ظاهرة تنصير الإسلام
مرت أوروبا بعصور سيطرت فيها الكنيسة على عقول العامة، وقد سميت تلك الحقبة بعصور الظلام، إلا أنه في مطلع القرن الثامن عشر وُلِد ما يسمى بعصر التنوير، أي العصر الذي خفتت فيه أصوات الكنائس وطبقات الكهنة فيها، وارتفعت فيه أصوات الفلاسفة والمفكرين والصناعيين ومختلف الطبقات الاستثمارية.
ذلك العصر كان عصر الردة عن المسيحية بشكل شبه جماعي، حيث إن الذوق العام كان يميل إلى فنون الإمبراطورية الرومانية وأمجاد الفلسفة اليونانية والنزعة المادية التي تقدس العلم التجريبي والتقدم العلمي، من هنا فقد أصبح التمرد على المسيحية نشاطًا تخلص له الكثير من أصحاب العقول وجماهيرهم، حتى أصبحت الشبهات الموجهة ضد المسيحية مكررة على مدار الأجيال بلا جديد.
سيولة الأفكار
في مطلع القرن العشرين بدأت الفلسفة الغربية تتلون بنوع من السيولة، أو ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة، وهو جهد يمتاز بالتمرد على الثوابت، وإلغاء كل المسلمات. ولم تسلم الأديان من محاولة التمييع تلك، وعلى الرغم من أن كل منكري الدين على مدار التاريخ كانوا يتهمون النص الديني بأنه منتَج بشري، فلا جديد أن يشهد هذا القرن بضع نظريات من مشاهير الفكر حول تفسير ظاهرة الدين. وعلى الرغم من كونها مغالطة منطقية تنطلق من مبدأ (المصادرة على المطلوب) والبحث في الدين من منطلق أنه بشري بادئ الأمر، إلا أن المشكلة الحقيقة لا تكمن هنا، بل إن المشكلة في أن الغرب الذي شكك في المسيحية بدأ ينظر إلى الإسلام على أنه مسيحية من نوع آخر! فكانت الشبهات التي هي الطوب المرميّ على المسيحية، نفسها الموجهة نحو الإسلام، فبدأ الجدال بنفس الشبهات والأيادي والطوب ذاته!
ادعاء التناقض بين العلم والدين
كانت نصوص الأناجيل تتدخل في شؤون علوم الطبيعة بشكل قوي، وكانت النصوص تتناقض مع صريح العلوم بشكل صارخ، فكان ينظر إلى النص الإنجيلي أنه رواية أخرى عن الطبيعة، تختلف عن رواية العلوم التي تبنى على التجربة والبرهان، ومن ثمّ أصبح الكتاب المقدس ويكأنه كتاب علم عفى عليه الزمن، ولا بد أن يؤخذ بالحديث في العلم إذا حال تعارضه مع النص الديني.
من هنا ادعوا التشابه بين الإنجيل والقرآن وبدأت حملات التشكيك في القرآن ككل من نفس المنطلق، ولكن النظر إلى القرآن أنه كتاب في العلم لهو ظلم فادح، إذ إن آيات القران تتعدى ستة آلاف أية، إلا أن الآيات التي تتحدث عن الكون بشكل صريح فهي قرابة ألف آية، والنظر في القرآن بنفس نظرة التشكيك التي لم يسلم منها الكتاب المقدس إنما هو ظلم وعدم إنصاف، ولعل أول من وضح تقارب هذا الأسلوب في التشكيك كان موريس بوكاي في سبعينيات القرن الماضي؛ إذ إن الكتاب المقدس عَكَس صورة وحالة الثقافة العلمية في عصور تدوينه؛ أما القرآن، فقد خالف الكثير من الثقافة العلمية في عصر نزوله، وصدقته كثير من مكتشفات العلم الحديث!
ومن ناحية أخرى فإن الغرب استورد نهضته العلمية وأسس العلوم الطبيعة من الحضارات الأخرى التي كان المسلمون أهم مصادرها، وقد كان القرآن ذاته الآمر بالنظر في الوجود بمنطق علمي رصين فقال تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} [يونس: 101].
ليرجع المشككون إلى تاريخ علم الفلك مثلًا، فقد كان منشأه وتطوره في تاريخ المسلمين بسبب القرآن، وبعدما تفوق المسلمون في تأسيس تلك العلوم والبراعة فيها، أخذ الغرب ما انتهينا إليه ثم بدأ يشكك في الكتاب المقدس -الذي كتب بأيدي بشر على ضوء ثقافة العصر في منأى عن مكتشفات العلم– بحجة أنه متعارض مع العلم. ثم يخرج الغرب على المسلمين متكبِّرًا ومشكّكًا في القرآن قياسًا على ما في الكتاب المقدس من تناقض وخطأ!
ادعاءات الأركيولوجيا
مع موجة التشكيك في المسيحية تصاعد التشكيك بنبوة عيسى عليه السلام بهدف نفي ربانية الدين، وقد أسرف بعض من الناس في الشك، حتى بدأت موجة تشكيك في الوجود التاريخي لسيدنا عيسى من الأساس! وهنا بدأت جهود موازية -عن طريق علم الأركيولوجيا- للبحث عن آثار تثبت وجوده في تلك الحقبة الزمنية التي تحدثت الأناجيل عنها، فكان الفصل بين عيسى المذكور في الإنجيل وعيسى الذي تدرسه الأركيولوجيا، ويكأن النص الديني لا قيمة له طالما علم الأركيولوجيا لا يقر بمصداقيته!
من هنا استُخدِم نفس الأسلوب في التشكيك بالإسلام، ونشأ جدال متصاعد مداره التشكيك التاريخي والأركيولوجي بوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم! وهو في الحقيقة سخف ما بعده سخف، فلو شكك إنسان في وجود أشهر نبي على مستوى الأديان، وأشهر شخصية أثرت في التاريخ العالمي منذ القرن السابع الميلادي فهذا في الحقيقة نوع من أنواع الخبل.
يكفينا أن يعلم المشكك أن عالم التاريخ المسيحي أسد جبرائيل قد ألف كتابا بعنوان “مصطلح التاريخ” ليقارن بين منهجية علم التاريخ الغربي historical methodology ومنهجية علماء الحديث في الدين الإسلامي. لتكون الدقة التاريخية في علم الحديث سابقة على علم التاريخ المجرد، فضلا عن أن الفرق بينها ألف سنة! وكيف يكون الشك بهذا الإسراف في وجود شخصية دونها التاريخ العالمي في كتب صينية وهندية وبيزنطية وبأيدي غير مسلمين منكرين لنبوته!
ومن هنا، صدر في عام 2019 كتاب بعنوان “أركيولوجية الإسلام” للدكتور أحمد حسن وفي عام 2021 كتاب الدليل الأركيولوجي على وجود الأنبياء للدكتور سامي عامري. وكلا المؤلفين وضحوا أن تلك الشبهة نصرانية بحتة ولولا تأثر أبناء المسلمين بها لما كانت تستحق الالتفات!
هل للقرآن مصدر بشري؟
لعل أقدم وأشهر شبهة موجهة ضد الإسلام هو أن القران الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى، ولو تأملت كلام المتأثرين بتلك الشبهة لسمعت العجب العجاب. فمنهم من حرف التاريخ إلى درجة جعلته أشبه بالسيناريو السينمائي القابل لإعادة التأليف حتى يوفر للقرآن الظروف المناسبة التي يقتبس منها من كتب أهل الكتاب!
والعجيب أن تلك الشبهة كانت موجهة للكتاب المقدس في الأساس، وإذا فهمنا جيدا المسيحية والوثنية فسنعلم أنهما لا يختلفان عن بعضهما البعض في النقاط الأساسية وإنما يشتركان في الأصل الواحد وهما حقيقة واحدة وشيء واحد!
إن شبهة الاقتباس أصلها مسيحي، وإلا، كيف يفسر المتشكك وجود 50 اختلاف بين أطول قصة في القرآن -قصة سيدنا يوسف- وبينخا في الرواية التوراتية! [انظر كتاب براهين النبوة، سامي عامري]. وكيف نفسر تصحيح القرآن لعقائد اليهود والنصارى بدلا من النقل التوافقي معهما!؟
معضلة الشر
تتأسس معضلة الشر على إشكال فلسفي يوجه إلى الكثير من الأديان والعقائد، وهو سبب في ارتداد الكثير من النصارى عن المسيحية في الأساس؛ لأن المسيحية تنص أن الله محبة، وأن المسيح جزء منه وأنه صلبه من أجل البشرية. فإذا كان كذلك، فلماذا يزال الشر موجودًا، أين المحبة، وأين نتيجة الصلب إذن!؟
ولو تأملت التراث الإسلامي، لوجدت أن الفلاسفة كانوا منشغلين بقضايا كثيرة كلفت الأمة قرونا في الغوص فيها. أما معضلة الشر فهي شبه غائبة من الكتب الإسلامية، لأنها ببساطة أسخف ما يكون في وجهة نظر المعتقد الإسلامي الذي ينص أن الله متصف بالعدل ولكنه متصف بالحلم أيضًا، وأن الله له الأسماء الحسنى كلها لا بعض صفات بحسب، وأن هذه الحياة دار ابتلاء وأن الآخرة دار القرار وأن هناك يوم القيامة وفيه سيعوض الله كل مظلوم، وأن القصة لا تنتهي بالموت!
فسحب جدال معضلة الشر من كونها شبهة مسيحية بحتة إلى دائرة الإسلام ما هو إلا رمي للإسلام بشبهة ينسفها طفل لا يعلم من ثقافته الدينية سوى الأسس العامة!
هذا المرور الخاطف على هذه القضايا غيض من فيض، قصدت فيه أن أوضح أصول الشبهات المطروحة وأنها شبهات بمثابة سهام موجهة نحو مسيحية في الأساس، وقد حُوِّلت وجهة الأسهم نحو الإسلام لا أكثر
ولعل المشكلة تكمن في جهل الغرب بالإسلام، والتكاسل عن الابتكار للطعن فيه، فاكتفوا بنقل نفس الشبهات له. أما عن المسلمين، فالمشكلة تكمن في عدم إلمامهم بتاريخ الغرب والجدال العلماني الكنسي. ومع انعدام الثقافة الدينية عند الكثير من المسلمين، أصبح الكثير ضحية لشبهات تنسف دين غيره، ولا تضر دينه في شيء!
مراجع للاستزادة
الإجابة القرانية (مهاب السعيد)
براهين النبوة (سامي عامري)
الدليل الأركيولوجي على وجود الأنبياء (سامي عامري)
العلم والوحي (سامي عامري)
هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى (سامي عامري)
مصطلح التاريخ (أسد جبرائيل)