتيرة ذلك الاستيعابِ الثناءُ المستمر على مصر وذكرُها بالمحامد في النصوص الدينية الإسلامية فالقرآن يذكرها تصريحًا وتلميحًا مرات عديدة ويذكر أنها كانت مبعث الرسل وملجأ الأنبياء. ولئن ذكر الله أن أشهر فراعنة التاريخ فرعون موسى كان جاحدًا مكذبًا فلقد ذكر أن زوجَهُ كانت مسلمة موحدة وأنه كان من ملئه مؤمن يكتم إيمانه وأن الجدة الكبرى لخاتم الأنبياء كانت من صميم أهل مصر وأن يوسف وقومه لقوا فيها الحفاوة والتكريم. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم النيل والفرات ينبعان من أصل سدرة المنتهى. [البخاري: 5610] وسيناء هي التي شرفت بحديث موسى إلى ربه، وهي أول موطن للشجرة التي أثنى الله عليها بقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ} [المؤمنون: 20]. كل هذا الثناء وذكر مصر دائمًا في موضع المدح في القرآن والسنة فضلًا عن مكانتها المكانية والزمانية ميزها بمحل رفيع في الثقافة الشعبية المصرية حتى غدا كل مصري يؤمن إيمانًا عميقًا بأن مصر جزء لا يتجزأ من أرض الإسلام وتاريخه وحضارته وتراثه وثقافته، بل يؤمن أنها درة بلاد الإسلام وكنانة الله في أرضه والحصن الحصين التي يجد فيها كل مسلم الأمن والأمان والسرور والترحاب، فأضحتْ مصر بذلك مركزًا من المراكز الكبرى للحضارة الإسلامية يؤمها العلماء والفلاسفة والفقهاء من كل حدب وصوب فيلقَوْن بها والتقدير والحفاوة. وقد عبَّر الشافعي عن ذلك أحسن بيان وأبلغه حين كتب إلى ابن عمه يخبره عن مصر وأهلها: وسألتَ عن أهل البلد الذي أنا به، وهم كما قال عباس بن مرداس السلمي:

إذا جاء باغي الخير قلن بشاشةً له بوجوه كالدنانير: مرحبًا
وأهلًا ولا ممنوعَ خيرٍ تريده ولا أنت تخشى عندنا أن تُؤنَّبَا([12])

إن الدعوة إلى انسلاخ مصر من عروبتها وإسلامها واحتمائها بحضارة قديمة ميتة ـ مهما كان بهاؤها وبريقها ـ لهي دعوة إلى تحويل مصر إلى عضو مقطوع عن تاريخٍ وثقافةٍ وتراثٍ حافلٍ وعن جسد عربي وإسلامي فائرٍ بالحياة والتجدد، ودعوة لتحول مصر إلى بلد ضعيف ضئيل الحجم والتأثير وفقدِه شيئًا فشيئًا لقواه الناعمة التي تحلق به حول العالم ومن أهمها الأزهر الشريف بماله من امتداد روحي وثقافي على مستوى العالم الإسلامي أجمع. إن أمثالَ تلك الدعوات تشبه من يدعو ساكنًا مقيمًا آمنًا لهجر قصره الحصين المنيف والاحتماء ببيت نسج من خيوط العنكبوت! وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.


(1) انظر مثلًا: والاس بدج، آلهة المصريين (ص321 وما بعدها)، ترجمة: محمد حسين يونس. طبعة مكتبة مدبولي ـ القاهرة ـ 1998م.

(2) جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص643). طبعة مكتبة الأسرة ـ القاهرة ـ 2020م.

(3) المرجع السابق (ج4/ص418).

(4) انظر: د. مصطفى النشار، مدرسة الإسكندرية الفلسفية (ص114)، طبعة دار المعارف ـ القاهرة ـ 1995م.

(5) المرجع السابق (ص103).

(6) د. إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون ـ حياته ومصنفاته ـ (ص26)، طبعة دار العلوم ـ القاهرة ـ 1936م.

(7) انظر: د. مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة (ص68)، تعريب: عادل المعلم ـ يس إبراهيم، طبعة دار الشروق ـ القاهرة (بدون تاريخ).

(8) يعقوب نخلة روفيله، تاريخ الأمة القبطية (ص81)، مطبعة متروبول (الطبعة الثانية سنة 2000م).

(9) جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص645). ـ مرجع سابق ـ.

(10) جمعها وشرحها سامح مقار في كتابٍ من ثلاثة أجزاء بعنوان: أصل الألفاظ العامية من اللغة المصرية القديمة.

(11) انظر: جمال حمدان، شخصية مصر (ج4/ص590) ـ مرجع سابق ـ.

(12) انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان (ج5/ص162). طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت (بدون تاريخ).

انتفاضة الأقصى وأسفار اليهود الدينيَّة

“إنَّ الحوادث هي أكبرُ مُعلِّم” .. فليس أمعن في الدلالة من حادث حقيقيّ، لا يعتمد على تخيُّل أو تصوُّر مُجرَّد. وإذا أردنا إثبات شيء فأوَّل وأقوى درجاته هي رؤيته بالعيان. فما الذي سيثبُتُ في ضميرنا ومعرفتنا إذا رأينا مشاهد من التي تجري الآن في فلسطين؛ من أحداث توالتْ عقب محاولات الاحتلال إجلاءَ سُكَّان حيّ الشيخ جرَّاح، وانتقال الهبَّة إلى كَنَف المسجد الأقصى نفسه؟

هذه الحالات الجُنونيَّة الهِستيريَّة الصُّهيونيَّة التي رأيناها في اليوم الثامن والعشرين من رمضان المُبارك عام 1442هـ، وما قبله؛ من تهجير أرض وأخذها أمام ناظر أهلها، وهؤلاء الشُّهداء الذين لقوا الله صائمين، وهؤلاء الجَرحى الذين وقفوا مُتصدِّينَ للاحتلال أمام مسجدهم، وغيرها من مشاهد الاقتياد والعُنف تفرض علينا النَّظر بتمعُّن، ثمَّ اكتشاف أصول هذا الجنون الصهيونيّ. فتعالوا ننظر إلى المَشاهد ونؤصِّلها من نفسيَّة الجماعة اليهوديَّة.

نظرة عن كَثَب

إذا رأيتَ ما يحدث الآن على أرض فلسطين من انتفاضة؛ فلا تنظر إلى العرب أو المُسلمين! بل انظر وتمعَّن في جانب الاحتلال الصهيونيّ؛ سواء في ذلك رعايا الاحتلال أو عناصر شرطة الاحتلال. انظر إلى تلك العيون الهادئة المطمئنَّة في حلقات الذِّكر الدِّينيّ اليهوديّ من الرَّعايا؛ هؤلاء الذين يرتدون قبعة اليهود، ويلتفُّون حول بعضهم في حِلَق، ويقف بجوارهم رجال لهم لِحى طويلة.

فرِحُون كأنَّهم أطفال في يوم عيد! فرحون لأنَّهم سيقتحمون مسجد المُسلمين الأقصى، فرحون لأنَّهم سيقتلعون أبوابه، فرحون لأنَّهم سيسمعون صرخات المُسلمين واستغاثاتهم، فرحون لأنَّهم -من وجهة نظرهم- سيطأُونَ ما يُقدِّسه المُسلمون بأقدامهم، وسيدخلون على تلك المحلات التي يعتبرها المُسلمون طهورًا يحنون هاماتهم فوقها، وسيرون المُسلمين عاجزين عن فعل أيّ شيء أمام أفعالهم.

شرطة الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى المبارك صباح 23/05/2021

انظر إلى عزيمتهم وهُم يقفزون مُتجاورين، وهُم ينزعون أبواب المسجد الجانبيَّة بكُلِّ ما أُوتوا من طاقة. ثمَّ انظر إلى جُرأتهم وهم ينظرون إلى المُسلمين الذين يصورونهم بهواتفهم، وكأنَّهم يقولون: نعم، نحن الجُناة الفاعلون ونفتخر! ثمَّ انظر إلى قسوة ما يأتون من أفعال وتشنُّجات أجسادهم وهُم يؤدُّونها.

وانظر إلى هذا الجنون الأعمى الذي يدفع أحدهم لأنْ يقود سيَّارته ليُحطمها ويحوِّل بها مُسلمًا مُرابطًا أمام مسجده إلى أشلاءٍ دهسًا في صخرة! يا له من مشهد يستحقُّ التأمُّل! الصهيونيّ لمْ يعبأ بملكه وسيَّارته -رغم ما يُعرف عن اليهود من حرص عن الأموال-، ولمْ يعبأ ببقيَّة المُسلمين من حوله، لمْ يفكِّر في شيء إلا في “تحطيم” و”مَحو” هذا المُسلم من أمامه!

ثمَّ انقُل نظرك قليلاً إلى هذا الشُّرطيّ الذي يحميه.. انظر إليه إنْ استطعتَ تمييزه أصلاً من كثرة الدُّروع، والحاميات في الساق والكتفَيْنِ والرأس، والأسلحة التي يتسلَّح بها، والمتاريس التي يقف وراءها ليحتمي -فوق كلّ ما على جسده-! رغم أنَّه على حسب ادِّعائه على أرضه!.. انظر إليه وهو يقتاد شابة -أو قُل بالأحرى طفلة- بين ذراعيه يكاد يسحق عنقها؛ وهي عزلاء إلا مِن لباسٍ يستر جسدها، لا تهدِّد أمنًا له ولا سلامًا. وانظر إلى غضبه أمام الكاميرات الذي سرعان ما يتحوَّل إلى هلع وفرار من حجارة وعِصيٍّ يتقاذفها شباب الأرض وشيوخها عليه. انظر إلى إكماله العنف والتعنيف على مَن أسر واقتاد رغم أنَّه صار أسيره وفي حوزته!

إنَّ مثل هذه المظاهر -كـالتشنُّج والتسارع والهوجائيَّة- كلُّها مظاهر طبيعيَّة في حال الحرب، لا ينكرها نظر الإنسان حين يراها. وحال الحرب تكون قوَّتَيْنِ بينهما أقلّ درجة من درجات التكافُؤ؛ حتى يصلح أنْ تدخَل في تصنيف “الحرب”. لكنَّ ما نراه هنا ليس حربًا؛ بل اعتداء من جهة تمتلك كلَّ شيء تجاه أخرى لا تمتلك إلا أجسادها وحقها في الثبات على أرضها.

وبالقطع يرى الجميع أنَّ الفلسطينيّ الذي يقف صارخًا لا يمثِّل أيَّ تهديد على المُحتلّ؛ ويكفي أنْ نستدعي هذا المشهد الذي نجد فيه مُدرَّعات ومُجنزرات تحمل جنودًا تملك كافَّة أنواع الأسلحة، أمام رجال لمْ يجدوا ما يمسكونه في أيديهم فأمسكوا بألعاب ناريَّة!.. صاروخ يستخدمه الأطفال في الأعياد أمام رصاصات من كافَّة الأقيسة والأعيرة المتاحة!

دلالة ما رأينا، وبعض تفسيره

فما الذي تدلُّ عليه تلك المشاهد؟ لا تدلُّ مشاهد اليوم إلا على مزيدٍ مِمَّا أثبتَتْه مشاهد الأمس القريب والبعيد؛ تدلُّ على أنَّها حرب دين من جهةٍ تُجاه جهةٍ. جهة تعتقد في نفسها أنَّها شعب الله المُختار منه، وأنَّ سائر شعوب الأرض مُسخَّرة لها، وأنَّ هذه الشُّعوب هُم أغيار -أيْ غير يهود في مُصطلح شريعتهم- يستحقُّون أنْ يُجتثُّوا من الأرض، حتى إنْ بقوا عليها بقوا خَدَمًا لهذا الشِّعب المُختار، لا مُساوين لهم، بقوا من غير أرض ولا عرض؛ فالأغيار لا يستحقُّون التملُّك لهذه الأرض المُقدَّسة التي وعدهم الربُّ إيَّاها -وقت أنْ كان اليهود طائعين لله، ليس يهود اليوم-، بل لا يستحقُّون الوجود فوق “أرضه”.

رجاء جارودي

وسوف ندلِّل على ما يأتي به اليهود اليوم من أفعال بأحد أسفار كتابهم “التَّناخ” -الذي يُسمِّيه المسيحيون “العهد القديم-؛ هو “سِفر يَشُوع” لما له من خصوصيَّة قي مسألة تعامُل اليهود مع غيرهم. ولعلَّ هذا هو ما دفع “رجاء جارودي” أن يُخصِّص له فصلاً خاصًّا في كتابه الشهير “الأساطير المُؤسِّسة للسياسة الإسرائيليَّة”.

وسِفر “يَشُوع”، الإصحاح الأوَّل: “الرَّبُّ قال ليَشُوعَ بن نُون؛ خادمِ مُوسى: مُوسى عبدي قد مات. فالآنَ قُمْ اعبُر هذا الأُردُنَّ أنت وكلُّ هذا الشعب إلى الأرض التي أنا مُعطيها لبني إسرائيل. كُلُّ موضع تدوسُهُ بُطونُ أقدامكُم لكُم أعطيتُه كما كلَّمتُ موسى (يقصد في العهد). من البَرِّيَّة ولُبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفُرات، جميع أرض الحِثِّيِّيْنَ، وإلى البحر الكبير نحو مَغرب الشَّمس يكون تُخُمُكُم (حدودكم). لا يقف إنسانٌ في وجهك كلَّ أيام حياتك”.

وها هو ذا اليهوديُّ يستدعي أمر ربِّه في كتابه الحاليّ -وكأنَّه هو اليوم يهوديٌّ مُؤمنٌ مُسلِم الوجه إلى الله كما كان اليهوديّ الذي كلَّمه الله-، ويُشجِّعه على استدعائه هذا كلُّ صاحب منفعة في وجود اليهود على هذه الأرض، وفي نفي المُسلمين من هذه الأرض.

وعلى هذا؛ كيف ينظر هذا اليهوديّ المُختار من الله إلى هؤلاء العبيد وهُم يحتلُّون أرضه التي وعده الله؟! لا تتعجَّبْ فاليهود حقًّا يقولون هذا القول في كلِّ مَحفَل، ويعتبروننا مُغتصِبِين لأرضهم، ويُعلِّمون أولادهم هذه العقيدة .. بل كيف يهدأ وهو يرى مساحةً كبيرةً من الأرض لا يحتلُّها المُسلمون وحسب، بل يُسمِّيها المُسلمون مسجدًا، يحاربون عليه بأرواحهم؛ وكيف يُجاريه المُسلمون -وهو يرى نفسه (ابن الله)- وقد خلقهم الله ليكونوا خدمه وتحت قدمَيْه؟!

ولا يكتفي اليهوديّ باستدعاء عقيدة ترسمها له كُتُبُه، بل إنَّه يرى فينا نحن صورة تلك الأُمم التي أمره الله باقتلاعها من الأرض المُقدَّسة، وبما أنَّ اليهود يعتقدون أنَّهم الشعب المُختار؛ فكلُّ شعب دونهم هو شعب غير مُختار. غير أنَّ الذاكرة الشعبيَّة تقرأ الكتاب وتُلبس المُسلمين الموجودين الآن لباس “الكنعانيِّين” -وهُم قوم من العرب كانوا أهل فلسطين، وتجبَّروا على أمر الله. وجاء اليهود بأمر الله ليمتلكوها من أولئك القوم القُدامى. وهذا اللباس في الصورة هو العنصر المفقود فيها؛ حيث يُمثِّل نصف الصورة الأخرى، فاليهود الآن لا بُدَّ وهُم يحاربون أنْ يُحاربوا عدوًّا لله؛ هُم نحن!

فكيف يأتي إلى هذه الأرض مُحتلاً وعليها أهلها؟! يجب أنْ يُشيطنهم في ذاكرة رعاياه، ويلبسهم لباس الكُفَّار القدامى الذين أمر الرَّبُّ بقتلهم وطرد الباقي منهم. وهؤلاء الآخرون -نحن في هذه الحالة- كانوا يرهبون اليهود قديمًا، ففي السِّفر نفسه، الإصحاح الخامس: “وعندما سمع جميع مُلُوك الأَمُورِيِّين الذين في عَبْر الأُردُنّ غربًا، وجميع مُلُوك الكنعانيِّينَ الذين على البحر أنَّ الرَّبَّ قد يبَّسَ مياه الأُردُنِّ من أمام بني إسرائيل حتى عبرنا؛ ذابتْ قلوبُهم، ولمْ تبقَ فيهم رُوحٌ بعدُ مِن جرَّاء بني إسرائيل”.

وانتبه أنَّ اليهود العُصاة اليوم الذين كفروا بنبيّ الله “عيسى”، ثمَّ من بعده “محمَّد” -عليهما السلام- ليسوا هُم عباد الله المَوعودينَ؛ لذا تراهُم خائفين مَذعورين من أقلّ كرٍّ وفرٍّ مع أطفال بيدهم حجارة أو إطارات سيَّارة! فلمَّا بدَّلوا الإيمانَ كُفرًا أبدل الله حالَهم خوفًا وذُعرًا. فها هُم يبنون حصنًا ودروعًا مضادة للصواريخ، وقُبَبًا حديديَّة في السماء، ويُقيمون المتاريس في كلّ مكان على الأرض، ويتسلحون بكُلّ الأسلحة، ويتدرَّعون بدرع ثقافيّ هائلة -إعلام الغرب يكاد يكون كاملاً-؛ ثمَّ ما لهم يصيحون صيحة الموت من أقلَّ صوت يسمعونه، ثمَّ يكتشفون أنَّه صوت إطار سيَّارة أحدهم قد انفجر؟! أليسوا على أرض الله التي وعدهم إيَّاها؟! أمْ أنَّ وعد الله قد تبدَّل بتبديل الحال؟!

ثمَّ ها هو اليهوديّ اليوم يستدعي ما فعله يهود أمس مع أهل هذه الأرض. وهذه بعض اقتباسات من السِّفر نفسِه في إصحاحه العاشر تُريْكُم كيف كان الأمر: “وحارَبَ لِبْنَةَ … فضربها بحدّ السيف، وكلَّ نفس بها. لمْ يُبْقِ شاردًا … ثمَّ اجتاز يشوع وكلُّ إسرائيل معه من لِبْنة إلى لَخِيشَ، ونزل عليها وحارَبَها … وضربها بحدّ السيف وكلَّ نفس بها حسب كلِّ ما فعله بلبنة … ثمَّ اجتاز يشوع وكلُّ إسرائيل معه من لَخِيشَ إلى عَجلُون فنزلوا عليها وحاربوها. وأخذوها في ذلك اليوم وضربوها بحدّ السيف، وحرَّمَ كلَّ نفس بها …”. وهكذا يرى اليهوديّ اليومَ ما يأمره كتابه -الحاليّ هو الآخر- به في تعامُله مع أهل المنطقة؛ من أنْ يُبيد كلَّ نفس فيها ولا يُبالي.

ولعلَّ هذا يفسِّر لك هذه الجُرأة النَّفسيَّة البالغة التي يمتلكها هؤلاء لقتل وسفك دماء العُزَّل غير المُحاربين. فإنَّ قتل النِّفس -بالحقّ أو بغير الحقّ- في الأصل فعل ذو رهبة بالغة على النفس البشريَّة، وتجاوُز تلك العقبة الهائلة لا بُدَّ له من مُحفِّز قويّ، يستطيع أنْ يُحيل هذا الفعل إلى أمر هيِّنٍ على النفس. وهنا أنوِّه إلى أنَّ كسر هذا الحدّ النفسيّ يُساعد النفس على قبول القتل؛ فمتى اعتاد الإنسان على القتل استَمرَأَه. فإذا أكلمنا لنشهد بقيَّة فعل بني إسرائيل بأهل البلاد فُوجِئْنا بفعلٍ صُوِّرَ كثيرًا من جُنُود الاحتلال؛ وهو دهس الرقاب والرؤوس بالأقدام.

يقول السِّفر في إصحاحه العاشر: “ولمَّا انتهى يشوع وبنو إسرائيل من ضربهم ضربةً عظيمةً جدًّا حتى فنوا … قال يشوع: افتحوا فم المَغارة، وأخرجوا إليَّ هؤلاء الخمسة المُلُوك من المغارة. ففعلوا كذلك؛ وأخرجوا إليه المُلُوك الخمسة من المغارة: مَلِك أورشليم، ومَلِك حَبْرُونَ، ومَلِك يَرْمُوتَ، ومَلِك لَخِيشَ، ومَلِك عَجْلُونَ. وكان لمَّا أخرجوا أولئك المُلُوك إلى يشوع؛ أنَّ يشوع دعا كلَّ رجال إسرائيل. وقال لقُوَّاد رجال الحرب الذين ساروا معه: تقدَّموا وضعُوا أرجُلَكم على أعناق هؤلاء المُلُوك. فتقدَّموا ووضعوا أرجُلهم على أعناقهم. فقال لهم يشوع: لا تخافوا، ولا ترتعبوا. تشدَّدوا وتشجَّعوا؛ لأنَّه هكذا يفعل الرَّبُّ بجميع أعدائكم الذين تحاربونهم. وضرَبَهُم يشوعُ بعد ذلك وقتَلَهم وعلَّقهم على خمس خَشَب، وبقوا مُعلَّقين على الخشب حتى المساء”.

فها هو يهوديّ اليوم يطابق فعل مَن قرأ عنهم، وها نحن نشهد كلَّ ما هو مكتوب في الكتاب الحاليّ معهم حاضرًا بين يدَيْنا. وإذا هالَك فعلُهُم بإخراج أهل القُرى منها، فها نحن نقرأ في الإصحاح الرابع العشرين، من السِّفر نفسه: “ثمَّ عبرتُم الأُردُنَّ، وأتيتُم إلى أريحا. فحارَبَكُم أصحاب أريحا: الأَمُورِيُّون… والكنعانيُّون… واليبوسيُّون، فدفعتُهم بيدكُم… وأعطيتُكم أرضًا لمْ تتعبوا عليها، ومُدُنًا لمْ تبنوها، وتسكنون فيها. ومن كُرُومٍ وزيتون لمْ تغرسوها تأكلون”.

وفي موضع آخر من الإصحاح الثالث والعشرين يقول: “قد قسَّمتُ لكُم بالقُرعة هؤلاء الشُّعوب الباقين مُلكًا حسب أسباطِكم … والرَّبُّ إلهُكم هو ينفيهم من أمامكم ويطرُدُهم من قُدَّامكُم؛ فتملكون أرضهم كما كلَّمَكم الرَّبُّ إلهُكم”.

ولعلَّ ما أتى سابقًا يُفسِّر لنا الكثير من أفعال اليهود وجرائمهم. ومن هُنا نرى أنَّ جُزءًا كبيرًا من تحرُّكنا يبدأ من الوعي الحقيقيّ الذي نقف عليه، من خلال معرفة الآخر ودراسته. ولا تريد هذه السُّطور أنْ تُعرِّفك هذه الكلمات لتهدأ، بل لتتحرَّك حركةً واعيةً مُتَّزنةً تعرف فيها مَن أمامك، وما دوافعه؛ لتدرك كيف تقاومه وتنصر عليه. وأنوِّه إلى أنَّ التفسير الدينيّ ليس كلَّ مناحي التفسير لهذه الظاهرة الاستعماريَّة التي نُعانيها منذ عقود شارفتْ على الثمانية، بل هي وجه واحد -وإنْ كان الوجه الأكبر في عمليَّة التحفيز الصُّهيونيّ- وهناك الكثير من المناحي الأخرى التي قد يأتي وقت إلقاء الضوء عليها.

لماذا عادت ديانة الويكا للحياة من جديد؟

هل رأيت امرأة في غابة تلوّح بعصا خشبية وتلقي تعاويذ ضمن دائرة من عدة أفراد يلقون على أنفسهم لقب السحرة؟.
إنه وصفٌ قد يبدو مأخوذاً من أفلام الخيال، أو من روايات الأساطير، لكنه شيء بسيط مما يحدث في عالم الويكا Wicca، وكلمة “الويكا” مشتقة من اللغة الإنجلوساكسونية القديمة Anglo-Saxon كانت تُلفظ ويتشا Wicce، وتعني تطويع الطبيعة وإعادة تشكيلها لتصبح في خدمة الإنسان، وهي حركة دينية جديدة تستند على الطقوس الوثنية القديمة من ممارسات السحر Witchcrafts، ظهرت في بريطانيا على يد جيرالد غاردنر Gerald Gardner (١٨٨٤-١٩٤٦) في النصف الأول من القرن العشرين، ويصنفها العلماء من الديانات الوثنية المعاصرة Neo-paganism، حيث تعتبر الويكا –تحديداً- من أكثرها انتشاراً في العالم، ففي بريطانيا مثلا يقال: إنك حين تمشي في الشارع فأنت محاطٌ دائماً بالسحرة، وذلك لسرعة انتشار هذه الديانة هناك بالرغم من سريتها.

اجتماع لساحرات في طائفة الويكا

اجتماع لساحرات في طائفة الويكا (مصدر الصورة: Wicca now)

جيرالد غاردنر
يقول الكاتب البريطاني فيليب هيسيلتون Philip Heselton والباحث في سيرة غاردنر إنه كان طفلاً لعائلة بريطانية ميسورة الحال في لانكشاير Lancashire، إلا أنه لم يكن طفلاً مرغوباً به فقد أوكله أبواه لمربيته في سن السادسة من عمره بسبب معاناته من الربو وأرسلاه معها إلى المستعمرات البريطانية في الشرق لإبعاده عن إخوته، لينشأ هناك ويُترك ليتعلم بمفرده، ونتيجة لذلك فقد تأثر بالطقوس الوثنية للقبائل التي سكن بجانبها، وأثارت إعجابه لا سيما تلك التي تتضمن السحر في معالجة المرضى والاستشفاء، حيث أمضى شبابه وحياته في ماليزيا، وهنا يضيف الكاتب فيليب قائلاً إن جيرالد فُتن بممارسات الديانات الوثنية التي عايشها في الشرق بالإضافة إلى اطلاعه على التنجيم والسحر الغربي، فقد أُعجب وتأثر بشخصية المحقق شيرلوك هولمز وكاتبها كونان دويل.

جيرالد غاردنر: المؤسس والأب الروحي للويكا

جيرالد غاردنر Gerald Gardner : المؤسس والأب الروحي للويكا

وكان مما أثّر فيه عندما عاد إلى بريطانيا متقاعداً الكثير من الجماعات السرية، بالأخص الماسونية التي جذبته بطابعها الباطني الذي كان يستحوذ على تفكير جيرالد، حيث إن المشترك بينه وبين الماسونية هو أن كلاهما يبحثان في بُعدٍ آخر، وهو البعد الذي يشمل الطقوس السحرية الممارسة ضمن الجماعة والمشابهة لتلك التي شهدها في الشرق.

والجدير بالذكر أنه كان للقَبَالاه اليهودية نصيب من الذكر في كتاب جيرالد “معنى السحر” The meaning of Witchcrafts حيث أشار إلى أن اليهود الذين تم إجلاؤهم من بريطانيا في عهد الملك إدوارد الأول، منهم من رحل ، ومنهم من عاش متخفياً بشكل سري في الأماكن المتطرفة من الأرياف والتي كان يقطنها السحرة، وأن القبالاه اليهودية تفاعلت معهم وانسجمت وحافظت على بذورها في بريطانيا منذ ذلك الحين.

يجادل غاردنر أيضاً بأن القبالاه كما الويكا تعبد إلهين أحدهما ذكرا والآخر أنثى، معتبرا أن نظرية الإله الواحد المذكر هي شيء جاء به الرجال لخدمة مصالحهم: فيقول “في هذه الأسفار نجد تطور أقانيم الله وصفاته.  ومنها ما هو مذكر ومنها ما هو مؤنث. ولسبب أو لآخر -يعرفه فقط مترجمو الكتاب المقدس- قاموا بعناية بإزالة وإلغاء كل إشارة إلى حقيقة أن الإله ذكوري وأنثوي”.[1]

انتقل غاردنر إلى هايكليف Highcliff في ١٩٣٨، وانتسب إلى نادٍ للتعري Nudist club، وكان يلتقي مع أصحابه في فنائه الخلفي ليقوموا بحفلات التعري، وكأنه تمكّن من نقل هذه العدوى لمحيطه من الجيران الذين وبحسب ديمغرافية المنطقة يُعتبرون من المقدّسين للطبيعة Naturalist وفنونها، فعُقدت حفلات العري والجنس الجماعي بشكل دوري في منزله، لكن هذا لم يرضِه تماماً وكان يبحث عن شيء أكبر، حيث نقل أنه في ليلة من عام ١٩٣٩ -حسب زعم غاردنر- تم عصب عينيه وأُخِذَ في منتصف الليل إلى غرفة مليئة بالسحرة ووُضع ضمن دائرة وأُعطي حينها الأسرار السحرية القديمة وذُكرت كلمة ويكا، ومنذ تلك الليلة كرس الرجل حياته لتأسيس ورسم ملامح هذه الديانة الجديدة.

معتقدات ديانة الويكا
يكرر أتباع ديانة الويكا في كل محفل ويؤكدون أنهم ليسوا عبيداً للشيطان أو إبليس، وأنهم لا يؤمنون أساساً بقصة الخلق التي تتفق عليها الديانات الثلاث من حيث خلق الله للإنسان والملائكة والشيطان، وأن هذا الأخير قد عصاه فطُرد من الجنة، ويزعمون أن الويكا هي إحياء للوثنيات التي آمن بها القدماء قبل فرض المسيحية.

والغريب في هذه المزاعم أن ما يعبدونه هو عبارة عن إلهين ذكر وأنثى، يتمثل الإله الذكر على هيئة كائن بقرنين ويسمونه the horn god الإله صاحب القرنين أو السيّد the lord، وهذه كما نعلم من صفات إبليس.

الإله الذكر صاحب القرنين (المصدر ويكيبيديا)

الإله الذكر صاحب القرنين The horned God (المصدر ويكيبيديا)

السيّد والسيّدة (المصدر ويكيبيديا)

السيّد والسيّدة The lord and the lady (المصدر ويكيبيديا)

أما الإلهة المؤنثة فيطلقون عليها اسم السيّدة the lady، ومنهم من يؤمن بآلهة متعددة ذات صلة بالطبيعة والقوى الطبيعية.

والبعض يؤمن بإله واحد هو الإلهة الأنثى، أو إله واحد يأتمر بأمره السيّد والسيّدة، كما يذهب البعض لعدم ضرورة الإيمان بأي غيبيات أو آلهة، وهذا التناقض يفسرونه بأنه أحد أهم قواعد الويكا، فهي دين انتقائي، وعليه فلا وجود لثوابت، وحتى إن وُجدت فهناك استثناء لكل شيء.

يحل الإيمان بتناسخ الأرواح عندهم محل الإيمان بالآخرة، ومن يكون ساحراً فسيعود للحياة ساحراً، Once a witch always a witch، كما يؤمنون بمبدأ الكارما، وبناءً عليه تؤثّر قراراتهم في حياتهم الحالية على مصيرهم ومستقبلهم في الحياة القادمة.

ينظّم السحرة في الويكا أنفسهم على شكل جماعات Wiccan covens من ١٣ شخصا يرأسهم راهب أو راهبة، وتكون معابدهم الغابات والحدائق مع مراعاة السرية التامة وعدم جذب انتباه الغرباء.

انقسم سحرة الويكا مع الزمن إلى مجموعات كثيرة أهمها:

  • الغاردنريون Gardnerians: نسبة إلى غاردنر، ويُعتبرون الأكثر تقليدية من بين الجماعات، حيث يحرصون على الاحتفاظ بقدسية التعاليم والطقوس القديمة التي دوّنها غاردنر في كتبه، وأهمها كتاب الظلال the book of shadows والذي يعد كتاب الوصفات السحرية، ويتناقلونه رسماً باليد، حيث يعيد كل ساحر كتابة نسخته بخط يده، مع المحافظة على السرية في كل الطقوس.
نماذج من كتاب الظلال  (المصدرعن صفحة دورين فالينيت)

نماذج من كتاب الظلال  (المصدرعن صفحة دورين فالينيت  Doreen Valiente fondation)

  • الإلكسندريون Alexandrians: نسبة إلى الساحر Alex Sanders الذي يختلف بمنهجه عن الجماعة الأولى بخروجه عن تقديس تعاليم غاردنر والاستغناء عن طقوس التعري.
  • سحرة ديانا Dianic: نسبة إلى الساحرة والنسوية الهنغارية الأمريكية جوجانا بودابست Zsuzsanna Budapest التي بنت أسس هذه الجماعة متأثرةً بالحركة النسوية فلا يعبدون إلا آلهة أنثوية، واعتراضاً على النظام البطريركي (سُلطة الأب) يختارون راهبةً لترأسهم.

جوجانا بودابست

وهناك جماعات صغيرة أخرى من السحرة، كما يوجد خارج إطار الجماعة الكثير من السحرة الأفراد الذي لا يعدون أنفسهم مع أي جماعة، ومنهجيتهم الانتقاد والانتقاء لتتشكّل عقيدتهم حسب هواهم وبما يتناسب مع فردية كل واحد منهم customized religion.

تجدر الإشارة إلى أنّ السحر والسحرة أحد أبرز موضات العصر الدارجة في الغرب، الذي كان فقط قبل قرون قليلة يعاقب بالحرق كل من تُشار إليه الأصابع بتهمة ساحر، كما تُعتبر الويكا ديناً رسميّاً في أمريكا وكندا وغيرهما، إضافة إلى ذلك يروّج أن السحر الأبيض يعين على الشفاء والاسترخاء والحماية والاتصال بالطبيعة وحمايتها.

فإلى أي مدى يصحّ هذا الادّعاء، وعلى أي أساس تقوم طقوس الويكا وأعيادها، ولماذا تروج هوليود بشكل كبير لهذا الدين مؤخراً؟ هذا ما سنبحثه في المقال القادم بإذن الله.


المصادر والهوامش:

https://wicca.com/wicca/what-is-wicca.html

https://youtu.be/r-ho5EWz4O0

https://youtu.be/zoUlbK4Ob3Y

https://youtu.be/WcACIFBvheE

https://youtu.be/M56-6XA3h2M

The meaning of Witchcrafts by Gerald Gardner

[1]  معنى السحر، جيرالد غاردنر، ص: ٢٩

سليمان عليه السلام.. بين القرآن الكريم والعهد القديم

ذُكِر نسب سليمان في العهد القديم وإنجيل متَّى بأنَّه سليمان بن داوود بن يسِّي بن عوبيد بن بوعزا بن سلمون بن نحشون بن عمِّيناداب بن آرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم [سفر أخبار الأيام الأول: 2/1، إنجيل متى: 1/3].

يعتقد المسلمون أن سليمان عليه السلام نبيٌّ من أنبياء الله المعصومين المرسلين إلى بني إسرائيل، وأنه ابن داوود النَّبي عليهما الصلاة والسلام، وقد ذكرهما القرآن الكريم في جملة الأنبياء المذكورين فيه.

وجاء ذكر سليمان في القرآن في جملة رسل الله في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء:163].

في المقابل، تأتي سيرة سليمان في العهد القديم في سفر الملوك الأول، ثم نجدها في سفر أخبار الأيام الثاني من الإصحاح الأول إلى التاسع، وقد اكتنف هذه السيرة الكثير من التناقضات والاتهامات الباطلة لنبيِّ الله سليمان.

ويذكر العهد القديم سليمان على أنه مَلِك من ملوك بني إسرائيل الحكماء الذين ازدهرت أحوال بني إسرائيل في عهده وليس نبيَّاً، وقد حاز الملك بعد موت أبيه داوود.

جاء في العهد القديم: “وكان الملك سليمان ملكا على جميع إسرائيل” [سفر الملوك الأول: 4/1]، وجاء في مكان آخر: “وكان الزمان الذي ملك فيه داود على إسرائيل أربعين سنة في حبرون (الخليل) ملك سبع سنين وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة وجلس سليمان على كرسي داود أبيه وتثبت ملكه جداً” [سفر الملوك الأول: 2/11].

مجسم لهيكل سليمان المزعوم

حياة سليمان
لم ينقل إلينا في القرآن الكريم حديثاً عن زوجات سيِّدنا سليمان عليه السلام وذلك لأنَّها لا تأتي لنا بأيَّة فائدة ، أمَّا في العهد القديم فالنِّساء اللَّاتي تزوجهن سليمان كما ينقل العهد القديم بلغن ألفاً، سبع مئة من السّيدات وثلاث مئة من السَّراري، ما عدا النِّساء اللَّواتي أحبَّهن سليمان في آخر حياته. [سفر الملوك الأول: 11/ 1 ـ 5].

وكان من اللَّواتي تزوَّجهنَّ سليمان حسب هذه الرواية ابنة فرعون مصر، وبنى لها بيتاً من الحجارة الكريمة.[سفر الملوك الأول: 3/1].

كما جاء في العهد القديم وصف عجيب لطعام سليمان في اليوم الواحد، فصوَّره في صورة شخص نهم جشع، وهي صورة لا تليق بعوام النَّاس فضلاً عن ملك يعتبرونه من أعظم ملوك بني إسرائيل، الذي نصر ووطَّد ملكهم على باقي الأمم، فجاء في سفر الملوك الأول: “وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كر سميد وستين كـر دقيـق* وعشرة ثيران مسمنة وعشرين ثوراً من المراعي ومئة خروف ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن* وكان متسلطاً على كل ما عبر النهر من تفسح إلى غزة على كل ملوك عبر النـهر وكان له صلح من جميع جوانبه حواليه” [سفر الملوك الأول: 4/ 22ـ 24].

أما القرآن الكريم فقدّم لنا سليمان في صورة مثالية للمَلِك العظيم والزاهد في آن واحد، فيقول {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 30- 33]، حيث قال المفسرون إن خيولا جميلة عُرضت عليه في وقت العصر فانشغل بها حتى توارت الشمس وفات وقت الصلاة، فندم على ذلك وأخذ يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حباً لها -حسب تأويل ابن عباس- ثم سأل الله أن يمنحه مُلكاً عظيماً ليسخره في الخير، فتقول الآيات: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 34- 40]، فالآيات تؤكد أنه بالرغم من كل ما أوتي من المُلك فإنه لم يُفتن به، حيث كان الملك الوحيد الذي سُخر له الإنس والجن والحيوانات وقوى الطبيعة (الرياح).

صورة سليمان في العقلية الغربية صارت مرتبطة بالطغيان حصرا

أمثاله وحكمته
نقل العهد القديم الأمثال التي كان يلقيها سليمان، وهذا يعكس الحكمة التي كان قد أعطاها الرب لسليمان، والمتأمِّل لهذه الأمثال المنسوبة إلى سليمان  يجد شيئاً من الحق إلى جانب الكثير من الباطل والبهتان، ويحوي سفر الأمثال مقدِّمة في امتداح العقل والحكمة والتَّحذير من أنواع الرذائل، وفيه مجموعة من الأمثال المنسوبة لسليمان عليه السلام، وفيها أمثال تدلُّ على أنها كتبت بعد سليمان بعدَّة قرون لأن فيها إشارة إلى السَّبي البابلي ويدلُّ على ذلك أن هذه المجموعة تبدأ بقوله: “هذه أيضاً أمثال سليمان التي نقلها رجال حزقيا ملك يهوذا”، وحزقيا عاش بعد سليمان بأكثر من ثلاثة قرون.

ويذكر بعض العلماء أن الذين كتبوا سفر الأمثال تأثَّروا تأثراً كبيراً بكتاب “30 فصلاً في الحكمة” لأمنموبي المصري، وقد عقد كل من هوغو غرسمان وآرمان وجيمس برستد مقارنة بين هذين الكتابين وانتهوا إلى القول بأن أفكار أمنموبي المصري سُرِقت وظهرت في ثوب جديد في سفر الأمثال، بينما يرى البعض الآخر من الباحثين أن هذا بعيداً شيئاً ما، وذلك لأن أمثال الشُّعوب قد تتشابه في كثير منها.

وقد خصص كتبة العهد القديم “سفر الجامعة” للكلام عن سليمان الحكيم الذي ييأس من الحكمة، ويظهر فيه الكثير من التشاؤم، فقد جاء في أوَّل إصحاحٍ من هذا السِّفر: “باطل الأباطيل قال الجامعة باطل الأباطيل الكل باطل* ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس* دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد* والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق* الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال تذهب دائرة دورانا وإلى مداراتها ترجع الريح* كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة*” [سفر الجامعة: 1/7]، ثم يصور سفر الجامعة سليمان وهو يلهو ويفرح ويشرب الخمر.

في المقابل، تكلم القرآن الكريم عن حكمة سليمان عليه السلام، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].

وفي العهد القديم نجد سفر الحكمة، وقد نسب ما فيه إلى سليمان عليه السلام، ويتألَّف ما حفظ منه من تسعة عشر إصحاحاً.

وأوضح علماء الكتاب المقدَّس -في اعتراف له تداعياته الخطيرة- أن سليمان ليس له ضلع فيه، كما أنه ليس له ضلع فيما نُسب إليه في بقيَّة الأسفار، فالسِّفر عبارة عن مذكرات شاعر روحاني أخذ ينقل من التقاليد الإسرائيليَّة واليونانيَّة القديمة، فيقولون في مقدِّمتهم لسفر الحكمة: “إنَّ كتابات سليمان فُقد منها الكثير، فقد ذُكر عنه في سفر الملوك الأوَّل أنَّ الله أعطاه حكمة وفهمًا كثيرًا ورحبة قلب كالرمل الذي على شاطيء البحر، بمعنى أنه كان له الكثير من أقوال الحكمة، وقد قيل عن سليمان أيضًا أنَّه تكلَّم بثلاثة آلاف مثل وكانت نشائده ألفًا وخمسًا، وتكلَّم عن البهائم وعن الطَّير وعن الدَّبيب وعن السَّمك، فأين كل هذه الأمثال والنَّشائد والكتابات؟”.

الفنان بيتر روبنس من القرن السابع عشر تخيل النبي سليمان في صورة طاغية

الأنشاد والفجور
سفر نشيد الأنشاد هو السِّفر الرَّابع من الأسفار التي ينسبها اليهود لسليمان، وهو سفرٌ يتَّخذه اليهود في الأعياد والمناسبات الدينيَّة وفي أماكن عبادتهم، وهو شعر غزلي جنسيٌّ غليظ، ليس بينه وبين الدِّين أية علاقة، بل يمثِّل سياسة أحبار اليهود نحو الجنس، فلفرط حبهم للنِّساء والزِّنى جعلوا الأنبياء زناة، بل أكثر من ذلك.

يبدأ هذا السِّفر بذكر الحبِّ والخمر فيقول:

  • ليقبِّلني بقبلات فمه لأنَّ حبَّك أطيب من الخمر.
  • لَرائحة إدِّهانك الطَّيبة اسمك دهن مهراق لذلك أحبتك العذارى.
  • أنا سوداءٌ و جميلةٌ يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان [نشيد الأنشاد: 1/1ـ 4].

ثمَّ ينتقل إلى وصف حبيبته فيقول:

  • ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة.
  • عيناكِ حمامتانِ من تحت نقابك.
  • شعركِ كقطيع معزٍ رابضٍ على جبل جلعاد.
  • شفتاكِ كسلكة من القرمز وفمك حلو خدك كفلقة رمانة تحت نقابك.
  • عنقكِ كبرج داود المبني للأسلحة ألف مجن علق عليه كلّها الجبابرة.
  • ثدياكِ كخشفتي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن.
  • كلّكِ جميلٌ يا حبيبتي ليس فيك عيبة [نشيد الأنشاد: 4/1ـ 7].

ثم يوغل في الغزل (بل بالفحش) قائلاً:

  • دوائرُ فخذيك مثل الحلي صنعة يدي صناع.
  • سرّتُكِ كأس مدوّرة لا يعوزها شراب ممزوج.
  • بطنكِ صبرة حنطة مسيجة بالسوسن.
  • ثدياكِ كخشفتين توأمي ظبية. [نشيدالأنشاد: 7/1ـ 6].

وفاة سليمان
ذكر القرآن الكريم قصة وفاة سليمان عليه السلام في قوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمـَّا خـَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجنُّ أَنْ لَـوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} ]سبأ:14[.

وروي أنَّه كان متَّكئاً على عصاه حين وافاه أجله، والجن تروح وتجيء مسخَّرة فيما كلَّفها إيَّاه من عمل شاقٍّ شديد؛ فلم تدرك أنَّه مات حتى جاءت دابَّة الأرض، وقيل هي حشرة الأرَضة، فلمَّا نخرت عصا سليمان لم تحمله فخرَّ على الأرض، وحينئذ فقط علمت الجن موته و{تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} [سبأ: 14]، أي ما واصلوا انهماكهم في العمل الشاق الذي سخرهم فيه وهم يحسبون أنه يراقبهم بينما كان عليه السلام في الحقيقة قد مات. ولم يذكر العهد القديم طريقة موت هذا النَّبي الحكيم.


أهم المراجع:

العهد القديم والجديد.

تفسير الكتاب المقدس، جماعة من اللاهوتيين برئاسة فرنس دافدس، منشورات النفير، بيروت، لبنان، ط: الثانية ، 1989م.

التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، تعريب شركة ماستر ميديا، القاهرة، د/بيانات.

الله والأنبياء في التوراة والعهد القديم، محمد علي البار، الدار الشامية، بيروت، ط: 1.

ثم يقولون هو من عند الله، محمود سعد مهران، منتدى الجامع للحوار الإسلامي المسيحي، د/ط.

انتكاسة نحو الماضي.. الوثنية تعود للغرب من باب اليمين والقومية

 

توصف حركات “الوثنية الحديثة” بأنها أحد أبرز التيارات الدينية في الغرب خلال العقود الأخيرة، وقد رأى بعض الباحثين صعودها بمثابة تحول طبيعي في ضوء تغول العلمانية ونبذ المنظومة المسيحية التقليدية.

ويطلق مصطلح الوثنية الحديثة أو الوثنيين الجدد لوصف العديد من الحركات والمجموعات التي أحيت عبادة الأوثان أو اتخذت طقوسا وثنية حديثة في أوروبا وروسيا والولايات المتحدة.

لكن هذه الفرق تتمايز في معتقداتها وتوجهاتها، فقد نشأ بعضها من مزج ممارسات وثنية قديمة مع أفكار وفلسفات حديثة، بينما سعى بعضها لإحياء ماضي أوروبا الوثني قبل المسيحية بكل ما فيه من طقوس وأساطير.

ونظرا لتشعب مذاهب الوثنيين الجدد واختلاف مشاربهم، صار من الصعب رصد نمو حركتهم، ودراستهم باعتبارهم ظاهرة واحدة. وثمة من يرى أنه لا ينبغي التعامل معهم كتيار فاعل ومؤثر في الغرب، لا سيما مع ابتعاده عن السياسة الحزبية في أغلب الحالات.

غير أن أعداد الوثنيين الجدد تتنامى في السنوات الأخيرة، وتقدر بمئات الآلاف في بلدان مختلفة، وتنظم الحركات الوثنية نفسها في مؤسسات مسجلة، كما نشرت عنها كتب وأبحاث عديدة.

ففي الولايات المتحدة تنمو جماعة “ويكا”، وهي إحدى الفرق الوثنية التي تدور ممارساتها حول السحر والتنجيم والاعتقاد في القوى الخارقة. ويقدر عدد من يعرفون أنفسهم بأنهم من أتباع الويكا أو من الوثنيين بنحو 1.5 مليون أميركي وفقا لمسح أجراه مركز “بيو” عام 2014، وذلك مقارنة بنحو 700 ألف فقط قبل عشر سنوات.

وفي بريطانيا يوجد نحو 70 ألف شخص يعرفون أنفسهم بأنهم وثنيون أو ممارسون للويكا، وفقا للإحصاء السكاني الرسمي الذي أجري عام 2011.

وفي آيسلندا، تفيد تقارير بأن الوثنية الإسكندنافية تعود بقوة، وأنها الآن “أسرع الديانات نموا في البلاد”، ويجري حاليا بناء معبد للوثنيين في أطراف العاصمة ريكيافيك، سيكون الأول من نوعه في آيسلندا خلال ألف سنة، لتقديس آلهة شعب الفايكينغ: أودن، وثور، ولوكي.

وفي الدانمارك أتم الوثنيون بناء معبد للإله أودين عام 2016، وذلك لأول مرة خلال ألف سنة.

الآلهة الجرمانية يعاد إحياء أساطيرها في أوروبا

الوثنية السلافية
وفي روسيا، توجد قرابة عشر منظمات رسمية تمثل الوثنيين، مع صعود ما يعرف بالوثنية السلافية الحديثة أو “رودنوفري” التي تعني “الملة السلافية الأصلية”.

وكان لهذه العودة الوثنية السلافية تأثير خاص لأنها متصلة بالنزعة القومية عند الشعوب ذات الأصول السلافية (الصقالبة)، التي تشمل الروسيين والأوكرانيين والبيلاروسيين والبولنديين والتشيكيين والبوسنيين والصرب والبلغار وغيرهم.

وفي بولندا، تثير الردة الوثنية حيرة وتساؤلا في بلد طالما افتخر بتقاليده المسيحية العريقة. وصارت للوثنيين منظمة كبيرة مسجلة تضم آلاف الأعضاء في بلد يشكل الكاثوليك فيه أكثر من 87% من مجموع السكان.

ويرى مسيحيون أوروبيون وأميركيون أن الوثنية الحديثة ليست إلا وجها آخر من وجوه المادية الغربية التي تنبذ الدين وترفض أي دور له في حياة الإنسان، وأنها إنما تقتبس من الماضي الأوروبي الأسطوري وطقوسه الغامضة في سبيل تلبية الحاجات الروحية وسد الفراغ الوجداني لدى الأجيال الجديدة في الغرب.

لكن الوثنيين الجدد بوجه عام يرون أن حركتهم هي سعي للوصول إلى حياة متناغمة مع الطبيعة وقواها، وعودة إلى التراث الأوروبي الذي ساهم في تشكيل الحضارة الغربية ومنح الثقة لإنسانها.

احتفال شعائري لإحدى جماعات الويكا في الولايات المتحدة (Wiki/Ycco)

زواج مع القومية والعنصرية
ومع أن الانطباع السائد لدى الغربيين المعاصرين عن هذه الوثنية الحديثة بأنها حركة متحررة مسالمة تستلهم التمرد الشبابي اليساري الذي ميز سنوات الستينيات، فإنها ليست كذلك في كل الحالات كما يؤكد الباحث إيثان دويل وايت من كلية لندن الجامعية.

يقول وايت إن العديد من فرق الوثنية الحديثة -وخاصة في وسط أوروبا وشرقها- هي مجموعات محافظة إلى حد بعيد، بل ورجعية في رؤاها الاجتماعية. ويوضح أن هذه المجموعات ترى في إحياء عبادة الآلهة السابقة للمسيحية تأكيدا على هويتها العرقية والقومية في خضم عولمة العصر الحديث.

وفي كتابها “الوثنية والتراث والقومية” تقول الباحثة كارينا أيتامورتو إن حركة الرودنوفري في روسيا -وهي من أبرز المجموعات الوثنية التي ارتبط اسمها بالتطرف القومي- ترسم صورة أمة عاشت في رخاء حتى بدأت تتجاهل تراثها وقيمها وتقلد نماذج أجنبية مثل المسيحية والشيوعية، وهو ما قضى على اعتزاز الأمة بنفسها وفقا للوثنيين الروس.

والحل عندهم كما تقول أيتامورتو هو العودة إلى الديانة الأصيلة للسلاف أو الروس حتى يشعر الشعب بذاته ويستعيد توازنه.

وفي الولايات المتحدة أيضا توجد حركات وثنية عنصرية قلما تأتي في صدارة الأخبار، لكنها برزت في أحداث تشارلوتسفيل بولاية فرجينيا في أغسطس/آب 2017، حين نظم العنصريون البيض والقوميون المتطرفون مسيرة تحت شعار “توحيد اليمين”.

وشارك في تلك المسيرة -التي قتل أحد العنصريين فيها ناشطة من مجموعة مناهضة للعنصرية دهسا بسيارته- الوثني البارز ستيفن مكنالن مؤسس “جمعية أساترو الشعبية”. ومن بين المشاركين أيضا السياسي الوثني الطموح أغسطس سول إنفيكتوس.

وتقول الكاتبة سارة ليونز في مقال بموقع “فايس” إنه “بالنسبة للعالم الخارجي قد يبدو ربط اليمين المتطرف بالآلهة القديمة والسحر أمرا سخيفا، لكنه مرتبط في الواقع بأفعال محددة من العنف والإرهاب”.

وأضافت في مقالها المنشور في أبريل/نيسان 2018 أن عضوا في مجموعة وثنية عنصرية أميركية بولاية فرجينيا تسمى “ذئاب فنلاند” قضى أكثر من عامين في السجن لأنه أحرق كنيسة للسود عام 2012.

 

المعمدانية.. الكنيسة التي تعتبر بابا الكاثوليك دجالا!

ربما يفاجأ معظم المسلمين إذا عرفوا أن الكثير من الكنائس المسيحية يكفّر بعضها بعضاً، وأن التاريخ المسيحي شهد حروباً عنيفة أيضا بين أتباع الكنائس المختلفة، بدءا بما يسمى “الانشقاق الكبير” الذي أسفر عن كنيسة كاثوليكية وأخرى أرثوذكسية عام 1054م، ثم انشقاق البروتستانت عن الكاثوليك في القرن السادس عشر، ووصولا إلى انشقاقات لا تحصى عن البروتستانتية نفسها، والتي لم يكتف بعضها بتكفير الكاثوليك، حيث ترى الكنيسة المعمدانية أن بابا الكاثوليك هو عدو المسيح (الدجال) نفسه.

جون سميث

تعود بداية المعمدانية إلى عام 1609 عندما نظمها جون سميث في إنكلترا، وكانت البداية برفضها معمودية الأطفال لعدم أهليتهم، فقالت إنه لا بد من تمتع المسيحي بحرية الاعتقاد عندما يصبح بالغا وأن يتعمد بالتغطيس الكامل.

نادت المعمدانية أيضا بفصل الكنيسة عن الدولة، واستقلال الكنائس المحلية، وتفسير الكتاب المقدّس تفسيرًا حرفيًّا، وأنكر بعضهم لاهوت المسيح، وتمسك بعضهم الآخر بمذهب وحدة الوجود.

ومن اللافت أنهم يعتبرون نشأتهم تعود إلى العهد الجديد من الكتاب المقدس، وذلك بعدما ترجم “وليم تندال” الكتاب المقدس من اللاتينية إلى اللغة الإنكليزية ونشرها عام 1526 في إنكلترا، فظهرت بذلك الكنائس الإصلاحية البروتستانتية، ومنها المعمدانية، عندما اكتشف العوام وصغار الكهنة تناقضات الكاثوليكية وخفايا وأخطاء الكتاب المقدس التي كان يخفيها كبار رجال الفاتيكان عن الناس.

يرفض المعمدانيون الكثير من مظاهر التبعية لرجال الدين، ويعتبرون دفع العشور أمرا إلهيا، وأن الأسرار المقدسة بدعة لم يثبتها الإنجيل، ويرفضون الاعتراف للكاهن والصلاة للقدّيسين.

أما بابا الفاتيكان فيعتبرونه عدوا، إذ تقول وثيقة “إقرار الإيمان المعمداني” في الفصل السادس والعشرين: “لا يمكن أن يكون بابا روما بأي شكل هو رأس الكنيسة، وإنما هو عدو المسيح، وإنسان الخطيئة، وابن الهلاك الذي يمجد نفسه في الكنيسة بمواجهة المسيح”.

ويقول القس المعمداني وديع ميخائيل في كتابة “سلطان الكنيسة.. أين”: “لا توجد خلافة للرسل. يقول الأسقف رايل فقد كان لهم (للرسل) موهبة إعلان الإنجيل بدون أخطاء، وبدقة معصومة إلى الحد الذي لم يأت أحد بعدهم ليعمل ما عملوه، في هذا الصدد وبكل الدقة لا يوجد شيء اسمه الخلافة الرسولية” [ص27].

الفاتيكان

يهاجم المعمدانيون أيضا الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الذي أسس المسيحية في شكلها الحالي، فيقول ج.م كارول في كتابه تاريخ الكنيسة المعمدانية “تحت قيادة الامبراطور قسطنطين جاءت فترة مهادنة وتودد بغرض الزواج، إذ سعت الإمبراطورية الرومانية في شخص إمبراطورها قسطنطين إلى الاقتران بالمسيحية أو قالت وقتئذ قولها أعطونا من قوتكم الروحية ونحن نعطيكم من قوتنا الدنيوية.. وفي سنة 313م وجه نداء إلى جميع الكنائس المسيحية أو ممثليها يجتمعون معًا، وحضر المجمع كثير من الكنائس وتم الاتحاد وتكونت حكومة الكهنة، وبتكوين هذه السلطة الكهنوتية أنزل المسيح عن العرش بصفته رئيسًا للكنائس وتوج الإمبراطور قسطنطين كرأس للكنيسة” [تاريخ الكنيسة المعمدانية، ترجمة هارفي لبيب ميخائيل، ص 44].

ويقول أيضا “إن الكنيسة الزانية التي أقرنت بالحكومة سنة 313م في أيام الإمبراطور قسطنطين الأكبر أصبحت الآن رأس البيت، وهي الآن تملي السياسة على حكومة البلاد” [ص 73].

ومن عقائد هذه الطائفة إنكار حدوث المعجزات على أيدي القديسين، ويقولون إن المعجزات انتهت بانتهاء عصر الرسل وأي معجزات تحدث اليوم فمصدرها هو الشيطان.

انتشرت المعمدانية في القارة الأميركية الجديدة عندما هرب الكثير من البروتستانت من إنجلترا إلى العالم الجديد في القرن السابع عشر، ثم تأسست عدة كنائس معمدانية في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

تعد هذه الكنيسة اليوم صاحبة نفوذ قوي في أميركا، فهي تملك دور نشر ومؤسسات تربوية وإعلامية ومستشفيات وملاجئ للأيتام ودورا للعجزة، ولها نشاط تبشيري عالمي.

ومع أن هذه الطائفة المنشقة حملت أفكارا ثورية وإصلاحية، فقد تفرقت أيضا أحزابا ومذاهب عدة، وصارت هناك كنائس معمدانية كثيرة ومتعددة، بل ومتناحرة أحيانا.

ومنذ ثمانينات القرن العشرين، هناك جهود كبيرة تبذل لإجراء حوار بين المعمدانية والفاتيكان، وفي 2007 أجرى البابا بيندكت السادس عشر سلسلة لقاءات مع زعماء المعمدانية، كما صرح رئيس الجمعية العالمية المعمدانية جون أبتون عند استقالة البابا في 2013 بأنه يقدر الحفاوة التي وجدوها في الفاتيكان. وهذا يعني أن البابا لم يعد في رأيهم -المعلن على الأقل- بمثابة الدجال!

عرض كتاب “الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”

الكتاب عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها الدكتور محمد عبد الله دراز على طلبة كلية الآداب في خمسينيات القرن الماضي، في جامعة القاهرة التي كانت تسمى جامعة فؤاد الأول.

يبدأ المؤلف مقدمة كتابه بتمهيدٍ رَسَم من خلاله خريطة تاريخية عن مكانة الدين في الحضارات القديمة في مصر واليونان وبلاد الرومان، ثم في العصر المسيحي، والعصر الإسلامي، وانتهى إلى العصر الحديث، وأسهب في شرح حال الدين في مختلف هذه العصور والمراحل، وأشار لقضايا الشك والتسامح في هذه الحِقَب.

والحقيقة أن ثمة مشكلة منهجية يقع بها الكثير من دارسي الأديان، ذلك أنهم لا يعرِّفون الدين فتراهم يخلطون بين ما هو دين، وبين ما هو خرافة أو فلسفة أو عادة اجتماعية أو تقليد قبلي.

لذلك أصر دراز رحمه الله في البحث الأول على تجلية هذا المفهوم تجنباً للخلط، وأراد أن يتحدث عن الدين بمفهومه العام لا الأديان السماوية فقط، ولا الأديان الصحيحة فقط، وإنما ظاهرة الدين بحد ذاتها أياً كانت، وحاول فهم الأمر ابتداء من اللغة ومعاجمها، وانتهى إلى خلاصة لغوية في معان متقاربة، ويدور بعضها حول بعض، بعد ذلك طاف على تعريفات الكثير من الفلاسفة والمفكرين وتناولها بالنقد والتمحيص الذي أظهر من خلاله أن ثمة قصوراً في الكثير من هذه التعريفات.

واستطاع المؤلف في نهاية تطوافه وبحثه أن يصل إلى تعريف يرتضيه وهو:

“الاعتقاد بوجود ذات -أو ذوات- غيبية علوية، لها شعور واختيار، وتصرُّف وتدبير في الشؤون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث الإنسان إلى مناجاة هذه الذات، رغبةً ورهبةً في خضوعٍ وتمجيد”.

وناقش قضية الألوهية في الأديان، واستحالة استبعادها من أي دين، وفرَّق بين تقديس الإنسان للإله، وتقديسه لشيء آخر كتقديس العرض أو الشرف مثلاً، وبين أنه لا يمكن للدين أن يقف عند الحس، ويمتنع عن التفكير في ما وراء الطبيعة، لذلك يعيش المتدين حالة من الثقة بمعبوده، ولا يقف عند العادة الجارية كما يفكر الطبيعيون، ففي الأديان نزعة إلى الأمل والحرية والاختيار، وهذه النزعة تمهد للعلوم لتتقدم وتفكر أكثر من حدود الواقع.

ويعيب دراز على بعض العلماء الغربيين الذين يحذفون الروحية والألوهية من فكرة الدين، بأنهم يحذفون الأساس المميز للدين، والذي يعني أن ما يسمى ديناً عند هؤلاء بعد سحب هذين العنصرين منه يمكن أن ينطبق على أي نشاط اجتماعي، لا سيما إن كانت عادات متوارثة، كرفع الأعلام في الأعياد، وأناشيد السلام الوطني، ولبس السواد في الحداد وغير ذلك.

وذهب في البحث الثاني للحديث عن علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب (الدين والأخلاق، الدين والفلسفة، الدين وسائر العلوم)، فذكر أولاً علاقة الدين بالأخلاق وتناولها من ناحيتين، الأولى “التجريدية”، وخلص فيها الى أن الدين والأخلاق في أصلهما حقيقتان منفصلتان في النزعة والموضوع، متلاقيتان في النهاية، فينظر كل منهما للآخر من وجهة نظر مختلفة من جهة، متفقة من جهات أخرى، فالنظر للدين من حيث هو نظرة للحق الأعلى وتوقيره، والخلق من حيث هو قوة النزوع إلى الخير وضبط النفس عن الهوى.

والناحية الثانية هي”الواقعية”، والتي لم ير فيها تشابها أو علاقة وثيقة بين كل من الدين والأخلاق لا من حيث المنشأ ولا التكون والتطور في النفوس، بيد أن الشعور الأخلاقي عند الطفل مثلاً سابق للشعور الديني، لذلك فهو يستحسن بعض السلوكيات ويستهجن أخرى، بينما لا يتفطن إلى تعليل ظواهر الكون وتقديس سر الوجود إلا بعد دور ثان يكون فيه أنمى عقلاً، وقد لا تستقى القوانين الأخلاقية من وحي الدين، وإنما من قوانين العقل، أو وحي الضمير، أو سلطان المجتمع، أو المصالح والمنافع كما تفعل بعض الدول، فهي تسن القوانين الأخلاقية دون العودة للدين.

أما في المحاورة العصرية فيرى أن الدين والخلق، متداخلان تارة ومستقلان تارة أخرى، ويمثِّل لذلك بقولنا فلان ذو دين وخلق، واختلاف الدلالة فيما لو قيل ذو دين فقط، أو ذو خلق فقط.

وذكر بعد ذلك علاقة الدين بالفلسفة، ورأى علاقة أوثق بينهما، فكلاهما يبحثان الغاية نفسها: معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة السبيل إلى سعادة الإنسان العاجلة أو الآجلة. ولكن بالرغم من أن غاية كل من الدين والفلسفة واحدة في هذا المجال الا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن يتفقا في النتيجة، ويشير إلى الاختلاف في الفلسفة نفسها، وصولاً للتعارض والتضارب بين الفلاسفة أنفسهم، ويستعرض تفريق علماء الغرب بين الدين والفلسفة، ويناقشها وينقدها، ويصل بنفسه إلى إيجاد الفرق بين الدين والفلسفة، وهو أن الفلسفة ذات غاية “نظرية” حتى في قسمها العملي، تعرفنا ماهية الخير والشر ، ولا يعنيها بعدها موقف الانسان منهما. وهي بكل صورها عمل إنساني. مبيناً أن غاية الفلسفة المعرفة، وغاية الدين الإيمان، ومطلب الفلسفة فكرة جافة ترتسِمُ في صورة جامدةٍ، ومطلب الدِّين روحٌ وثَّابة وقوة محرِّكة.

أما الدين فغايته “عملية” يعرفنا الحق ليس فقط للمعرفة وإنما للاتباع والعمل وتكميل النفوس به. وهو صنعة إلهية ومنحة منه إلينا، لتكتمل حياتنا بها، فالفلسفة بالنهاية هي عمل إنساني، بينما الدين صنعة إلهية، وذكر كيف أن بعض الفلسفات تناقض الدين تماماً  كالفلسفة المادية.

أما العلاقة الثالثة فهي علاقة الدين بسائر العلوم، وأسهب في الحديث حول هذا الموضوع، فتحدث عن مراتب العلوم وغاياتها وفسَّر المصادمات بين حملة الأديان وحملة العلوم، بسبب وقوف أحد الطرفين موقف الرافض التام لما عند الآخر، لا على حجة ولا برهان، وإنما مجرد رفض اعتباطي، ورأى أن من واجب الأديان أن تهادن العلوم ولا تنابذها، وعلى العلوم أن تفسح المجال للأديان لتتم ما فيها من نقص، فإن لم تفعل فلا أقل من أن تلتزم الحياد، ولا تعلن العداوة وتنكر الأديان جملة، لأن هذا الإنكار هو إنكار لأمور واقعية تحتويها الأديان ولا تحتويها العلوم ألا وهي عناصر الإيمان.

وأمر آخر أن عدم العداوة بين الدين والعلوم مساعد في بيان صحة الدين، فالأصل أن يتفق الدين مع العلم الصحيح، والعقل السليم، لذلك فالدين الحق والعلم يتناصران ويتصادقان، أما إن تخالفا وتخاذلا فلا شك أن أحدهما باطلاً.

و في البحث الثالث تحدث عن “نزعة التدين” ومدى أصالتها في الفطرة، فكان حديثه حول أربع نقاط:

1- مدى أقدمية الديانات في الوجود، حيث أنكر على بعض علماء الغرب الذين قالوا إن الظاهرة الدينية ظاهرة مستحدثة، وإن البشرية عاشت لفترات طويلة حياة مادية بحتة، ورأى أن هذه النظرة الساخرة للأديان ليست جديدة بل هي ترديد لمجون أهل السفسطة من فلاسفة اليونان القدماء، حيث روجوها دعماً لمذهب الشك، وفي رده على هؤلاء لا ينكر وجود عقائد معينة قد تكون استحدثت، بيد أن الحقيقة تقول: لم توجد أمة بغير دين.

2- مصير الديانات أمام تقدم العلوم حيث بين أن كثيراً من الجهلاء قد يكونون جاحدين، وكثير من العلماء قد يكونون مؤمنين، ورد دعوى “أوغست كونت” في شيخوخة الأديان، فذكر أن التدين نزعته خالدة في النفس البشرية بشهادة كبار العلماء، وأن التحليل العلمي دائما ما ينتهي إلى الانتصار لقضية الغيب من حيث الأسباب والغايات وأن نهاية العلم ليست إلى اطفاء غريزة التدين بل زيادة إشعالها.

3- ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية: فأوضح أن هذه النزعة هي تعبير عن حاجات النفس البشرية، فكما أن الإنسان يمكن أن يعرف بأنه حيوان مفكر، فهو يصلح لأن يعرف بأنه حيوان متدين بطبعه، ومرجع تدينه يعود لنفسه، التي لا تفتأ تتطلع إلى الأسباب والغايات والجزاء، وأن وجدانه في جهد لإشباع العواطف النبيلة، وهذا ما يجعل له إرادة تنمي فيه البواعث والدوافع اللازمة لذلك.

4-وظيفة الأديان في المجتمع: فتحدث عن حاجة المجتمعات للدين والأخلاق وبين أن الدين وحده هو ما يضمن تماسك المجتمع، ذلك أن قوة الدين لا تدانيها أية قوة في مجال احترام القانون، ويساهم الدين بربط معتنقيه برباط من المحبة والتراحم، فالعلوم والثقافات ليست كافية لتحقق السلام فالعلم سلاح ذو حدين يستعمل في الهدم والتدمير، كما يستعمل في البناء والتعمير، ولا يضمن حسن استخدامه إلا الدين، ذلك أن الإنسان ينساق من باطنه لا من ظاهره، فقوانين الدولة ليست كافية لإنشاء المجتمع الفاضل.

وفي المبحث الرابع والأخير، وهو الأطول بين مباحث الكتاب، وأكثر فصول الكتاب عمقاً وإشكالية حيث يبحث في نشأة العقيدة الإلهية أو نشأة الدين لا من حيث البحث التاريخي، بل من حيث تشكل الظاهرة الدينية في الإنسان في أي زمان ومكان.

يرى أن قانوني السببية والغائية متى فُهما أوصلا إلى عقيدتي التوحيد والخلود، فقانون السببية يجعل من المحال أن يوجد شيء بلا مسبب، وقانون الغائية يقول إن كل موجود متناسق لا يمكن أن يحدث بلا قصد، وإن كل قصد يجب أن يهدف إلى غاية.

يُلقي الشيخ دراز نظرة جامعة على النظريات والمذاهب المفسرة لنشأة العقيدة الإلهية ويعرض ما فيها من إيجابيات (وهو تأكيد أصحاب هذه المذاهب على صحة نظرياتهم)، وسلبيات (وهو إنكار أصحاب كل مذهب لمسلك المذاهب الأخرى)، ومن ثم يعرض الأدلة والآيات من القرآن الكريم التي تبرهن على عالمية كتاب الله عز وجل باحتوائه على كل المناهج التي يتبعها البشر باختلاف ميولهم وطبائعهم للوصول إلى الحقيقة.

تحدث الشيخ أيضا عن نشأة العقيدة الإلهية ودعائمها في العقل والغريزة وعواملها في الوعي والشعور عن طريق ذكر الاسباب التي أدت إلى إيقاظها في النفوس.

وعندما عرض لكل مذهب حاول تفسير “علة” منشأ هذه العقيدة وذكر الإشكالات التي أثيرت حول هذه النظريات وقدم نقداً لكل نظرية منها، فذكر نظريات كل من: المذهب الطبيعي ورائده ماكس ميلر، المذهب الروحي ورائداه تايلور وهربرت سبنسر، المذهب النفسي ورواده ساباتييه وبرغسون وديكارت، المذهب الأخلاقي ورائده إيمانويل كانت، المذهب الاجتماعي ورائده إميل دوركهايم.

وأورد تلخيصاً في نظرة جامعة لهذه النظريات محاولاً التوفيق فيما بينها، بعد طرحه الاختلافات، فغدا الاختلاف بينها اختلاف “تعاون وتكامل لا اختلاف تعاند وتناقض” على حد قوله.

وتمت إضافة ملحق صغير (من عشر صفحات) للكتاب يبحث “موقف الإسلام من الديانات الأخرى وعلاقته بها”، والحقيقة أنه اقتصر على بحث علاقة الإسلام بالمسيحية واليهودية دون غيرهما، حيث ذكر أن الإسلام ليس اسماً لديانة خاصة، بل هو دعوة جميع الأنبياء والرسل، واستشهد بآيات على لسان الرسل في دعوتهم للإسلام، وبناء على ذلك فالإسلام بالمعنى القرآني لا يُسأل عن علاقته بالأديان الأخرى، إذ كيف يسأل عن علاقة الشيء بنفسه، بيد أن استعمال كلمة الإسلام بحد ذاتها، صارت لها دلالة على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فالحديث عن علاقة الإسلام –بمعناه العرفي الجديد- بالأديان الأخرى، أي علاقة المحمدية بالموسوية والعيسوية، فيبين أن العلاقة مرت بمرحلتين، الأولى مرحلة التصديق، ويشير هنا إلى ما يدل على وحدة المصدر من خلال بعض التشريعات والأوامر الأخلاقية، والمرحلة الأخرى بعد تقادم العهد والتطور والتحرر بسبب طول العهد في تلك الديانات.

البهائية وتأويلاتها الباطنية للقرآن الكريم (2 من 2)

بنت البهائية قواعد مبادئها -كغيرها من الفرق الباطنية الغالية- على التأويل الباطني، فأولوا “النبأ العظيم” في قوله تعالى “عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ” [النبأ: 1-5] بأنه ظهور البهاء وظهور دعوته التي سيختلف فيها الناس[1].

بينما تؤولها طائفة الإسماعيلية تأويلا مغايرا، فقال الداعي الإسماعيلي جعفر بن منصور اليمن: “المراد بالنبأ العظيم: صاحب الزمان –الناطق السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق- مستجاب أهل السموات والأرض إذا نزلت بهم نازلة”[2]، وهل كان مشركو مكة مختلفين في أمر علي كرم الله وجهه وأمر البهاء، أم في أمر البعث والجزاء كما دلت على ذلك الآيات التالية من السورة؟ ثم إن هذا التأويل المتناقض للفرق الباطنية يدل على أن كل طائفة تؤول بما شاء لها الهوى، كما يدل على أن البهائية ليست إلا امتدادا للباطنية القدامى، الذين لا يؤمنون بقرآن، ولا سنة، ولا دين، وإنما يتخذون من تأويل النصوص معاول لهدم الإسلام.

وأولوا الخروج في قوله تعالى: “واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب. يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج” [ق: 41-42] فقالوا: إن المراد بالخروج: خروج البهاء[3].

وفي تأويله لآيات من سورة الانفطار قال البهائي أحمد حمدي آل محمد: “إذا السماء انفطرت”: أي سماء الأديان انشقت، “وإذا الكواكب انتثرت” أي رجال الدين لم يبق لهم أثر.

“وإذا البحار فجرت”: أي فتحت القنوات كقناة السويس التي وصلت بين البحرين، “وإذا القبور بعثرت”: أي فتحت قبور الآشوريين، والفراعنة، والكلدانيين، لأجل دراستها[4]. وهذا مخالف لتأويل البهاء نفسه، إذ قال في تأويلها: “إن المقصود هنا سماء الأديان التي ترتفع في كل ظهور، ثم تنشق وتنفطر في الظهور الذي يأتي بعده، أي: أنها تصير باطلة منسوخة”[5]، بينما أولها الداعي الإسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني بقوله:”إذا السماء انفطرت“: قالوا في التفسير أي أهل الظاهر: انشقت، ونقول: أي أهل الباطن تبطل أحكام الشرائع. “وإذا الكواكب انتثرت” أي تبطل مقامات الحدود في دين الله”.

ألا تعطي هذه التأويلات المتناقضة صورة واضحة لمنهج الباطنيين المعوج في التلاعب بآيات القرآن حسب أهوائهم، فليس لتأويلاتهم قواعد ثابتة، أو أصول راسخة، مع زعمهم أنهم يأخذون عن المعصوم، كما أنهم لم يلتزموا بقواعد التفسير أو التأويل التي اتفق عليها العلماء الثقات. ثم إن الآيات السابقة لا تؤيد مدعاهم، فقد افتتحت السورة بتوقيت يوم الحساب بأشراط وعلامات كاختلال نظام العوالم، ثم وعظت المشركين ولفتت أنظارهم إلى ضرورة النظر في الأسباب التي حرفتهم عن التوحيد، وأبطلت دعاوى المشركين المنكرين للبعث والجزاء، وخلصت إلى بيان جزاء الأعمال الصالحة بإيجاز، وأطنبت ببيان جزاء الأعمال الفاجرة، لأن مقام التهويل يقتضي الإطناب فيه، ثم آيسهم من أن يملك أحد لأحد نفعا، أو ضرا، وأن الأمر يومئذ كله لله تعالى، فليس في السورة ما زعموه بتأويلاتهم الباطلة، التي لا سند لها سوى الهوى الآثم، والكذب والافتراء على الله.

ميرزا حسين الملقب بالبهاء

وانظر تأويل البهائية لآيات من سورة التكوير إذ قال البهائي أحمد حمدي آل محمد في تأويلها “إذا الشمس كورت“: أي ذهب ضوؤها. “وإذا النجوم انكدرت“: أي أن الشريعة الإسلامية ذهب زمانها، واستبدلت بشريعة أخرى. “وإذا الجبال سيرت“: أي ظهرت الدساتير الحديثة. “وإذا العشار عطلت“: أي استعيض عنها بالقطارات. “وإذا البحار سجرت“: أي أنشئت فيها البواخر. “وإذا النفوس زوجت“: أي اجتمع اليهود، والنصارى والمجوس على دين واحد فامتزجوا، وهو دين الميرزا حسين الملقب بالبهاء. “وإذا الموؤدة سئلت”: وهي الجنين يسقط هذه الأيام فيموت، فيسأل عنه من قبل القوانين لأنها تمنع الإجهاض. “وإذا الصحف نشرت“: أي كثرت الجرائد والمجلات. “وإذا السماء كشطت”: أي انقشعت الشريعة الإسلامية ولم يعد أحد يستظل بها، وعطلت أحكامها. “وإذا الجحيم سعرت“: لمن عارض البهاء. “وإذا الجنة أزلفت“: أي لأتباعه المؤمنين من البهائيين[6]“.

بينما أولها الداعي الإسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني بقوله:”إذا الشمس كورت” أي: ذهبت آثار شرائع الأنبياء، التي هي كالضوء من الشمس. “وإذا النجوم انكدرت” أي: تسقط مراتب الحدود حتى لا يبقى لها أثر. “وإذا الجبال سيرت” أي: استخدم الجبارين في الأرض، فيكونون كلهم طائعين لصاحب القيامة. “وإذا العشار عطلت” أي: أبطل التعليم بإزالة الحدود من رتبهم.

وإذا الوحوش حشرت” أي: جمع من على وجه الأرض على الطاعة. “وإذا البحار سجرت” أي: أقيمت حدود ظاهر الشريعة، وأعيد ما كان محذوفا منها من كلام المبتدعين والأبالسة، ويكون ذلك في الوقت المعلوم. “وإذا النفوس زوجت” أي: وجمع كل إلى قرينه وشبيهه من المنافقين والمجرمين. “وإذا االموءودة سئلت بأي ذنب قتلت” أي وسئلوا بأي حجة أخر من أخر من حدود الله عن مراتبهم، وقدم عليهم غيرهم. “وإذا السماء كشطت“: أي محي ذكر أئمة الضلال من القلوب، بإبطال دورهم. “وإذا الجحيم سعرت“: أي أقيمت آية وعيد الله للمعاندين لأمره من حجة صاحب القيامة. “وإذا الجنة أزلفت”: أي أقيمت موائد الله للمتقين في الدنيا والآخرة.

وفي الحقيقة لا نجد في هذا التأويل سوى سخافة وهذيان من ورائه نحل ضالة تحارب الإسلام، وتعمل جاهدة للتشويش على عقائد المسلمين. ثم إن الآيات التي حملوها ما لا تحتمل، فقد “ذكر فيها وقت قيام الساعة، وعلامات حضورها، والبعث، والحساب، والجزاء، وإثبات أن القرآن الذي أنذرهم بذلك وكذبوه، هو كتاب من عند الله، وتبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من بعض ما وصمه به المشركون، من أنه ينطق بكلام الجن، وذكر ذلك الوقت، والإطناب فيه، أسلوب من أساليب تحقيقه في النفوس، وتصديق من أخبر به”[7].

ويرى البهائيون أن قوله تعالى: “ثم إن علينا بيانه” [سورة القيامة: 19] تصريح من جانب الحق بأن تأويله لا يظهر إلا عن طريق شخص يصطفيه الله للقيام بذلك، وهو البهاء[8]. بينما يستدل البابيون أن المقصود بالآية هو “كتاب البيان المقدس”. فالصحابة الكرام، والتابعون لهم بإحسان، والمفسرون، والفقهاء، والعلماء، والمفكرون، كانوا حسب زعمهم محجوبين عن فهم هذه الآيات على وجهها إلى أن جاءهم هذا البهاء.

ثم إن هذه التأويلات البعيدة الغريبة، لا تدل عليها اللغة، ولا يشهد لها ظاهر الكلام، ولا سياقه كما تبين لنا تعارض وتناقض الفرق الباطنية في تأويل الشيء الواحد، وأن هذه الفرق اتخذت من التأويل الباطني الفاسد خطة منهجية في حربها على الإسلام[9].

وأول البهائي أحمد حمدي الشجرة المباركة في قوله تعالى “يوقد من شجرة مباركة” [النور: 35] بأنها: الميرزا حسين علي، الملقب بالبهاء.

وأول قوله تعالى: “يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة..” [إبراهيم: 27] فقال: الحياة الدنيا: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والآخرة: الإيمان بالميرزا حسين علي اللقب بالبهاء.

وأول قوله تعالى: “والسموات مطويات بيمينه” [سورة الزمر: آية 67] فقال: المقصود بها: الأديان السبعة: البرهمية، والبوذية، والكونفوشيوسية، والزرادشتية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام، ثم قال: إنها جميعا مطويات بيمينه، أي بيمين الميرزا حسين[10].

وبعد مقارنة التأويلات البهائية بما سبقها من تأويلات باطنية، نجد أن البهائية تقوم على أطلال الباطنية، وأنهم يهدفون من خلال تأويلاتهم الباطنية الفاسدة لآيات القرآن الكريم هدمه بمعول التأويل المنحرف، بعد أن فشل أسلافهم من غلاة الباطنية في تحريفه، كما حرفت الكتب السابقة.


الهوامش

 [1]  – الحراب في صدر البهاء والباب: ص55

 [2]  – كتاب الكشف: ص 31.

 [3] – الحراب في صدر البهاء والباب، ص 56

 [4] – التبيان والبرهان: ج2/ ص 131.

 [5] – الإيقان: ص 31.

 “[6] ” – التبيان والبرهان: ج2/ ص 120-121.

 [7]  – تفسير التحرير والتنوير، جزء عم: ص 181.

 [8]  – الحجج البهية: ص85. وانظر تركيز الدكتور فلاح الطويل على هذا المعنى – الذي ذهب إليه الجرفادقاني – في كتابه: عالمية القرآن والرمزية فيه، ص 9، 37، 154، وغيرها

 [9]  – المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار : ج3/ ص 313.

 [10]  – التبيان والبرهان: ج2/ ص 100، 137.