image_print

مدرسة الروابي للبنات .. لا للتنمر .. نعم للتمرد!

في الثاني عشر من هذا الشهر أطلّت علينا نتفليكس بإنتاجٍ جديد ناطق بالعربية ألا وهو “مدرسة الروابي للبنات”.

إنه مسلسل صُوِّر في الأردن بطاقم تمثيلٍ أردني، ويناقش بشكل أساسي قضية التنمّر في المدارس، من خلال تعرُّض إحدى طالبات مدرسة الروابي للبنات للتنمّر من قبل مجموعة من زميلاتها. ويتطرق المسلسل كذلك إلى قضايا مثل التحرّش وما يسمى بـ “جرائم الشرف”.

فماذا حمل لنا مسلسل نتفليكس الجديد في ثناياه؟ وهل اقتصرت رسائل المسلسل على هذه القضايا؟ وكيف تم استعراض هذه القضايا يا تُرى؟

بين “جن” و”مدرسة الروابي للبنات”

مسلسل “مدرسة الروابي للبنات” هو ثاني أعمال نتفليكس في الأردن، بعد مسلسل جن الذي صدر قبل عامين. وقد كان حينها محط جدل لعدة أسبابٍ منها ألفاظه السوقية وتصويره لنمط حياة غربي في العاصمة الأردنية عمان. أما من ناحية فنية، فقد كان العمل بقصة ضعيفة للغاية وحبكة غير واضحة مليئة بالفجوات.

فماذا عن “مدرسة الروابي للبنات”؟

على عكس “جن”، فإن مسلسل “مدرسة الروابي للبنات” يقدّم قصة محبوكة ويناقش قضية واضحة، لذا فهو أفضل نسبيًا على المستوى الفني. وقد استفاد “مدرسة الروابي للبنات” من تجربة سلفه فكان خاليًا تقريبًا من أي لفظٍ خارج، مما يزيد من تقبّل العمل عند المشاهد، وهذا يسمح بتوسيع رقعة المشاهدين كمًّا ونوعًا، وبذلك يكون المسلسل أكثر قدرة على إيصال رسائله.

فماذا كانت تلك الرسائل؟

لنعد هنا إلى ريد هاستينغز، الرئيس التنفيذي لنتفليكس ورئيس مجلس إدارتها، حيث أشار –في إحدى اللقاءات قبل عامين- إلى أن صناعة الترفيه تقوم على مشاركة أنماط الحياة (life styles) مع الآخرين. وهذا بالضبط ما قامت به نتفليكس في مسلسل “مدرسة الروابي للبنات” -وفي مسلسل جن قبله-، حيث يُسوَّق التطبيع مع نمط الحياة الغربي في كل فرصة ممكنة، بدءًا من ملابس الشخصيات ومظهرهن إلى طبيعة العلاقات بين الجنسين.

كانت طالبة الثانوية التي ليس لديها “صديق” غريبة بين زميلاتها، ورغم أن المسلسل يدور حول التنمّر إلا أنها الفتاة الوحيدة التي وُصفت بأنها بشعة أو غير جميلة، ويا للمصادفة كانت -في الوقت نفسه- هي الوحيدة المحجّبة بين بطلات المسلسل!

من يا تُرى الذي أشار إلى قلة جمال تلك المحجبة -والمتنمِّرة بالمناسبة-؟ أكنّ زميلاتها اللواتي تتنمر عليهن؟ لا، بل كانت أمها من وصفتها بذلك!

التمرّد على المجتمع!

إن كل تفصيلة في هذا المسلسل ترسم صورة قاتمة عن كل من هم أكبر عمرًا من بطلات المسلسل، بنات “مدرسة الروابي للبنات”. أمٌّ تنعت ابنتها بأنها غير جميلة، وأخرى لا تفهم ابنتها ولا تحترم خصوصيتها ولا تقف بصفها، لدرجة أن البنت تمنّت في لحظة أن تقتل أمها، ومديرة تغطّي على أفعال الطالبة المتنمّرة ابنة المسؤول المهمّ، ومُدرِّسة قديمة الطراز تعترض على كل ما يقوم به أبناء الجيل الجديد. ورجل يتحرّش بطالبة بعمر بناته أو أحفاده، وأبٌ سكير يضرب ابنته. هذا عدا عن الإخوة، والذين تم انتقاؤهم ليكونوا ضخام الجثة خشني الملامح، مزعجون وربما مريبون، وبالطبع لا يحترمون خصوصيات أخواتهم، مع والدٍ يبرر كل تصرّفاتهم.

كلها تفاصيل تجتمع لرسم صورة غاية في البشاعة عن المجتمع عمومًا والذكور خصوصًا. وهذا قد يعطى تبريرًا حتى للتنمّر، فوفق كاتبة العمل ومخرجته فإن التنمّر كان ردة فعل لما تعانيه المتنمّرات في البيئة التي يعيشن فيها. ويذكّر هذا بخطاب المظلومية الذي تستخدمه -بل وترتكز عليه- الحركات النسويّة والأقلّيات.

وعندما تطرّق المسلسل للتحرش ولما يسمى بـ “جرائم الشرف”، عُرضا وكأنهما مجرّد جزء من مكونات تعزز بشاعة المجتمع ككل، بل إنه تم استخدام قضية “جرائم الشرف” للتطبيع مع نمط الحياة الغربي، فصار من الطبيعي أن تذهب المراهقة مع “صديقها” إلى مزرعته النائية الخالية من البشر، وأن يتراشقا الماء في بركة السباحة وغيره، بل هذه هي الجنّة على حد تعبير هذه الفتاة المراهِقة، وتمّ تصوير ذلك على أنه غاية الجمال والرومنسية والنقاء والبراءة!

الخطاب الذي يستخدمه المسلسل باختزال الصورة إلى مجتمع سيئٍ ومراهقات مضطَهدات يعطي لهؤلاء المراهقات المبرّر والدافع للتمرد، خصوصًا أن التمرد هو الطابع العام للمسلسل الذي نعيش أحداثه برفقة بطلته طالبة مدرسة الروابي للبنات والتي تمّ التنمّر عليها، فلم يتعاطف معها أو يتفهّمْها أحد من أفراد المجتمع سواء والدتها أو حتى معالِجَتُها النفسية أو غيرهم، أما الوالد فكان سلبيًا ضعيف الشخصية، ويكتفي بإعداد الطعام للعائلة في مقابل الأم العاملة، في لمحة أخرى من الخطاب النسويّ. فتقرّر هذه الطالبة المضطهَدة خوض رحلة الانتقام برفقة زميلتاها اللتان تم التنمّر عليهما.

ليس من العجيب إذن أن الدعوة للتمرد تصبغ المسلسل ككل، ويتمّ تعزيزها من خلال بعض التفاصيل كالأغاني المستخدمة في الخلفيّة، أغاني شبابٍ كاره للمجتمع، تتلاءم مع أجواء المسلسل، من كلماتها: “هسافر بعيد ولا سلطة تقول لي أعيد وأزيد” و”قوانين بدها تكسير”.

أما ما غنّته صديقتان من بطلات المسلسل فكان من كلماته: “وخالتي التي ترتدي الخمار قالت لي غني براحتك بس حتروحي النار.. بس أنا أبويا ماقلّيش.. فأنا هعمل الصح وأشرب حشيش”!

هذا هو أحدث مسلسلٍ ناطق بالعربية أنتجته لنا نتفليكس، مسلسلٌ بنمط حياة غربي، يصبغ المجتمع بالسواد ويدعو إلى التمرّد، ويوجّه كل هذا إلى من؟ إلى فتياتٍ مراهقات في مرحلة حسّاسة أصلًا من حياتهن، يرسمن خلالها شخصياتهن وتصوراتهن عن الحياة.

المجتمع الغربي والتغيرات اللاهثة

أنهيت منذ فترة مطالعة رواية “فوضى الأحاسيس” للروائي النمساوي الشهير “ستيفان زيفايج”، وقد أعجبتني وأعجبني بناؤها الفني والأدبي البسيط والعميق، لكنني لن أتعرض لها هنا من الناحية الفنية؛ لأن ما لفت نظري فيها هو جانب فكري يتعلق بطبيعة عمليات التغيير المجتمعي بشكل عام وفي الغرب بصورة خاصة.

نشرت الرواية في ثلاثينات القرن العشرين، أي من حوالي 90 عامًا، وهي تتعرض ضمن أحداثها لقصة أستاذ أكاديمي في الأدب الإنجليزي يعاني من الشذوذ الجنسي، وما تفرع عن ذلك من طبيعة رفض المجتمع الأوروبي له في ذلك الوقت، وكيف أن ذلك البروفيسور المرموق الذي له وجاهة كبيرة في المجتمع آنذاك كان يضطر إلى الاندساس داخل مناطق نائية مطيَّنة تفوح منها رائحة النتن والعفونة في مدينة “برلين” الألمانية ليمارس شذوذه مع أفراد قذرين مخنثين غير متقبّلين في المجتمع.

واللافت للنظر هنا أن تجد أوصافًا لفعل الشذوذ داخل الرواية من قبيل: “رغبات شاذة، احتقار، اشمئزاز، نفور، شخص منبوذ، رذيلة مخزية، ضرب من الجنون، ملطخة بالقرف، مسممة بالخوف، الرفاق المشبوهون، عالم الرذيلة، المغامرات المخزية، ميوله المنحرفة، شعور خانق بالخزي والعار والخوف من الذات، العادات المشبوهة، فتيان فاسقين، التلوث بالرجس والقذارة، مخلوقات شبحية ودنيوية نتنة”… كل هذه وغيرها كانت الأوصاف الحرفية للرواية عن الشذوذ الجنسي وممارسيه والحالة التي تتلبسهم حال ممارسته.

تعرض الرواية كيف أن حياة البروفيسور تحولت في الرواية إلى جحيم نفسي حقيقي بسبب ممارساته المنحرفة وعدم تقبل من حوله لها، كان يتعرض لعمليات ابتزاز وتهديد تخلف وراءها أحيانًا هلعًا ورعبًا بلا حدود، فضلاً عن سخرية الآخرين منه ومن ممارساته المشبوهة. لم يكن ينام في الليل إلا قليلاً بفعل سوء حالته النفسية التي سببتها حالة التناقض التي يعيشها، بل ربما ناداه داعيه الداخلي مساءً فتسلل من المنزل تاركًا زوجته الحسناء ومغادرًا بالأيام ليخوض مغامرة دنسة جديدة، ليعود بعدها وقد علت جسده وملابسه جميع مظاهر الانحراف والقذارة.

لم يلفت نظري تدوين “زيفايج” هذه الممارسة القبيحة التي كان غارقًا فيها هذا البروفيسور، فهذا مما قد يوجد في كل مجتمع بنسبة ما، وربما يكون الكاتب أراد تسليط الضوء على هذا الشخص من باب الاستثناء الذي يلتفت إليه الأديب في كتاباته، فالفن بالأصالة تدوين لحالة من الاستثناء، والحياة العادية لا تلفت نظر المبدع لتدوينها، وإنما اللافت لنظره هو الغريب، الغريب في حاله أو طبعه أو شخصه، أو حتى الغريب في موقفه الطارئ الذي لا يسير وفق العادة اليومية المطردة. ومن هنا قد تكتسب بعض الأعمال الأدبية والفنية صفة الملالة والسأم حينما تلتفت فقط إلى ما يلتفت إليه الناس يوميًا، وتشير بأصابعها إلى ما يعتاد الناس الإشارة إليه. أما الإبداع فيهتم بما لا يهتم به الآخرون، ويركز على جوانب مظلمة من الحقائق لا يلتفت إليها الناس، أو على الأقل يعبر عما يعتاده الناس لكن بأسلوب لم يعهدوه أو يعتادوا رؤيته أو سماعه. ومن هنا يكتسب صفة الجدة والابتكار، “فالفن تدوين للاستثناء” كما قلنا.

كيف عرض زيفايج للشذوذ وحياة المجتمع الأوروبي؟

إلا أن الفاصل بين أديب وآخر يكمن في كيفية تدوين هذا الاستثناء وعرضه؛ فـ”زيفايج” استعرض القبح الكامن في هذا الاستثناء، ونجح في خلق صورة مستبشعة ومنفرة عنه. لكن الأعمال الأدبية المعاصرة تروج لهذا السلوك وتجعله اختيارًا مقبولاً ومتاحًا، بل ومحببًا في أحيان كثيرة. وإني لأتوقع لو كتب هذه الرواية الروائي العربي “فلان” لاستبدل جميع الألفاظ الآنفة الذكر، وحالة الفصام التي أتعبت ذلك البروفيسور المريض والتي كان يعيشها بين حالته وسط طلبته صباحًا في الجامعة ومساءً بين الأراذل في المواخير والمشارب ليجعل منها حالة تحفزه لمزيد من الإبداع والتميز المهني والحياتي والأكاديمي!!

ما لفت نظري في هذه الرواية هو تصور المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت لهذه الرذيلة واستنكاره لها ووصفها على لسان هذا الكاتب الكبير بأقذع الأوصاف وأقساها، ولن تخطئ عينك حالة الإدانة التامة التي سببتها هذه الأوصاف لهذا الفعل الشنيع في الجزء الأخير من الرواية.

أوروبا في هذه الفترة كانت تدين الشذوذ، وتراه فعلا مستقبحا مخالفا للفطرة السوية، ولا يمارس هذا الفعل منهم سوى الحقراء والمنبوذين، الذين خصصوا لأنفسهم أقذر الأماكن وأبعدها عن العمران ليمارسوا أفعالهم بعيدا عن أعين الناس الذين يرونهم مرضى أو كائنات متدنية. ومن كانت تراوده نفسه من أهل المدينة ليلطخ سمعته بهذا الفعل الشائن كان عليه أن يتكبد عناء الانتقال إلى هذا المكان القذر ليدنس حياته برجسه خُفية ودون أن يعلم به أحد. والويل له إن انكشف سره وافتضحت حقيقته! هذا ما كان عليه هذا الوضع في أوروبا وقتها.

التطبيع مع الانحراف

حين طالعت هذه الأوصاف السابقة في الرواية قفز في ذهني فورًا الصورة الحالية لهذه الممارسة المنحرفة في الآداب والفنون الغربية المعاصرة، كيف حدث هذا التحول الرهيب في المجتمع الغربي -ويجري على قدم وساق في المجتمع العربي بالمناسبة- تجاه تقبّل الشذوذ بدءًا من تغيير التسمية الصادمة للأذن “الشذوذ الجنسي” بوصف آخر مهذب ومستساغ “المِثلية الجنسية”، ومرورًا بعرضه علانية وبفخر في الإعلام والأعمال الفنية والأدبية، وانتهاءً بإعلانه رسميًا في كثير من دول العالم الغربي والأوربي بديلاً أو طريقًا موازيًا للزواج الطبيعي، واستخدامه ورقة سياسية أحيانًا من قبل الساسة والحكام.

فبات من الطبيعي جدا أن تطالع يوميا في صفحات الجرائد والمجلات زواج امرأتين أو رجلين داخل كنيسة، زواجًا رسميا معلنا وموثقا من قبل الدولة، بل ومع التطور اليومي تطالع إعلان بعض رجال الدين والقساوسة لشذوذهم الجنسي وفخرهم بذلك! وبات طبيعيا أيضا أن يقتحم عليك منزلك مشهد أو عدة مشاهد في عمل درامي يقبِّل فيه رجلان ذوا لحية كثيفة ومكتملا الرجولة بعضهما البعض، ليستبدل الصورة النمطية القديمة عن الشاذ جنسيًا في الدراما بأنه شخص مخنث يتمايل بضحكات رقيعة، في إدانة واضحة لفعله. فالآن يمكنك أن تكون رجلا شهما ومسؤولا وعلى أعلى درجات الاحترام وقوة الشكيمة في العمل، وشاذًّا في نفس الوقت بلا غرابة أو تأنيب ضمير!!

الفاصل بين هذه الأوصاف المستقبحة لهذا الفعل الشائن في الرواية وبين الواقع الحالي المبيح والمروج هو 90 عامًا فقط (وقت نشر الرواية)! 90 عامًا تحولت فيها البشاعة والانتكاس الفطري إلى واقع طبيعي يحظى بالقبول المجتمعي!! وهذا أمر مرعب في حد ذاته. منذ مهد التاريخ البشري لم يحدث هذا الغزو البشع للكرة الأرضية والإغراق الرهيب بالمحتويات الشاذة والمنحرفة على هذا النحو الذي يقع الآن.

إلا أن رقم 90 هذا يعد رقمًا كبيرًا نسبيًا، فطوال هذه الأعوام التي تقترب من قرن من الزمان لم يشهد العالم هذا التسابق المحموم على النشر اللاهث للشذوذ إلا في آخر 15 أو 20 عامًا على الأكثر، ولنا أن نتخيل أن آلافًا أو عشرات أو مئات الآلاف من السنوات من عمر البشرية لم تتغير خلالها هذه الصورة الفطرية السوية في نفوس البشر حتى وإن مارس بعضهم الشذوذ، لكن عقدا أو عقدين من الزمان كانا كافيين في تشويه وإتلاف هذه الفطرة وإحداث تدهور حاد في التصورات المستقرة سلفًا. فماذا يحدث؟!

الطفرة الكونية التي يعيشها العالم الآن في مجالات السياسة والإعلام أحدثت حالة من اللهاث المتعجل نحو التطبيع مع الانحراف. والعلمانية والإلحاد اللذان سيطرا على المجتمع الغربي وبدأتا تغزوان المجتمع العربي والإسلامي صارتا المتحكم الرئيس فيما يعرض على الشعوب في الإعلام والدراما، بل نصَّبتا نفسيهما مهندس الأخلاق الكوني للعالم، فتقرران ما يناسب البشر وما لا يناسبهم من الأخلاق والمعتقدات بناءً على المتطلبات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفكرية للإلحاد والعلمنة.

حتى الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال لم تسلم من ذلك، فالمحتوى الغربي المرسِّخ لقبول الشذوذ وزرع فكرته في عقول الناشئة، سواء بالإشارة أو بالمباشرة، صار أكثر وأكبر كثافة من أن يحصى. وهذا يتطلب حالة من التحفز والانتباه المضاعف لأخذ الأهبة والتدرّع بمختلف وسائل المقاومة.

الفنّ وسيلة لإفساد الفطرة

لم تعد الدراما والفنون الروائية والقصصية الغربية مجرد أداة ترفيهية بريئة كما كانت أول نشأتها، بل صارت سلاحا حربيا كئيبا ربما يفوق في تأثيره مفعول القنابل والمجنزرات والآليات المعقدة، سلاح فكري انتكاسي ضد الفطرة والقيم والأخلاق، وبكل أسف تمكن الطرف المناوئ من حيازة أسباب التفوق فيه، ولم نتمكن نحن حتى هذه اللحظة من الهجوم واستخدام أساليبه بذات البراعة التي يقاتلنا بها، وكان جل ما نفعل هو الصراخ من الألم والاستكانة بزاوية رد الفعل. ولا ننكر أن هناك جهدًا فكريا نخبويًا يصاغ على صفحات الكتب وقنوات الأثير، إلا أنه غير كاف في مواجهة هذا السيل الجارف من الدراما القبيحة، فطبيعة الشعوب البعيدة عن حالة النخبوية الثقافية لا تتأثر بالأطروحات الفكرية المصبوبة في المؤلفات العلمية بقدر ما تتأثر بالدراما البسيطة التي تنفذ إلى العقل اللا واعي، وربما يتجاوز تأثير فيلم أو مسلسل واحد العديد من الكتب والمحاضرات التي يتلقاها الإنسان البسيط في عمر مديد؛ لأن الأول يحفر في قلبه وعقله الباطن، والثاني يخاطب عقله وتفكيره.

ما العمل؟

إننا مطالبون -وبسرعة لا تحتمل التأجيل أو التقاعس- بإعداد مشروع درامي أخلاقي وقيمي يواجه المشروع الإعلامي الغربي المتضحة معالمه التخريبية المنحرفة، ولم يعد ذلك من رفاهية الأعمال أو الأفكار والمشروعات، بل بات أمرًا ملحًا كعلاج “الغرغرينا” التي ما لم يتخذ الطبيب قرارا صارما وسريعا فسوف تنتشر في الجسد المنهك كله، ولن يغني حينها العلاج ولا البتر. مشروع إعلامي قادر -ولو نسبيًا- على المنافسة، فكثير من التجارب السابقة في الدراما والرسوم المتحركة القيمية والأخلاقية كانت ساذجة وعلى مستوى فقير مهنيًا وتفتقد لعناصر الإبهار والقصة والجودة، فكانت تكرارًا لما سبقها في الأسلوب والمعالجة المباشرة المفتقدة للحبكة، وطغا عليها الخطاب الوعظي النصائحي، لذا كانت مثار سخرية واستهزاء لا محط اهتمام وشغف.

ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة المسلسلات؟

قل لي ما تتابع، أقل لك من أنت!

قد تبدو هذه جملة سطحية وتعميمية، إلا أن نظرة سريعة إلى مقال “تبادل آراء” لصحيفة نيويورك تايمز قد تمنحنا نوعاً من الاتفاق على المقدّمة المفترضة، فقد نشرت الصحيفة المذكورة مقالاً بعنوان “ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة الأفلام؟” ( What have you learned about life from watching movies)

حيث افتتحت المقال بمقدمة للكاتبة مانولا دارجيز Manohla Dargis: “الأفلام تعلمنا كل شيء، كيف نطمح ونحلم وندخّن ونلبس، وكيف نحب، وكيف نضحّي، سواء لأجل الحب أو الوظيفة والعمل؟”، ثم اختتمت المقال بسؤال عام لمن يحب مشاركة رأيه بالإيجاب أو النفي عن تجربته مع الأفلام.

بعد الاطلاع على ردود اثنين وسبعين مشاركًا، لم أُفاجأ بأن المعظم موافقون بشدة ويشاركون تجاربهم وانطباعاتهم عن الأفلام، فقال أحدهم: حتماً ستكون إنساناً مختلفاً عند خروجك من قاعة السينما عما كنت عليه لحظة دخولها!

وآخر يقول مستعيناً بالتاريخ بأن هذه الصناعة العظيمة التي بدأت ١٨٨٨ ما زالت إلى اللحظة تتطور مع تطور الإنسان وتعينه على الإجابة عن أسئلة الحياة المختلفة، -وكأن ١٢٠ عاماً من حياة البشر وتجاربهم المختلفة كافية لاستخلاص الأجوبة!! فكيف إن كانت هذه المسيرة تخطّ منحنىً متسارعاً مبتعداً عن أي وحيٍ سماوي!- ويزيد آخر بأنه تعلّم كل شيء عن الحياة من خلال مشاهدته للأفلام!

السينما والطريق لرسم الثقافة

وجدَتْ هذه البلاد التي تأسست من عدة قرون -نصفها الأول دموي والآخر نزاعات عرقية- نسيجَها الاجتماعي متبايناً ومختلفاً، لا أعراف أو حتى أهداف مشتركة تسمو عن المأكل والمشرب وأساسيات العيش، فكان لا بدّ من الوصول إلى ضمائر الناس ونفوسهم لمحاولة التوفيق ربما ورسم الثقافة العامة للبلد الجديد، وقد حقق التلفاز هذه الغاية بجدارة؛ إذ كان يبثّ للناس على مدار الساعة الصورة المثالية للمواطن والعامل والموظف الأمريكي، والصورة البراقة للأسرة المتحابّة المتراحمة، والصورة الجذابة لما يجب أن تكون عليه الطلاب والطالبات في الثانويات والجامعات، ثم تصبح المهمة على عاتق المشاهد، لمحاولة الوصول إلى تلك الحالة التلفزيونية.

ما يثير العجب هو أن تُباع نفس الخلطة إلى بلادٍ وحضارات ضاربةٍ في التاريخ منذ القدم، كوّنت عبر آلاف السنين أعرافاً وطرائق معيشية عريقة استوَت بعد أن استقت من الوحي قيمها نموذجاً يُحتذى به في وقتٍ من الأوقات، لينقلب الحال وتصبح الدراما والخبائث من الأفكار هي ما نقتدي به ونستقيه، مُعرِضين عن كنوزٍ تركها لنا الأسبقون، ويقدمها الآن بعض المعاصرون بفضل الله.

ابدأ العمل وتفكّر!

كفانا جلوساً على مقاعد الحسرة، وبكاءً على الأطلال، ولنعد إلى الواقع، إلى ساعات النهار الأربع والعشرين التي تملكها، إن رأس مالك وحقك الوحيد الذي لا ينازعك فيه أحد هو هذه الساعات التي تُمنَحُها كل صباح من الحيّ القيوم بلا مقابل، فهي فرصة جديدة لتدارك ما فات، وحبل ودٍّ للاقتراب من عتبات رضوانه، فأنت من تقرر كيف تستهلكها.

لن أُدخلك في متاهات المؤامرات أو أقول إن هناك من يجلس ويخطط ليعبث بوقتك وبباكورة أيامك والسنين الذهبية من شبابك، فأنت أبسط من أن تُنفق عليك هذه الجهود والأموال! لكن، أتعرف من هو الأبسط منك والأقل شأناً؟

هو ذاك الكاتب الذي حمل قلماً يخط فيه سيناريوهاتٍ عن عائلات يُقال إنها من عندنا، تتلاقى وتخون وتسرق وتكذب وتقيم علاقات غير شرعية وكل ما يمكن أن يخطر على باله من شطط وإمالة (فكل ذلك جذاب للتسويق)، ويعينه على ذلك إنسان آخر أقل حظاً بمهارات إخراجية يحوّل المكتوب على الورق إلى مشاهد حقيقية بالاستعانة بأشخاص قرروا تكريس عمرهم للتمثيل، واحتراف تحويل خيال شخص ورؤية شخص آخر إلى شيء يشبه الواقع (إذا غضضنا البصر عن الأجندات والأهداف)

صورة مسلسلات وأفلام

كل هؤلاء الأشخاص الذين ليسوا نجوماً ولا لامعين، راهنوا على الساعة والساعتين التي ستقدمها لهم بالمجان، وصبروا وعملوا بلا كللٍ ولا ملل، ودعّموا أنشطتهم بإعلانات وأموال طائلة تُنفق حتى تترسخ عندك قناعة أنك تحتاج متابعتهم لتتعلّم عن الحياة وأهوالها وتعرف الناس وغدرها، والنساء و”كيدهن”، ومكر الرجال، وجشع الأغنياء ومأساة الفقراء…. إلخ.

وعلى فرض أنك واعٍ لذلك كله، وأنك تقضي هذه السويعات للترفيه، أفيُعقل أن تبني جداراً، وتتعب على رصف حجارته، ثم من باب الترفيه تبدأ تصدّعه بطَرْقاتٍ من هنا، وضربات من هناك؟

هذا الجدار هو عقلك ونفسك اللذان تحتاجهما لتواجه الحياة بنفسية مستقرة وشخصية متّزنة خالية -قدر الإمكان- من حوارات الدراما وردّات الأفعال مسبقة الصنع والتعابير الجاهزة، كما في عبارة “أنا حدا كتير….” التي ظهرت وانتشرت قبل أكثر من عشر سنوات إثر ظهور مسلسل سوري يكرر هذه العبارة في كثيرٍ من لقطات السيناريو، وعلى ألسنة العديد من شخصيات المسلسل التي تتكلم بهذه الطريقة، وما هي إلا عدة أشهر إلا وصار الحوار بين الناس يتضمن الكثير من “أنا حدا كتير”، وأترك لذاكرتك مهمة إيجاد تعابير ومدخلات مشابهة، وربما من نوع آخر.

الترفيه ضرورة أم حاجة

أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفرد المسلم على تحمّل مشاقّ الحياة وصعابها، والتخفيف من الجانب الجدي فيها، ومقاومة رتابتها، شريطة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شرائع الإسلام وأوامره، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ قَالَ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ، فَقَالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَقَالَ: يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ). [أخرجه مسلم في الصحيح]

فمعنى هذه العبارة –أي (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) أنه “لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ، فَفِي سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ، وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ” [المباركفوري في شرح سنن الترمذي]، وهنا يُترك كل شخص لضميره ليعرف كمية العبادات الضئيلة التي يُمارسها يوميّاً.

في ناحية أخرى، فإن أغلب من يقضي وقته في الترفيه، سواء بمسلسلات التلفاز أو ألعاب الهاتف، فإنه بعيدٌ كل البعد عن الإنجازات الجادة –ولا أظن أننا بحاجةٍ لإحصاءات واستطلاعات لإثبات ذلك- فوحده من يشعر بتعب ولذة الإنجاز يقدّر قيمة نفسه وقيمة وقته ولمن يعطي سمعه وأذنه وانتباهه.

متاهات السوشال ميديا

إن كنا ما زلنا حديثي عهد بهذا الفخ الجديد الذي وقع فيه حتى أكثرنا انشغالاً واجتهاداً، فخ إضاعة الوقت في متاهات “الماجَرَيات” التي تبثها لنا يومياً وسائل التواصل الاجتماعي دون توقف أو كلل أو ملل، فلا نكاد نشهد معركة خمدت بين داعية ومفكر حتى تندلع ثانية، عدا عن مزاحمات المواعظ والدروس والعبر والنصائح والتنبيهات والتحذيرات والأخبار والمستجدات، وكل ذلك مما يبدو كأنه ثقبٌ أسود يلتهم ساعاتنا وأيامنا والسنوات على غفلة منا، بينما يتوجب علينا –في الأصل- أن نتجه للانشغال بشيء أهم في حياتنا الحقيقية.

أوليس من غير الحكمة ونحن نصارع أنفسنا في مهمة التخفّف من الملهيات أن نزداد في متابعة هذه الفضاءات وأن نفتح جبهة حربٍ جديدة مع مسلسلات تشبكنا معها ٣٠ ساعة وربما أكثر، في الوقت الذي يتأسف فيه كثيرٌ منا لمرور عشر دقائق من ذكرٍ أو تلاوة لصفحة من كتاب الله تعالى.

يوصي العديد من الأطباء بألا تتجاوز مدة الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي ثلاثين دقيقة، وبذلك يتوفّر للإنسان متابعة صفحتين أو ثلاثٍ أو خمس على الأكثر المجمل –في حال كانت ذا محتوى غني وقيّم- فإن زاد الحال عن ذلك انقلب إلى مضيعة للوقت، فيصاب المتابع بالتخمة المعرفية والفوضى، إذ إن منصات التواصل لا يؤخذ عنها العلم وإنما هي منصة للتذكير، والأولى والأصل أن يرتبط العلم بالعمل، ومن كان عمله التصفّح والتقليب بالساعات فإنه ممن يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهو من الأخسرين.

البدائل والحلول

حسنٌ، يشار لنا على الفور بكلمة “ما البديل؟” التي صارت ردنا السريع على كل من يحاول إبعادنا عن عادة سيئة أو فعلٍ خاطئ!! وكأن البديل يجب أن يكون موجوداً، وكأنما إقامتنا في فندق ٥ نجوم، وليست في دار امتحانٍ وابتلاء!!

بلى، إننا نفتقر في مكتبتنا العربية للمرئيات المفيدة التي تجذب اليافعين والشباب، إلا أن ملء هذا الفراغ لا يكون باللجوء لبدائل لا تناسب قيمنا وأخلاقنا.

ولعل الحل يكون بالإقلاع عن هذه العادة أولاً، وأنا أكثر من يتفهم صعوبة الأمر، فمع الأسف الذكريات العائلية الجميلة يُرسم أغلبها خلال جلسات المساء لمتابعة مسلسلٍ ما أو فيلم، إلا أن الأمر يستحق كل جهدٍ مبذول، والمكسب في نهاية المطاف هو عمرك وبركة وقتك.

ومما يعين على هذه الخطوة التدرّج بالترك، ومجاهدة النفس قدر الإمكان على الامتناع كلياً في رمضان عن مشاهدة أي شيء، وملء الوقت بالعبادات التي تؤجر عليها وتثاب وترفع مقامك عند ربّك -وهو هدفنا الأساسي- والاستعانة بالله قبل كل شيء، فمعارك النفس داخلة في حكم الجهاد، وتغيير العادات يتطلب وقتاً وصبراً وثباتاً، ورمضان فرصة ذهبية للانطلاق، وهو من رحمة الله بنا أن فرض علينا هذه المساحة الضيقة من باحة العام الواسع، لنُعيد فيها حساباتنا ونتمكّن من الامتناع جزئياً عن أساسياتٍ حياتية، تمهيداً للإقلاع عن مُهلكات نحسبها ضروريات.

من وحي التجربة

وقبل التنعّم بطعم الحرية والخلاص من قيود وأسلاك التلفاز الشائكة، دعني أشاركك بعضاً من تجربتي الشخصية التي بدأتها في مطلع العشرينات من عمري، عند اندلاع الثورات وسقوط كثير من المشاهير من أعين الجماهير، فقررت الامتناع ما استطعت عن متابعة التلفاز ومن ضمنها المسلسلات والأخبار والأفلام، فعشت في قوقعتي الصغيرة وبات الفراغ كبيراً، ملأته فوراً بتطوير مهارة أحبها ولا أعرفها، ألا وهي “الحياكة”، وبعد عدة شهور ومن خلال فيديوهات اليوتيوب أتقنتها فصارت ملجئي الذي أستعين به على ليال الشتاء الطويلة.

وحمّلت على هاتفي تطبيق Duolingo لتعليم اللغات، فتعلمت مبادئ الفرنسية (بالإضافة إلى التحاقي بمدرسة بدوام جزئي لا يُذكر في البداية) لكن مع ذلك أُرجع الفضل للـدقائق الخمسة عشر التي كنت أتمرن بها على هذا التطبيق بشكل شبه يومي، فصار بإمكاني إجراء محادثة بسيطة، وفهم معظم ما أسمعه وكل ما أقرأه.

جاهدت نفسي لمشاهدة المحتويات وقراءة المقالات التي أهتم بتعلمها باللغة الانجليزية بدل العربية، مثل الحياكة، والصحة، ورعاية الأطفال، وحتى الطبخ وكل ما يخطر بالبال، فأتقنت الانجليزية لوحدي في المنزل إلى درجة القدرة على التعبير عن نفسي بشكل جيّد جدّاً، وقراءة المواد المتعددة في المواقع الإخبارية، والاستماع لمحاضرات مختلفة بمواضيع متنوّعة، في فترة تُعتبر قصيرة.

لقد كان أهم إنجاز لي هو حفظ القرآن، ولو أنه جاء متأخراً ولكن أحمد الله الذي أذن لي بحفظ كتابه، فبفضله ونعمته حفظت الخُمس مع صحبة خيرٍ تعينني على ذلك..

لم يكن الطريق سالكاً سهلاً؛ إذ حصلت بعض الانتكاسات، ولكن بمجرّد أن تقتنع أن وقتك أثمن من أن يضيع هباءً، فإن الصعب يغدو سهلاً بإذن الله.

ختامًا، فإن كنت قد استطعتُ أن أقوم بذلك، فإنكَ بالتأكيد أيضاً تستطيع، وإننا مهما اجتهدنا لن نخسر الترفيه، إلا أننا سنربح أنفسنا مع ذلك.


المصادر:

(١) عن الترويح عن النفس موقع إسلام ويب

https://www.islamweb.net/ar/fatwa/129613/

مقال نيويورك تايمز:

https://www.google.com/amp/s/www.nytimes.com/2018/12/03/learning/what-have-you-learned-about-life-from-watching-movies.amp.html

 

مصدر صورة الوسائل التواصل الاجتماعي

<a href=”https://www.freepik.com/vectors/people”>People vector created by pikisuperstar – http://www.freepik.com</a&gt;

“الرحلة”.. عندما يتحول الدين إلى فنتازيا تاريخية!

تسعى شركة مانجا للإنتاج -التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية والمعروفة بـ “مسك الخيرية”- إلى “إلهام أبطال المستقبل”، من خلال إنتاج “الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو والقصص المصوّرة ذات الرسالة الهادفة”. وبناء على هذا التعريف نرى إطلالة الشركة علينا قبل أشهر قليلة بفيديو تشويقي لما وُصِف بأنه أول “فيلم أنمي سعودي ياباني” يحمل اسم “الرحلة”.

ووفق الشركة، فـ “الرحلة” فيلم إثارة وتشويق و”فنتازيا تاريخية” مستوحى من “تاريخ شبه الجزيرة العربية ومن الحضارات القديمة في المنطقة” ويروي قصة خزّاف اسمه أوس “يمر بتجربة إنسانية كبيرة ويدافع عن مدينته ضد غزو يأتيها من الخارج”.

لوغو شركة مانغا للإنتاج واستوديو توي أنميشن، منتجة فيلم "الرحلة" والاستوديو الذي قام بالتنفيذ

وشارك في إنتاج الفيلم استوديو توي أنيميشن Toei Animation، أحد أقدم استوديوهات الأنمي القائمة إلى الآن -إن لم يكن أقدمها-، والذي خرّج مَن أصبحوا بعد ذلك أساطيرًا في هذه الصناعة، أمثال هاياو ميازاكي وأوسامو تيزوكا، كما أن الأداء الصوتي في الفيلم كان على يد نخبة من المؤدين، كهيروشي كاميا صاحب الأداء الصوتي لشخصية ليفاي أكرمان من أنمي “هجوم العمالقة” وكذلك الحال بالنسبة لباقي طاقم العمل من إخراج وإنتاج.

وقبل أيام ظهر إلى النور الفيديو التشويقي الثاني للفيلم، لنكتشف أن قصة الفيلم تدور حول غزو أبرهة الأشرم للكعبة! وهكذا تصبح الحوادث والقصص القرآنية “فانتازيا تاريخية” عن “حضارات قديمة في المنطقة”! وهكذا يُلهَمُ “أبطال المستقبل” وتصنّع “أجيال صالحة مؤمنة معتزة بتاريخها وثقافتها” من وجهة نظر شركة مانغا للإنتاج ورئيسها التنفيذي (عصام البخاري)، الذي لم ينطق كلمة “الإسلام” ولو مرة واحدة طيلة مقابلة أجريت معه للحديث عن الفيلم، بل قل: كانت مقابلة تفوح منها رائحة القومية المنتنة.

“الرحلة” في عصر الصورة

باتت الصورة -التي لطالما كان لها بريقها- الآن مدعومة من قبل الإمبراطوريات الرأسمالية بما لديها من نفوذ اقتصادي وقدرات تكنولوجية، بل إن الدول بشتى أشكالها -الديموقراطية منها والقمعية- تستخدمها لتحقيق أهدافها؛ فتوحّشت الصورة وتغلغلت في مفاصل حياتنا وتفاصيل أفكار الإنسان كافّة، ورسمت حاضره وماضيه ومستقبله وحددت له الحقيقة والخيال، بل وأفقدته ذاتَه واستنزفت عمره وأنهكت روحه.

الترفيه في عصر الصورة هو المطلب والهدف، والغاية والوسيلة، فهذا العصر مُغرِقٌ في الماديات، مفرّغ من أي قيمة متجاوِزة، محكومٌ بآليات السوق، عصر سائلٌ لا مكان فيه لقِيَم متعالية، ومعانٍ سامية، وثوابت مقدسة، وحقائق راسخة، عصر نُزِعت فيه القداسة عن غير الصورة!

وما “الرحلة” إلا محاولة لنزع القداسة عن الدين، أقدس المقدسات الذي فيه معنى حياة الإنسان ومفتاح نجاته.

وبداعي الترفيه –أو بحجّته-، يصبح تحريف الدين مجرد “تعديل طبيعي في الحبكة لأغراضٍ درامية ولزيادة جرعة الإثارة والتشويق، وأمرًا لا يستحق من الجدل الكثير”، كما أن “الفن ليس مطالبًا بنقل الحقيقة والتقيد بالواقع”، و”هذا عمل ترفيهي خيالي (فنتازيا تاريخية)، وليس عملًا وثائقيًا”. ففي عصر الصورة تتغير المعايير والمقاييس والمبررات والأحكام، في سبيل تحقيق “متعة المُشاهِد”.

فلا عجب إذن إن وجدنا هذه “الفنتازيا التاريخية” انتقلت إلى عالم الأفلام والمسلسلات، ليتحول الدين في نهاية المطاف إلى مجرد مادة ثرية ينهل منها المؤلفون والأدباء، وأساطير مثيرة تُحاك حولها الحبكات وتُنسَج منها القصص والحكايات، القائمة بطبيعتها على الخيال والمبالغات وتفاصيل لا توجد إلا بمثل الإسرائيليات، لتَرسُم تصوراتنا وتشكل انطباعاتنا وتكُون مصدر معلوماتنا عن كل ما يتعلق بديننا وعقيدتنا. وفي نهاية المطاف، تختلط السردية الدينية للتاريخ بالأساطير في عصر الصورة.

هذه هي الصورة التي ستُرسم لأبرهة في ذهن كل من سيشاهد الفيلم

بعد أن يحوّل “الرحلة” قصص القرآن إلى “فنتازيا تاريخية”، يكون الدين قد استُبيح بأيدٍ عربية -مع الأسف- ليتحول إلى نمط شبيهٍ أو قريبٍ من قصص ألف ليلة وليلة، مداره الحديث عن القصص الأسطورية المحضة، فلا غرابة إذن إن قامت جهات الإنتاج الأجنبية -الغربي منها والشرقي، الأمريكي منها والياباني- باستكمال هذه “الرحلة” الفجة من تحريف الدين الإسلامي واستباحته. كأن نجد شركةً مثل (نتفليكس) تعيد كتابة تاريخنا وتصوير ديننا، ليس للعالم الغربي فحسب، بل حتى للشباب العربي بما يعانيه من انهزام حضاري وخضوع لسلطة “الثقافة الغالبة” ورضوخٍ لقوة الصورة.

وحتى إن زالت الغشاوة وذهب سحر الصورة، وظهرت التعليقات المعترِضة والردود الغاضبة، فهذا غالبًا لن يغير من الواقع شيئًا البتة، فنحن أمام “رحلة” مدعومة من أعلى السلطات في الدولة، رحلة تحريف دينٍ، واستئصال قِيَمٍ، وتغييب وعي، وتزوير تاريخ، ومسخ ثقافة، وطمس هوية، وتشويه مجتمع.

إن محض إدخال الدين إلى نطاق سيطرة الصورة، يعني أن صاحب الصورة هو من يرسم شكل هذا الدين، ويقدمه كما يشاء للفئة التي يشاء. ولك أن تتخيل الحال عزيزي القارئ حينما يكون صاحب الصورة ليس ذو نفوذٍ سياسي واقتصادي فحسب، بل صاحب أعلى سلطة في الدولة، فكيف يمكنه تشكيل هذا الدين وتقديمه على الصعيدين المحلي والعالمي؟ خصوصًا إن استخدم الأنمي في سبيل ذلك!

الأنمي.. ذلك الوافد الجديد القديم

رغم ما تحمله الأفلام والمسلسلات الحية في طياتها من خيال وأساطير إلا أنها لا تُقارن بما يمكن أن يتضمنه الأنمي من خيال بحكم طبيعته، مما قد يعني أن خطره أشد وأثره أكبر، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن الفئة التي يستهدفها الأنمي تشمل أعمارًا أصغر نسبيًا، هذا بالإضافة إلى الصورة الوردية المرسومة في المخيال الاجتماعي عن الأنمي خصوصًا واليابان عمومًا.

ولا أدل على انتشار الأنمي من تبنّي الدولة له واستعانتها به لاجتذاب ومخاطبة شبابها!

فشبكة mbc المقرّبة من السلطة، هي أول جهة عربية تتبنى الأنمي في المنطقة وتبثه بشكله الياباني المترجم الخام، من خلال قناتها mbc action ومنصتها الرقمية (شاهد)، وبهذا تضمن وصوله إلى أكبر فئة من الشباب، وكل هذا حدث منذ بضعة أشهر فحسب.

إلا أن “الرحلة” لم تبدأ الآن، فما يحدث ليس وليد اللحظة، ولا هو مجرد استغلال لوسيط رائج حاليًا، بل إن الأمر ظاهر للعيان منذ ما يقارب العشرين عامًا، مع إطلاق mbc لقناتها الثالثة (mbc3) والتي كانت مخصصة لبث الرسوم المتحركة الأجنبية -الأمريكية في الغالب- مع وجود واضحٍ للأنمي الياباني طبعًا، وكان ذلك أيضًا دون إجراء أي تعديل رقابي يراعي الدين أو القيم أو الأعراف، أو حتى عمر الفئة المستهدفة.

مثال ذلك مسلسل الرسوم المتحركة الفرنسي الكندي Totally Spies! والذي عُرف عربيًا بالجاسوسات، والذي نشأت على أفكاره العديد من الفتيات، وبطلاته شابات كل ما يستحوذ على اهتمامهن هو مواكبة آخر صرعات الموضة وإقامة العلاقات الرومنسية مع الشبان. وهذا يعطي لمحة عن طبيعة الأفكار التي تحاول قنوات mbc ضخها عبر مختلف قنواتها، أفكار أوصلتنا اليوم إلى ظواهر كانتشار “الفاشينيستات” اللواتي يجدن ملايين المتابعين والمتابعات.

شبكة قنوات mbc التي تعد من أضخم الشبكات في المنطقة العربية وأكثرها تنوعًا -إن لم تكن الأضخم- تحاول تشويه الإسلام وضخ الثقافة الأجنبية الغربية عبر كل ما تبثه من برامج وأفلام ومسلسلات عربية وأجنبية.

وفي المقابل، وعلى مدار سنين، نجد النقيض تمامًا في طبيعة وثقافة المجتمع المتلقي للمحتوى -بأعرافه وقوانينه وتقاليده-. والجدير بالملاحظة هنا أن المتحكم بالنقيضين هي الجهة ذاتها، بالتالي فإن هذا التناقض الصارخ -وما يؤدي إليه من أزمة حادة في الهوية -قد تصل إلى معاداة كل ما هو عربي إسلامي ووصمه بالتخلف- لم يكن غالبًا بمحض الصدفة؛ بل إن الدور الذي لعبته شبكة قنوات mbc في ضخ الأفكار الأمريكية أوجد لها مكانًا بين تسريبات ويكيليكس، ليس اليوم بل قبل أكثر من عشر سنوات!

هذه الشبكة هي من تروج الآن للأنمي في المنطقة، مما سيدفع إلى مزيد من الانسلاخ عن الهوية العربية والإسلامية، ولكن هذه المرة لصالح اليابان، فالأنمي هو سفير اليابان إلى العالم. وصانع القرار في هذه الشبكة، هو ذاته من يريد استخدم الأنمي لتحريف دين الإسلام ونزع القداسة عنه!

في ظل كل هذا، يستحق الأنمي حيزًا أكبر في الفضاء الإسلامي الفكري والدعوي والتوعوي، ويجدر بمن يهتم بنهضة الأمة وصلاح شبابها أن يوليه مزيدًا من الانتباه والاهتمام ومحاولة الفهم، لكي لا يتحول الإسلام وقيمه إلى “فنتازيا تاريخية”!

هل الفن وسيلة للإصلاح؟

من مزايا المنهج الإسلامي شّموليّته الواضحة في كلّ شيء، ونقصد بالشمولية هنا وجود ضوابط وأطرٍ عامّة ومقاصد أساسيّة للإسلام تتنزّل الحوادث المتجددة تحتها والبحث عن اجتهادات فيها ضمن تلك الضوابط، حيث إن الشريعة حدّدت لنا المبادئ التّي يستطيع أن يلتزم بها الإنسان المُسلم في مُختلف مجالات الحياة من سياسة واقتصاد واجتماع، ويمتدّ ذلك أيضًا إلى الفن بمُختلف أنواعه، وما ابتعدت البشريّة عن هذه الضّوابط في أيّ مجالٍ إلاّ وأتبع ذلك انحراف وفساد وانتكاسة عن الفطرة الإنسانيّة.

يتبادر إلى الأذهان أنّ الإسلام عدو للفنّ وأنّه لا يُمكن النّبوغ فيه مع المُحافظة على القِيَم والمبادئ الإسلاميّة، فكيف يُمكن –أصلاً- توظيفه في التّغيير والإصلاح؟!

يحتج البعض في رَفضه للفنّ بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْ والْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، وتعليقًا على هذه الآية نرى الإمام ابن حزم يقول في مواضع متعددة بأن الكفر متأتٍّ عن إرادة الإضلال عن سبيل الله واتخاذ ذلك هزؤًا، بل لو أن امرؤًا اشترى مصحفًا بقصد الإضلال عن سبيل الله لكان كافرًا” [المحلّى بالآثار، ابن حزم، ج7- 567] ومن ثمّ يمكن القول إنه لا علاقة لهذه الآية بتحريم الفن البنّاء السّليم والنّقي.

محمد الغزالي

محمد الغزالي

يرى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “أن الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح! فهنالك أغان آثمة، تلقى في ليال مظلمة وإن كثرت فيها الأضواء، لا تسمع فيها إلاّ صراخ الغرائز أو فحيح الرّغبات الحرام، وهناك أغان سليمة الأداء، شريفة المعنى، قد تكون عاطفية وقد تكون دينيّة وقد تكون عسكرية تتجاوب معها النّفوس، وتمضي مع ألحانها إلى أهداف عالية” [السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي، ص 109] “لقد أشاعت المدينة الحديثة الراديو والتلفزيون وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهي على سواء، ومعروف أنّ هذه الأجهزة أدوات غير مسؤولة عمّا يصدر عنها، وإنّ المسؤولية تقع على المؤلفين والمغنين والمخرجين، ففي استطاعتهم أن يقدّموا النّافع ويحجبوا الضّار” [المصدر السابق، 125].

إنّ الفن وسيلة يستخدمها الإنسان ليُعبّر عن تصوّراته في الحياة، ولينقُل ما يؤمن به من أفكار ومبادئ للمُتلقّي، فإن صلح هذا الإنسان وأبدع في فنّه فسيُنتج لنا صورة فنيّة سليمة المعالم نبيلة الأهداف تُنير الفكر الإنساني، وإن كان هذا الإنسان مُتّبعًا لأهوائه فاسد العقيدة، فلن يُنتج لنا إلاّ فنًّا مُشوّهًا لا خير فيه، بل لن يزيد المُشاهد إلاّ انحرافًا وضلالاً. فالمُشكل هُنا في الإنسان وفي كيفيّة توظيف الفن الذّي أصبح جزءًا من مُجتمعاتنا وثقافتنا المعاصرة.

الفن في الغرب

يعكس الفن في الغرب تصوّرات الأفكار والأفراد في واقع الحياة المعاشة في ظل طغيان المادة وفساد الفطرة، وأوّل ما يلفت نظرنا في الفن الغربى أنّه مشغول بالآلهة وبصراعها مع الإنسان الذّي بمقدوره الانتصار عليها والاستقلال بذاته.

وفي كلّ مرّة تكون هذه الآلهة أو القدر هي مصدر الشرّ والاستبداد، وفي المُقابل يكون الإنسان هو المُتعرّض للظلم وصاحب الحقّ، وبناء على ذلك وجب عليه تحدّي الآلهة المزعومة، حتّى يستطيع التحكّم في مصيره وصناعة تاريخه بنفسه دون الخضوع لأيّ قوّة خارجيّة. فعلى سبيل المثال الأفلام الحديثة التي يكون فيها الأبطال هم أشخاص من ذوي القدرات غير الطبيعيّة فيتمّ تأليههم في مواجهة قوى الشرّ الظالمة أو في بعض الأحيان يتطور الأمر بينهم وبين الإنسان العادي إلى صراع لإثبات قدرة انتصار الإنسان على هذه الآلهة وانتزاع السّلطة منها.

ومن مظاهر الفن الغربي أيضًا تمييع الدّين وتشويهه وتقديمه للعامّة بصورة باطلة ومنحرفة، حيث يتمّ عرض قصص الأنبياء مثلا كما حدث في فيلم نبي الله نوح وموسى بطريقة مُحرّفة فيها تجسيد للذات الإلهيّة، ففي ذلك افتراء على حقيقتها، كما أن فيها تجسيد للأنبياء ونزع للعصمة التّي منحها الله لهم، ولا ينتهي الأمر هنا بل يتمّ غالبًا عن طريق الفن ربط التطرّف والتخلّف بالدّين، خاصة بالإسلام، كما يتمّ الاستهزاء به في المسرحيّات من أجل المُتعة والتّسلية.

أمّا على المستوى الاجتماعي فقد أصبح الفن تهديدًا للأمن والاستقرار داخل المجتمع، حيث يتمّ تبرير أعمال العنف والقتل لشخصيّة عاشت ظلمًا اجتماعيّة واضطرابات نفسيّة وجعلها ضحيّة يتعاطف معها المُتلقّي، فتُصبح له قابليّة للّجوء للعنف الجسدي واللّفظي كلّما وقعت له مظلمة من باب التمرّد على النّظام القائم، وهذا ما حصل عندما تمّ عرض فيلم الجوكر الذّي انتقِد بشدّة بسبب العنف المفرط فيه إلى جانب التّبرير لإجرام هذه الشّخصيّة، وخلال عرضه في دور السّينما الأمريكيّة تمّ نشر وحدات أمنيّة إضافية فيها خوفًا من تداعيات عرض هذا الفيلم.

الجوكر أحد أشكال الفن

لم يترك الفن في الغرب العلاقات بين الرّجل والمرأة على شكلها الفطري، فلا يكاد يخلو عمل فنّي من عرض مفاتن المرأة من باب الإغراء والمُتعة وتقديس الجسد، كما بات عرض العلاقات الجنسيّة المُحرّمة وكأنه جزءٌ من الدلالة على الحبّ، حيث لا بدّ من تلبية الغرائز كلّما سنحت الفرصة لذلك بدون تحرّج أو قيود أخلاقيّة، ومن شدّة الانحراف الفنّي أصبح يُروّج اليوم لزنا المحارم، والشّذوذ، بل وصل الأمر بأن تقوم نتفليكس بالدفاع عن إدراج فكرة اشتهاء الأطفال والدعوة للمثلية وعرض أفلام من بطولة أطفال مراهقات بما لها من إيحاءات جنسيّة مبالغ فيها!

إنّ مثل هذا الفن، الذّى يتم إخراجه بإتقان وجودة عالية تأسر المُتلقّي، وذلك لن يُنتج إلاّ إنسانًا كارهًا للدّين، جاحدًا لربّه مُنغمسًا في شهواته مُتّبعًا لأهوائه بدون حدود، ونحن لا نُنكر وجود روائع إنسانيّة عميقة وعالية فيها مشاعر راقية في الفن الغربي، إلا أن قول ذلك يجب ألّا يحجب عن أبصارنا المفاسد التي ذكرناها وما يترتّب عليها من انحرافات.

الفن في مُجتمعاتنا

ربما يقال إن بداية الفن في مُجتمعاتنا كانت تحترم التّقاليد اليومية والأخلاق، وعندما دخلنا في طور الحداثة أصبح أرباب الفن مولعين بتقليد الغرب في كلّ شيء يُناقض قيم الإسلام، لقد بدأ الفن ينسلخ رويدًا رويدًا عن منهجه في إظهار مشكلات المجتمع إلى تحريف فكره، وأصبح من الضروري فيه أن تظهر المرأة بطريقة جذّابة ومُغرية، وأصبحت بعض الانتاجات الفنيّة تعرض العلاقات المُحرّمة من دون حرج باسم الإبداع والحريّة وذلك بهدف تحصيل أكبر نسبةٍ ممكنة من المُشاهدات.

أصبحت لحظات الضّعف والانحراف أمام الغرائز والنّزوات تُصوّر على أنّها بطولة فانقلبت المفاهيم عندنا، لقد تحوّلت الخيانات الزّوجيّة واتّخاذ العشيقات حبًّا وتضحية، وتحوّل التعرّي واللّباس الفاضح وغير اللائق تحرّرًا ومُوضة يتسابق إليها شبابنا اقتداءً بالمشاهير من الفنّانين والفنانات، وتحوّل الكلام الفاحش وعقوق الوالدين وشرب الخمر والتميّع رُجولة وفخرًا، وكلّ ذلك يُقام في الأعمال الفنيّة عندنا باسم الواقع وتشخيص حالة مُجتمعاتنا!

كما أصبح الفن اليوم طريقًا لتشويه قُدواتنا الإسلاميّة وتزييف التّاريخ ووصفهم بالتطرّف والإرهاب والقدح المسيء حتّى تنفر العامّة منهم بدون الاطّلاع على سيرتهم وما قدّموه لأمّتنا الإسلاميّة، ونذكر على سبيل المثال الهجمة الشرسة في احدى المُسلسلات على شيخ الاسلام بن تيميّة وجعله سببًا لاتّباع شبابنا لمنهج التّكفير وإباحة دماء الأبرياء، ولنضف إلى ذلك ما يتمّ ترويجه من أباطيل في أعمال فنيّة حديثة باستغلال ما تقوم به  بعض التنظيمات المتطرفة لإلصاق تُهمة القتل والعنف بالاسلام دون توضيح الحقيقة للمُتلقّي ودون تبيين انحراف هذه التّنظيمات عن الحقّ.

لن ينتهي دور الفن هنا بل سيزجّ في السياسة عن طريق إنتاج مُسلسلات ذات جودة عالية هدفها تزييف الحقائق وتلميع صورة الأنظمة الظالمة والمستبدّة، بهدف تبرئتهم من كلّ إجرام قاموا به داخل أوطانهم وخارجها، بل أصبح الفن اليوم يُوظّف من أجل تبرير جريمة التّطبيع مع الكيان الصّهيوني وإقامة الحفلات الغنائيّة إرضاءً لقرارات السّلطة الحاكمة واستجابة لطلبها!

وقد انعكس كلّ ذلك سلبًا على مُجتمعاتنا وانتشر بيننا العنف والفساد الأخلاقي والجمود والوهن أكثر من ذي قبل. ولنا أن نتساءل الآن إذا كانت هذه صورة الفن عندنا، فما البديل الذّي يُقدّمه الإسلام لنا؟

الفن في الإسلام

إنّ الالتزم بمنهج الله في الفن لن يجعله عبارة عن مواعظ وخطب وإرشادات دينيّة متسلسلة، ولن يتحدّث العمل الفني عن العقيدة والفقه فقط، ولن يكون مُنفصلاً عن واقع الحياة عن طريق تقديم صورة مثاليّة للإنسان غير قابلة للتّطبيق، بل سيجعله يتناول كلّ جوانب الحياة ومشاكلها بكلّ حرّية من زاوية التصور الإسلامي.

قد يتحدّث الفن الإسلامي عن الكون فيصوّر لنا جماله وارتباطه بالخالق ويصفه لنا على أنّه خليقة ذات روح تُسبّح لله وتخضع له وتشهد على من عاش فيه وكلّ مخلوق موجود فيه إلاّ وله حياة وروح كما قال الله لنا في كتابه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]

وقد يتحدّث الفن عن الإنسان فيراه خليفة الله في الأرض وعبدًا له يستمدّ حياته ووجوده من الله وحده وأنّ له دورًا فاعلاً في الحياة، وأن هذا الكون مُسخّر له ليُصلح فيه ويُحارب الظلم والشرّ، ومن ثمّ يكشف عن حقيقة الإنسان الذي له منافذ ضعف يستغلّها عدوّه الأوّل الشيطان ليُغويه، فتكون هنا مُجاهدة النّفس والشيطان من أجل اتّباع منهج الله والثبات عليه وتربية النّفس على ذلك.

بكل تأكيد فإنه من المهم للفنّ مُعالجة العلاقة بين الجنسين بإعطائها طابعها الإنساني النّظيف الطاهر بعيدًا عن الرذيلة والشّهوات، وأن يظهر أن العلاقة الطاهرة مهمة لبناء مُجتمع مُتوازن ونقيّ وتغيير واقعه والنّهوض به.

وقد يتحدّث الفن عن رسول الله عليه صلى الله عليه وسلّم فيُخبرنا عن حياته وأخلاقه وعن علاقته بربّه وعلاقته بأصحابه وبأهله وأزواجه وعن غزواته وكيف نصره الله فيها، وعن كفاحه من أجل نُصرة الحقّ ودحض الباطل، ليكون خير قدوة لنا في مُختلف المجالات، ولنتعلّم منه كيف نُدير حياتنا ونحياها.

قد يتحدّث الفن عن المُستويات العليا للجمال التّي تشمل كلّ مجلات الحياة كجمال الأخوّة الاسلاميّة ومدى حاجتنا لها اليوم، وجمال الحبّ الذّي يشمل الحبّ الإلهي والإنساني وجمال الأخلاق، وكيف تحيى الأمم بها، وكذلك جمال الصّبر على محن الحياة والعزم على تجاوزها مع التوكّل الله الذي بيده كلّ شيء، وجمال الخير الذي يجب أن يكون ديدنه كلّ إنسان، وجمال الحقّ والعدل الذي تقام بهما الدّول النّاجحة، وجمال الحريّة والكرامة التّي تطمح إليها الشّعوب والأمم المقهورة والمظلومة، وجمال العلوم التّي تنهض بها الأمم وتُنير بها طريقها وتُحقّق بها استقلالها، وجمال النّضال والبذل والتّضحية بالمال والنّفس من أجل الإصلاح والتّغيير والعودة لمنهج الله ومُحاربة المُنكر والجمود والجهل، وجمال الجهاد الذي تكسر به الأمّة قيود الاستعمار والمذلّة والاعتداء على حُرماتها.

وللفنّ أيضًا أن يُجسّد لنا الواقع ومشاكله الكبرى بدون إفراط أو تفريط، وفق الضوابط الإسلاميّة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وتسليط الضوء على الانحرافات النفسيّة والخُلقيّة التّي يعيشها الفرد منّا مع تقديم الحلول لها في شكل فنّي إبداعي وفق الهدي الإسلامي.

وخلال هذا كلّه يُصبح للفنّ الإسلامي مجال واسعٌ للتّعبير الشامل في كلّ مجالات الحياة، وإنّ مثل هذا الفن سيُساهم بلا شكّ في ترسيخ القيم والمفاهيم الإسلامية بيننا، وسيلفت كذلك نظر المُتلقّي إلى مواضع الخلل التّي تعيشها مُجتمعاتنا وكيفيّة النّهوض بها، وسيدفعه ذلك إلى العمل وعل والهمّة من أجل التّغيير.

إننا لن نصل لهذا المستوى الفنّي إلاّ في وجود فنّانين تشبّعت أنفسهم وقلوبهم التصوّر الإسلامي الصّحيح، فتراهم يتطلّعون للإصلاح، كما أن علينا دعم مواهب شبابنا المُسلم في هذا المجال، والإحسان تأطيرهم وعدم غلق باب الفن عنهم فيفرّون من دينهم ويُسخّرون طاقاتهم الابداعيّة في الفن القبيح المشوّه والمنافي للأخلاق.

كيف يُروج للإلحاد في الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية؟

تعيش المجتمعات الإسلامية حاليّاً مرحلة من الانفتاح غير المنظّم على كل التقنيات الحديثة، مما أدّى إلى إحداث فوضى والاختراق الفكري في عقول الجيل المسلمين، ولم يترك الملحدون وسيلة يمكن أن تصل إلى المسلمين إلا واستغلوها لبثّ أقوالهم وأفكارهم فيها، حتى إنك تراها في الألعاب الإلكترونية والتطبيقات الرقميّة وغيرها من الوسائل، مما يظهر أن هناك مجهودات كبيرة في تصميمها، والملايين من الدولارات المخصصة لترويجها، وهذا يظهر أن شبكات الإلحاد مستعدة لصرف الملايين لحرف الناس والترويج لأفكارهم.

الألعاب الإلكترونية والترويج للباطل

 اتجه الملاحدة إلى بث فكرهم في الألعاب عن طريق وضع رسائل مشفرة وخفية بها، ومن هذه الألعاب لعبة Assassin’s Creed التي تعني عقيدة القتلة، وقد اتخذ مروّجو اللعبة شعار حرف (A) الذي هو في الوقت ذاته شعار الإلحاد، كما أن اللعبة تحتوي في داخلها على العديد من العبارات التي تروّج لإبطال الدين والإيمان بالمطلق، مثل “عندما ينشغل الناس بالحقيقة فتذكر دائمًا أنه لا توجد حقيقة”،  ومثل عبارة “عندما يقيّد الناس بالأخلاق والشرائع تذكر دائمًا أن كل شيء مباح”.

شعار إحدى الألعاب الإلكترونية

بنيت هذه اللعبة على تفاصيل ومراحل كثيرة، وفي أحد أجزائها تدور الأحداث حول “تفاحة عدن” حيث يقصَد بها شيفرة حرية الإرادة، وبالسيطرة عليها تستطيع السيطرة على عقول البشر،  تدور المنافسة بين طرفين هم القَتلة وفرسان المعبد،  حيث يحرس القتلة التفاحة ويمنعون فرسان الهيكل من الحصول عليها بهدف الحفاظ على حرية إرادة البشر.

إن المسألة هنا لم تعد مسألة تسلية وإنما تجلٍّ للصراع بين المؤمنين بحرية الإرادة وبين من يرى الإنسان خاضعًا للتفاعلات الكيميائية، وهذه المشكلة بحد ذاتها معضلة فلسفية كبيرة عند الملحدين والماديين، فهم ينفون للإنسان حرية الإرادة، إلا أن الإرادة الحرة في هذه اللعبة ليست إلا “كود جيني” فلو استطاع الإنسان تعديله بالهندسة الوراثية فإنهم –كما يروّجون- سيكونون قادرين على إلغاء حرية الإرادة الإنسانية، لأن حرية الإرادة هي أساس الشر في العالم.

إلى جانب هذه اللعبة نرى أيضًا لعبة Fortnite المليئة بالرسائل الخفيّة، حيث يمارسها اللاعب لساعات طوال يختلي فيها مع أشخاص يحادثهم حيث يروّجون لأفكار الإلحاد، فضلاً عن الترويج لبعض العقائد الوثنية القديمة كرقصة عُبّاد الشمس. 

الألعاب والحض على التأليه

  وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ألعاب أخرى أكثر صراحة في نشر أفكارها الإلحادية دون تلميح كالألعاب السابقة مثل لعبة  Doodle godحيث إن شعار هذه اللعبة مكوّن من مثلث بداخله العين الماسونية، وتنطلق اللعبة من المقولة الآتية “أطلق العنان لإلهك الداخلي وأنشئ الكون”، ومن هنا فإن فكرتها قائمة على تجسيد اللاعب ليكون هو (الإله) الذي يقوم بدور خلق الحيوانات والأدوات والعواصف والبراكين، ولا ريب أن في ممارسة هذه اللعبة حرمة شرعيّة لما فيها من مخاطر كبيرة وتشكيك وانتقاص في حق الذات الإلهية وصفاتها، ولما فيها من انتهاك لحرمات الله، وتبديد لما وقر في نفوس الناس من تمجيد لله تعالى.

  يدخل في الإطار ذاته نشر الكثير من الألعاب التي تدور حول التعظيم إلى درجة التأليه، حيث يحتوي معظمها على كلمة (God) مثل لعبة (إله النور،  وإله الحرب،  واختبار الإله،  وإله الخدع،  وإله المعركة..إلخ) وغيرها الكثير من الألعاب التي تروّج للباطل بشتّى وجوهه،  ولمواجهة هذه الألعاب ومعالجتها لا بد من محاربة الفكرة بالفكرة واللعبة باللعبة، فيتوجب بذلك تصميم ألعاب إلكترونية قادرة على مواجهة الإلحاد وقادرة على غرس العقيدة والتعاليم الصحيحة في عقول الأطفال والشباب،  وتوعيتهم من خطر هذه الألعاب، وحث الوالدين على متابعة أبنائهم عند انشغالهم بالألعاب الإلكترونية.

أفلام الكرتون وحِيَلُ الإلحاد

من الظاهر للعيان أن مروجي الإلحاد لم يتركوا فئة من المجتمع إلا واستهدفوها بخطابهم للترويج للعقائد المنحرفة –كلها أو بعضها- التي يؤمنون بها، مستفيدين بذلك من وسائل الإعلام التي تؤثر في عقول البشر.

لننظر إلى الرسوم المتحركة مليًّا، وسنرى الكثير من الرسائل المشفّرة فيها موجهة لأطفالنا، هدفها أن تفسد عقولهم ودينهم وعقيدتهم التي يجاهد الآباء في غرسها فيهم، إلى جانب المشاهد المخالفة للشرع التي لا يكاد فيلم يخلو منها، حيث يختزن الأطفال العديد من الأفكار والسلوكيات التي يرونها في الذاكرة، وتُحدث تلك المشاهد تراكمات داخلية تظهر بعد ذلك في شكل سلوكيات أو أفكار في وقت لاحق.

أمثلة ونماذج

  من الطبيعي أن تجد الأفكار المناقضة للدين منتشرة في أفلام الكرتون خاصة أن منشأها من بلاد الغرب حيث الانحلال والانفلات الأخلاقي والدعوات المستمرة لإنكار وجود الله، بالرغم من أن كل هذا لا يمثل إشكالًا عند عرضه على أطفالهم، وبالتالي ينشأ الأبناء على قصص وأساطير وصراعات الآلهة، وكل هذا تحت مسمى تنمية خيال الطفل، بل وربما عند موت البطل يبعث مرة أخرى حتى لا يجرح نفسية الطفل وليعزز عامل الإثارة والتشويق.

إن من أخطر ما يتلقاه أبناؤنا من تلك الأفلام ما يكرس النواقض العقدية مثل تكريس الإيمان بالسحر حيث لا يكاد يخلو فيلم من أفلام الكرتون من نوع من السحر، سواء في دور الساحر الشرير المتحكم بمجموعة من الأشرار، أو الساحر الطيب الذي يسخره لفعل الخير، حيث يَلْجَأ إليه لحل المشكلات، ومساعدة الأبطال ومنحهم القدرات الخارقة، ويمكن ذكر أمثلة عديدة على ذلك كأميرات ديزني، وخلطات بابا سنفور التي تعيد الحياة والصحة وتعيد الأوضاع إلى طبيعتها، وكما في مارلن ودورايمون ونوبي،  ودروبي مع دوري مي،  وبن 10،  وأدغال الديجيتال، وصولًا إلى فتيات القوة،  والتي قام البرفيسور بصناعتهن وخلقهن -حسب زعمهم- من تركيبات كيميائية، وهي المعلومة التي يؤكدون عليها ويذكرونها مع كل حلقة من حلقات المسلسل قبل بداية الحلقة.

إضافة إلى ذلك نرى العديد من أفلام الكرتون القائمة على فكرة مصارعة الآلهة، أو تخصيص الإدارة بين الآلهة ليقوم كل إله بإدارة جزء من الكون، وهذه الآلهة -في نظرهم- تُجَسِّم كأشخاص لهم بنية جسدية أكبر، أو نور في السماء، أو حتى أصنام؛ فلا يهم ذلك كله، ويمكن أن يمثل لذلك بكرتون يوجي يوم، والسنافر فلا يكاد يحدث حدث عظيم إلا ويتبعه بابا سنفور بشكر (الأم الطبيعة) على فضلها، ناهيك عن كون وجود آلهة للشر تنظر من السماء لتحرك الأشرار وتقودهم للتدمير والخراب ونشر الفوضى والقتل،  ثم إعادة من قُتل منهم إلى الحياة،  ليكمل دوره في الفساد في الأرض،  كما في مغامرات جاكي شان، ومات هارت، بالإضافة إلى الكثير من الأفلام التي تنشر الكريسماس وللهالوين.

أين الخلل؟

تغيب شعائر الإسلام عن أفلام الكرتون كمشهد الصلاة أو قراءة القرآن أو الحديث الشريف ولذلك نرى أن أفكار الأفلام الكرتونية المنقطعة عن بيئة المسلمين تجرّد الطفل بشكل غير مباشر من كل ما يربطه بالدين، ولن يكتفي أصحاب الأفلام بذلك بل يحاولون تَلويث العقيدة بأساطيرهم التي يملؤون بها عقول الأطفال والتي تختلف مع العقيدة الإسلامية مثل ادِّعائهم تعدد الآلهة والخارقين مثل إله النار وإله الخير وغيرها، وهي بذلك تهدم عند الطفل بعض مفاهيم العقيدة وأساسياتها فتعدد الآلهة يؤثر على فكرة التوحيد.

أما عن الأزياء والحجاب فحدّث ولا حرج، إذ تُعدم تمامًا أية مشاهد لبطلات في أفلام الكرتون ترتدي حجابًا، بل جميعهن يرتدين ملابس غير لائقة لأن ترتديها امرأة، فضلاً عن أن يراها طفل صغير، عدا عن المشاهد المخلة في مقاطع كثيرة كما في فيلم قُبلة الضفدع، وأميرات ديزني، وشريك والأميرة فيونا، والجميلة والوحش.

ما العمل؟

أول المشكلات التي تدفع أولادنا للضياع في وسائل الترفيه تكمن في انشغال الآباء والأمهات في أعمالهم، ومن ثمّ يتجه الأطفال إلى ملء أوقاتهم بوسائل التسلية من كرتون وألعاب إلكترونية وغيرها الكثير من الوسائل التي تكون معهم أمًّا وأبًا بديلين، إضافة إلى ذلك فإن الآباء لا يكادون ينتبهون لنوع المحتوى المقدم إلى أبنائهم، بينما كان من الواجب عليهم أن يتابعوا مضمونها قبل عرضها على أبنائهم، عملا بالواجب الذي تحتمه الأبوة والأمومة فكما يختار الوالدان الأصدقاء الصالحين ذوي الأخلاق الطيبة لأبنائهم ويبعدونهم عن أصدقاء السوء، فمن الواجب عليهم أيضاً اختيار المادة الكرتونية المحافظة على الأخلاق والتعاليم الدينية.  

كما يجب على الوالدين السعي للبحث عن بدائل للتسلية لأطفالهم تناسب أعمارهم، وقدراتهم ومهاراتهم كممارسة الرياضات البدنية والذهنية والبرمجة وأساسيات العلوم والفنون وحفظ القرآن والسُنة، وتعليمهم أصول دينهم.

فإما هذا، وإما أن نستيقظ وقد جالت قطعان الذئاب في الغنم!، وقد استولى مروجي الإلحاد على العقول بشكل كامل.

كذلك يجب على العالم الإسلامي تبني إنتاج مشاريع لمواد كرتونية ذات جودة عالية، وبُعدٍ ديني وقيمي وأخلاقي، وفيها من الإبهار والتشويق والحبكة والتسلية ما يجذب الطفل المسلم إليها، ولذا فإنه لا بد من حل مشكلة نقص الكوادر المؤهلة في إنتاج أفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية بجودة عالية، وكذلك فرق إنتاج وإخراج وتصوير أفلام الكرتون وغيرها، ومحاولة تطوير هذا المجال كي نعتمد على إنتاجنا ونكون قادرين على المنافسة مع الإنتاج الغربي، وأيضًا يجب تخصيص مقدّرات مالية أعلى لإنتاج  محتوى عالي الجودة قادر على المنافسة العالمية وقادرة على جذب انتباه الأطفال لمتابعتها.

إن المنصات المنزلية قنوات الأطفال وأدوات الترفيه، لا تقل بحال عن مواقع ومنصات صناعة الوعي، فإذا لم يكن هناك اهتمام لائق بالنشء، فلا تنتظر مستقبلًا أفضل مما نعيشه، فالأطفال أمانة وضعها الله في أعناق آبائهم، وسيُسألون عنها أمام الله. وتركهم فريسة لقنوات الأطفال وأفلام الكرتون يؤدي إلى خلخلة أساسات البناء القيمي والأخلاقي ؛ نظرًا لطبيعة أفلام الكرتون المأخوذة من سياق تاريخي وثقافي وقيمي وديني مختلف.

 

سحر الويكا: كيف تسللت عبادة الشيطان إلينا عبر السينما والمناسبات؟

أنتجت هوليود في العقدين الأخيرين الكثير من الأفلام والمسلسلات عن السحرة والقوى السحرية، وسلّطت وسائل الإعلام الأضواء بشكلٍ أكبر من أي وقتٍ مضى على الويكا وطقوسها، كما ضمنتها في ألعاب عن التعاويذ تستهدف أطفالاً بعمر ال١٠ سنوات.

غلاف كتاب: سحر الويكاتتصدّر كتب الويكا والسحر والشعوذات رفوف المكتبات في الغرب، وتلاقي رواجاً كبيراً لاسيما بين المراهقين، وتناقش كاثرين ساندرز صاحبة كتاب “سحر الويكا Wicca’s charm” أهم الأسباب التي تشدّ المراهقين والشباب لهذا الموضوع في عدة نقاط، فما هي؟

أولى تلك النقاط هي “تملّك الفتيات للقوة” فبحسب أساطير الويكا التي يُقال إنها بدأت منذ ٣٥٠٠٠ سنة، كانت النساء هنّ الحاكمات ويعبدن الطبيعة والآلهة الإناث، وكانت الحياة هانئة مسالمة، إلى أن جاء “الغزو الذكوري” الذي عكّر صفو المجتمعات النسائية وأرضخهن، ومنذ ذلك الوقت تحاول النساء استعادة الملك والسُّلطة من الذكور، ويروّجن بأنّ على النساء التحالف سويةً لتمكين الآلهة النسوية من استعادة الحكم مرةً ثانية ليعم السلام مجدداً.

أما النقطة الثانية فهي: وَهْمُ “القوة المطلقة” حيث تبدو فكرة السيطرة على القوى الخفيّة المؤثّرة بما حولنا جذّابة للمراهقين، خاصةً أن الويكا توهم هؤلاء بأن السحرة الصغار على قدرٍ أكبر من القوة والقدرة على التحكم والسيطرة ممن هم أكبر منهم سناً، بالإضافة لذلك يضفي الطابع السري لممارسات الويكا غموضاً وإثارة تزيد من إغراء تلك الفئة العمرية.

في حين أن “حماية الأرض” تعد النقطة الثالثة، حيث إنه في عالم يعاني من تغييرات مناخية كبيرة معظمها ليس في صالح الأرض والطبيعة، يجد المراهقون في الويكا التي تقدس الأرض والطبيعة فرصةً لإحداث تغيير للأفضل.

على طريقتي وحسب هواي
هذه إحدى أهمّ صفات الويكا ومبادئها، فليس ثمّة قوانين ضابطة فيها ولا ثوابت، بل يقولون: كل شيء ممكن، ولا يوجد خطأ أو صواب، ولكل شيء استثناء، وكل إنسان بإمكانه اختيار القوانين التي يرى أنها تناسبه وتلائمه، وفي المراهقة التي لم تنضج فيها فكرة الأمور المطلقة والثوابت الأخلاقية، ستجد الويكا لها طريقاً سلساً في عقول ومنطق هؤلاء الصغار في كل مكان.

يسرد موقع focus on the family تجربة لإحدى المنتسبات للويكا تقول فيها الفتاة المسيحية “كاثي” بأنها قررت في فترة المراهقة أن تعرف أكثرعن هذا الديانة الوثنية المحيطة بها من كل مكان، فكانت تعيش في مدينة سايلم الأمريكية والتي تشتهر بتاريخ حافل بالساحرات وممارسة طقوس السحرة.

تعرفت الفتاة على راهبةٍ ويكيّة، ثم حصل أن ضمّت الأخيرة الفتاة تحت جناحها واهتمت بتعليمها السحر، وطمأنت الفتاة بأن أفعالها إنما هي “سحر أبيض” لا مشكلة فيه، بل على العكس قد يعود بالنفع على الكثيرين، وبعد عدّة سنوات أتقنت الفتاة الفنون السحرية التي تعلمتها، إلا أن الأمور سارت لتنحني نحو السواد والظلام[1]، وشعرت بأنها تنحدر تدريجياً إلى أمور غامضة لا تمت بصلة لكل ما قيل لها من قبل.

وجاء اليوم الذي رأت فيه ما لم يخطر ببالها، فبينما هي في غرفتها في نهارٍ صيفي حار، تشعر فجأة بالبرد وتصاب بالرجفة والقشعريرة وتتراقص أمامها فجأةً العشرات من الشياطين السوداء حسب وصفها، ضاحكين بصوت عالٍ، فتحاول الفتاة تلاوة ما تحفظه من تعاويذ وتمتمات لتطردهم، ولا يزيدهم الأمر إلا ضحكاً، وتزداد المسكينة رعباً، ثم تناجي الله بصلاةٍ تعلمتها في طفولتها، فيعود كل شيء إلى طبيعته، الأمر الذي قادها فيما بعد لترك كل ما له علاقة بهذه الديانة إلى الأبد[2].

هل الويكا كذبة بيضاء؟
غلاف كتاب "الويكا: الكذبة البيضاء الصغيرة للشيطان"يقول ويليام شنوبلن Schnoebelen العضو السابق في الويكا في كتابه الكذبة البيضاء الصغيرة للشيطان: “الويكا هي واحدة من أكثر الخدع المغرية التي توصل إليها الشيطان”، ويصف كيف أن رغبته الدافعة كانت الحصول على مزيد من المعرفة بأسرار عالم الروح. لكن أساتذته قادوه إلى مسارات انتهت بالخداع فقط، وقد علم فيما بعد أنها كانت طرقًا بالية لا أكثر، وأنّ سحره الأبيض في “حركة العصر الجديد” لم يكن سوى عبادة الشيطان القديمة.

يكمل شنوبلن بأن فلسفة العصر الجديد التي تروّج لها ديانة الويكا هي مجرد اختلاق حديث لأكاذيب الشيطان المركزية: يمكن للإنسان أن يصبح إلهاً، وللوصول إلى هناك يجب أن “يتطوّر” من خلال العديد من التناسخات، لكنه اكتشف أن تطوّره وصعوده ما كان إلا “نزولًا”، ويشرح بالتفصيل كيف انتقل من الرقص عاريًا في الغابة إلى القيام بالتضحيات الدموية والنوم في نعش!

أعياد الويكا
يحتفل أتباع الويكا بثمانية أعيادٍ في السنة تسمى الأسبات (جمع سبت) Sabbats، وسنرى فيما يلي أن العالم المسيحي الحديث قد اقتبس معظم أعياده منها، ونشرها حول العالم تحت تأثير العولمة، وهي بالترتيب:

أعياد الويكا

السامهان Samhain
يُحتَفَل بهذا العيد في 31 من أكتوبر ويمثل بداية السنة أو دورة الزمن عندهم، ونهاية فصل الضوء، وبداية الظلام، ويتم فيه التعبير عن الشكر والامتنان على ما أُعطوه في السنة الماضية. والأدلة المكتشفة في إيرلندا واسكتلندا وبريطانيا على احتفال القدماء بهذا العيد قبل المسيحية، وهو ما قد يجمع اليوم بين ليلة الهالوين وعيد الشكر.

 يول Yule
يُحتفل به في وقت الانقلاب الشتوي فيما بين ٢٠-٢٥ديسمبر، وحسب الباحث ريفن غريماسي Raven Grimassi في كتابه روحانية الساحر spirit of the witch “يمثل يول بالأساس تجديد دورة الحياة، ففي الوثنية القديمة آمن الناس أن الانقلاب الشتوي هو الوقت الذي يولد فيه إله الشمس من جديد” وقد كانت تُنصب الأشجار في الخارج ويتم تزيينها لإيمانهم أنها تجلب البركة من الآلهة والأرواح، واحتفالاً بولادة إله الشمس، وتُقدم الهدايا. وكما أشار غريماسي إلى أن شجرة الزينة يجب أن تكون دائمة الخضرة لترمز إلى قوة الحياة التي ستنجيهم من فصول السنة الصعبة. وكما نرى فهو عيد يتطابق في وقته وطقوسه مع عيد الكريسماس – عيد الميلاد- لدى المسيحيين اليوم.

إيمبولك Imbloc
تعني البطن في اللغة الإيرلندية القديمة، ويحتَفَل به في ١-٢فبراير وتشير إلى الأغنام الحوامل، ويعد هذا اليوم هو نقطة الوسط الفاصل بين الانقلاب الشتوي والاعتدال الربيعي، ويعبر عن التطهير والخصوبة والأمل ووعد المستقبل، وقد تجسّدت هذه المفاهيم في شخصية الإلهة بريدجيت، إلهة الطب والشعر والخصوبة والحدادة والينابيع المقدسة، وفي التقاليد المسيحية في بعض البلاد لا يزال يُحتفل بهذا اليوم كعيد للقديسة بريدجيت!

أوستارا Ostara
ما بين ٢٠-٢٣مارس حيث يتم الوفاء بالوعود والآمال التي حملها عيد إيمبولك في عيد أوستارا أي عيد الاعتدال الربيعي، ويأتي اسم العيد من إلهة الربيع والخصوبة الجرمانية إيوستر Eostre، والدة الفجر التي -وفقاً للأساطير القديمة- عادت الآلهة للظهور من تحت الأرض حيث كانت نائمةً لعدة أشهر.

طقوس الاحتفال تشمل البيض الملوّن والكتاكيت والأرانب والزهور، تركيزاً على الولادة والتجديد، ويُقرن رمز البيضة بمفهوم المتاهة، حيث يتم اخفاؤها والبحث عنها، وتعود هذه الفكرة حسب زعمهم إلى العصر الحجري الحديث في مناطق مختلفة مثل إيرلندا والهند واليونان، وهي بمثابة تمثيل رمزي لفصل الذات عن الواقع الخارجي الحالي، وبالتالي إيجاد معنى أكبر داخل الذات، تماماً كما الطقوس الممارسة في عيد الفصح في أيامنا.

بلتان Beltane

صورة من الريف الانكليزي عام ١٨٨٤ لأشخاص يحتفلون حول المايبول

يحتفَل بهذا العيد بما بين ٣٠أبريل- 1مايو- حيث يأتي النور والخصوبة بقدوم الصيف، ويُعتقد أن الاسم مأخوذ من عبارة نيران بيل Bel’s fire في إشارة إلى بيل Bel إله الشمس السلتي وتعني حرفيّاً النار الساطعة، في مراسم الاحتفال تُضرم النيران ويبدأ الرقص وغالباً حول شجرة كما في العصور القديمة، وتطورت مع الوقت رمزية الشجرية إلى رمز على شكل عمود يعرف باسم مايبول Maypole، يتم تزيينه بخيوط طويلة وشرائط يمسك بها المشاركون.

 

احتفال البلتان حول العمود في قريبة شاغورد البريطانية Chagford عام ٢٠١٢[3]

احتفال ليثا
ويكون فيما بين ٢٠-٢٢ يونيو ويُعتقد بأنه الاسم الانجلوساكسوني لشهر يونيو، يُحتفل فيه بأطول يوم في السنة، ويُعتبر هذا اليوم نقطة التحوّل في العام، ويشتمل الاحتفال على إشعال النيران والرقص وتناول الفواكه الطازجة وكعك العسل والولائم فرحاً بانتصار النور على الظلمة، مع توقّع الظلام الذي سيتفوق على النور في الأيام المقبلة -حيث يزداد طول الليل تدريجياً على حساب النهار- والرجاء بأيام خفيفة وطويلة تعود إليهم بعد الفصول المظلمة.

الممارسات الشائعة في هذا اليوم بالإضافة إلى الأعياد والنيران هي حماية النفس وتحصينها من القوى غير المرئية التي استيقظت حديثاً في عيد بلتان السابق والتي تكون اليوم في كامل قوتها وقد تسبب ضرراً كبيراً.

ويتم صنع التعاويذ للاحتماء وخاصة لمن يعقدون زيجاتهم في هذا اليوم، الذي يحرص الغالبية على اختياره يوماً للاحتفال بالزواج كجزء من الاحتفال الكبير.

لوغ ناساد Lughnasadh
يكون هذا الاحتفال في 1 أغسطس، وقد سمّي باسم الإله السّلتيّ “لوغ”، الذي يمثّل إله لنظام والحقيقة، وهذا الاحتفال عبارة عن مهرجان حصاد يُحتفل فيه بمرور الصيف إلى الخريف.  وتُقدّم فيه أولى ثمار الحصاد للآلهة والإلهات.

مابون Mabon
يحتفل بـ مابون في الاعتدال الخريفي من خلال الشكر والتفكر بما اكتسبه الفرد وخسره على مدار العام وذلك في ٢٠-٢٣سبتمبر ويقابله عيد الشكر في القارة الأمريكية، أما الاسم فهو ابتكار معاصر، صاغه الكاتب الويكي أيدان كيلي Aidan Kelly مؤخرًا في سبعينيات القرن الماضي، لكن الاحتفال بالاعتدال الخريفي يُعدّ ممارسة قديمة جدًا.

إلى أين تسير وثنية الويكا؟
في الختام لا بدّ من التساؤل عن مدى انسياق العالم تدريجياً نحو الروحانيّات الشيطانية لأسباب عديدة بفعل الإعلام وجهوده الحثيثة وتبني ما يسمى دين العصر الجديد، والويكا ليست إلا أداة جذابة من أدوات هذا الدين لاستهداف صغار الشباب والشابات من مختلف الثقافات والمجتمعات، ليتفقوا جميعاً في النهاية أن دين المرء هواه، وإلهه نفسه ورغباته.

نسأل الله السلامة والثبات على دينه الحنيف.


المصادر والهوامش:

https://www.ancient.eu/Wheel_of_the_Year/

https://www.chick.com/battle-cry/article?id=Wicca-Seduction-of-the-Innocents

https://www.focusonthefamily.com/parenting/the-hidden-traps-of-wicca/

Wicca’s charm by Catherine Sanders

https://youtu.be/4ku4mG-RXbs

 

[1] حكم تعلم السحر في الإسلام التحريم، والكثير من العلماء كفّروا تعلمه حتى وإن لم يمارسه، وليس في الإسلام تمييز بين سحر أبيض أو أسود، فحتى لو استخدمه صاحبه لنفع الناس أو فك السحر عن المسحورين فهو آثم لاستعانته بالشياطين.

[2] يتساءل البعض كيف يمكن لصلوات من الإنجيل المحرّف أن تطرد الشياطين، ونقول إن قصص طرد الشياطين بنصوص “الكتاب المقدس” إذا كانت صحيحة فعلا فربما تحدث لأن التحريف لا يعني أن الكتاب كله من صنع البشر، بل فيه أجزاء كثيرة من الوحي الإلهي، وعندما يلجأ المسيحي إلى الله بالدعاء فحتى لو كان يشرك معه في العبادة نبيه عيسى عليه السلام فإن الدعاء قد يُقبل لصدق التوجّه.

[3]  مصدر الصورة: https://www.terriwindling.com/blog/2015/05/beltane.html

“ما وراء الطبيعة” وتكريس الخرافة

قبل أيام بثت شبكة نتفليكس مسلسل “ما وراء الطبيعة” أول عمل مصري من إنتاجها، والذي وفرته مدبلجًا بتسع لغات ومترجمًا إلى أكثر من 32 لغة. والعمل مبني على سلسلة روايات ذائعة الصيت تحمل نفس الاسم. كل هذا كان كفيلًا بإحداث حالة من الترقب منذ الإعلان عن العمل وضجة بعد بثه، لدرجة تصدره قوائم المشاهدة على شبكة نتفليكس في عدة دول حول العالم، ودخوله -ولو بشكل مؤقت- قائمة imdb لأفضل 250 مسلسل في التاريخ.

وقبل مناقشة محتوى المسلسل -وما قد يتخلله ذلك من حرق للأحداث- يجدر بنا في البداية الحديث عن سلسلة الروايات التي بُني عليها المسلسل.

سلسلة روايات “ما وراء الطبيعة”
“ما وراء الطبيعة” هي سلسلة روايات جيب للكاتب أحمد خالد توفيق، من نوع التشويق والغموض والرعب موجهة للمراهقين، وهي من أوائل الأعمال الأدبية من هذا النوع في الوطن العربي، إن لم تكن الأولى. وقد تم نشرها على مدار أكثر من عشرين عامًا، منذ العدد الأول عام 1992 وحتى العدد الثمانين (الجزء الثاني) عام 2014.

غلاف العدد الأخير من السلسلة

تدور أحداث السلسلة حول شخصية خيالية تدعى الدكتور رفعت إسماعيل، الذي يجد نفسه أمام سلسلة من الأحداث الخارقة للطبيعة. وخلال مغامراته يواجه د. رفعت إسماعيل العديد من المخلوقات الأسطورية من المستذئبين ومصاصي الدماء إلى الزومبي وآكلي لحوم البشر، كما يقابل أناسًا قادمين من عوالم موازية ومسافرين عبر الزمن. هذا بالإضافة إلى السحرة والفضائيين، وبالطبع الأشباح والشياطين.

ولا يقتصر مسرح الأحداث على مصر، بل تدور الأحداث في شتى الدول والمناطق، بدءًا من الولايات المتحدة ومرورًا بجبال التبت، وانتهاء بـ”جانب النجوم” وهو مكان من نسج خيال الكاتب يحوي المخلوقات الشريرة.

مسلسل “ما وراء الطبيعة”
يأخذ المسلسل خمسة من المغامرات التي خاضها د. رفعت اسماعيل ويقدمها في ست حلقات، تحمل العناوين التالية: أسطورة البيت، أسطورة لعنة الفرعون، أسطورة حارس الكهف، أسطورة الندّاهة، أسطورة الجاثوم، أسطورة البيت: العودة.

بوستر مسلسل “ما وراء الطبيعة”

ويبدأ المسلسل بالدكتور رفعت وهو لا يؤمن بما يُسمى “ما وراء الطبيعة” وينتهي به مؤمنًا متيقنًا بوجود “ما وراء الطبيعة”. وفي البداية فإن هناك إشكالًا بأن شخصًا مسلمًا -أو ذا عقيدة دينية أيًا كانت- لا يؤمن بالماورائيات على الإطلاق. فالماورائيات تشمل الجن والملائكة والشياطين والجنة والنار وغيرها. ومن ثم فإن ما أصبح د. رفعت يؤمن به بعد مغامراته خلال الحلقات الست، ما هو إلا خرافات.

وما يزيد الأمر سوءًا أن بعض هذه الخرافات منتشر فعلًا ووثيق الارتباط بالثقافة الشعبية المصرية والعربية -كالجاثوم مثلًا-، وترسيخه لن يزيد المجتمع إلا جهلًا، خصوصًا إن وُضع بالاعتبار أن هذه القصص تستهدف المراهقين. أما الخرافات المبنية على الثقافة الغربية فما هي إلا امتداد لهيمنة هذه الثقافة. 

وبتتبع رحلة د. رفعت خلال المسلسل، في طريقه نحو الإيمان بـ “ما وراء الطبيعة” نرى الاستنجاد بالآلهة الفرعونية “احمنا يا حورس” وتلاوة التعويذات والترانيم الفرعونية كذلك، والجثو والصلاة لوحشٍ أسطوري، واستخدام بطاقات التاروت للتنبؤ بالمستقبل، من قِبل عدو د. رفعت، لوسيفر (إبليس) نفسه.

دينٌ موازٍ
في زمن الصورة التي يلهث فيه الناس وراء الأدرينالين، وبحجة أنها أرض خصبة للإثارة والرعب والغموض، فإن المظاهِر الشركية وغيرها من المخالفات العقدية التي احتواها المسلسل هي نتيجة طبيعية للتعرض للماورائيات في الروايات والأفلام والمسلسلات وغيرها من المواد “الترفيهية”. فهذه المواد شكلت ما يمكن تسميته بتراث عالمي مشترك من الصعب الخروج عنه، والذي كوّن ما يشبه الدين المحرَّف أو المنظومة العقائدية الموازية للديانات السماوية.

غلاف العدد الثامن والسبعين من سلسلة “ما وراء الطبيعة”

ومن ذلك مثلًا الوسيم الجذاب ذو “الكاريزما” لوسيفر والذي يوصف بأنه “حامل الضياء”، أي حامل النور والحياة والمعرفة والحضارة والحرية، وإله هذا الكون الذي يستحق أن يعبد بدلا من الإله الخالق الذي طرد الإنسان من الجنة، كما تصفه هيلينا بلافاتسكي مؤسِّسة جمعية الحكمة الإلهية (ثيوصوفيا)، التي تعد من أهم الجمعيات الباطنية. [انظر مقال الهندوسية من موسوعة السبيل].

وفي عصر العولمة العابر للقارات والثقافات يزداد القدر المشترك بين هذه المواد، خصوصًا عندما يكون الإنتاج منحصرًا بجهات محدودة ذات منظومة فكرية وثقافية واحدة، بإمكانها إعادة صياغة هذه المواد قبل تقديمها على الشاشة، واضعة المعايير الثقافية والتقنية لغيرها، في زمن الصورة.

مثلًا مما هو جدير بالذكر -والذي لفت انتباه أحد متابعي المسلسل- في هذا السياق، وفي ضوء ما توفره شبكة نتفليكس من دبلجات وترجمات متنوعة للعمل، هو ما حدث في الحلقة الرابعة من المسلسل، حيث قام دجال يُدعى “الشيخ صلاح” بقتل ابنته بعد أن تم اغتصابها. وهذا هو وصف سام هاريس -أحد الفرسان الأربعة للإلحاد الجديد- للمجتمع المسلم. فمن المهم الإشارة هنا أن هذا لم يكن موجودًا في رواية “أسطورة النداهة” الأصلية. حتى أنه في الرواية يتم إسقاط خرافة الندّاهة، بينما يقوم المسلسل بترسيخها.

من نافلة القول أن جهات الإنتاج لديها الأدوات اللازمة لتقديم الصورة التي تريد لأي شيء على أوسع نطاقٍ ممكن، إلا أن هناك خصوصية في قيام جهات الإنتاج الغربية بإنتاج أعمال متعلقة بالماورائيات وتقديمها للمشاهِد المسلم، حيث ينتُج عن ذلك تشويه العقائد وتحريف الدين نفسه في عقول أصحابه، وعدم الاكتفاء بتقديم صورة مشوهة عن الملتزمين بهذا الدين، بل بتشويه الجوهر العَقَدي للدين من خلال التحكم بالتصورات الذهنية المرتبطة بالماورائيات الموجودة في هذا الدين -كصورة إبليس مثلًا-، حيث يستمد المشاهِد تصوره من المادة التي يشاهدها، نتيجة لطغيان قوة الصورة. 

وهذا الخطر كان موجودًا منذ تعرض المسلمين للأعمال الغربية التي تتطرق للماورائيات، لكن الآن تضاعف الأثر واشتد الضرر، فالمادة الآن أقرب للمشاهِد، وهي تُقدَّم بلغته وفي بيئته وعلى لسان طاقم عملٍ مألوفٍ له، وهذا يضمن انتشارها على نطاقٍ أوسع بكثير من الأعمال الأجنبية. وهنا يتضافر الإنتاج الناطق بالعربية مع الناطق باللغات الأجنبية في سبيل الوصول لكافة أطياف المجتمع. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن إنتاج نتفليكس في المنطقة العربية قبل “ما وراء الطبيعة” كان أيضأ مرتبطًا بالماورائيات، وهو مسلسل “جن”.

ختامًا، فإن لم ينطلق المنتَج الثقافي من منطلقات عقائدية وقيمية أصيلة، فلن يكون إلا مسخًا مشوهًا، ينطلق من منطلقات الآخر في محاولة لأن يكون مجرد بديل له، وفي النهاية لن يكون إلا مروجًا ومكرسًا للثقافة التي يحاول أن يحل محلها.

بعد الإساءة للإسلام.. هل ستؤثر المقاطعة الاقتصادية على فرنسا؟

بعد إساءة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الفجة لنبي الإسلام صلوات ربي وسلامه عليه وتعديه على دين الحق بالقول والفعل، أطلق ناشطون على مواقع التواصل دعوات إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية كردٍ سلمي ومباشر يتناسب مع حرية التعبير والليبرالية التي يقدسها الغرب.

وفي نفس الوقت وفي خضم الحماس الذي اشتعل في قلوب معظم المسلمين نصرة لنبيهم ودفاعاً عن مقدساتهم تنطلق دعاوى سلبية معاكسة فحواها أن هذه المقاطعات لن تؤثر في الاقتصاد الهائل للجمهورية الفرنسية التي ولا شك سيدعمها الاتحاد الأوروبي وستجد سوقاً بديلة عن البلاد الإسلامية ولن يضرها خسارة زبائنهم شيئاً.

ولأهمية الموضوع وأثره على حراك المسلمين، قررت أن أفرد له هذا المقال لجمع الأدلة والتقارير التي تفصّل أثر المقاطعة الاقتصادية على بلد مثل فرنسا، وتوضيح الخطأ في خطاب من يقول: عملكم هذا لن يؤثر، ولذلك أختار تجاهل القضية كلها!

توضيحٌ قبل البدء
قبل النظر في جدوى المقاطعة الاقتصادية المتوقعة، واحتمالات قد تحدث أو لا، ينبغي علينا كمسلمين أن نسأل: هل وجود النتيجة الدنيوية شرطٌ للعمل؟ وهل الأجر متوقف على حصول ثمرة الفعل المادية في الإسلام؟

من ثوابت الإسلام أن المرء محاسبٌ على السعي لا على نتاجه، فالله تبارك وتعالى يقول عزّ من قائل {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ} [النجم:104]، وقال كذلك {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فالعمل والسعي هما الأساس. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي اعتبره علماءٌ شطر الدين أن الأعمال بالنيات وأن للمرء مانوى (رواه البخاري)[1]، فإن كانت غاية المرء النبيلة نصرة هذا الدين بنفسه وماله بأي وسيلة ممكنة فثمرة هذا حاصلة عند الله وإن لم تظهر في هذه الدنيا الفانية الزائلة بإذن الله.

والمسلم حين يعمل يوقن أنه أجيرٌ عند الله تبارك وتعالى، لا شأن له بمسار العمل، إنما يتوجه حيث أمره مولاه تبارك وتعالى،[2] ولعل من أصدق الأمثلة على ذلك سيرة الصحابي مصعب بن عمير الذي دخل الإسلام في بداياته وذاق في سبيله العذاب والمشقة وجفاء الأهل وحرمان المتع الدنيوية، إلى أن استشهد رضي الله عنه وليس له كفن يكفي لستر جسده، فلم يشهد نصر الإسلام ولا رأى ظهوره، وليس ذلك بمنقصٍ من أجره شيئاً.

يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه في الصحيحين: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله ووجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد شيئاً نكفنه فيه إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، فإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه بها، ونجعل على رجليه إذخرا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهذبها.

من التاريخ
بعد تذكير نفسي والقارئ بضرورة إخلاص النية وانتظار الثواب من الله لا من النتائج المادية، لننظر في أمثلةٍ تاريخية تقرر جدوى المقاطعة وأثرها المرجو بإذن الله.

في ورقتها البحثية المعنونة “Democratizing The Economic Sphere” أو دمقرطة المجال الاقتصادي، كتبت تيريزا لي: يمكن تعريف المقاطعة السياسية برفض المستهلك شراء سلعٍ معينة من منتجٍ أو مجموعة منتجين بهدف إحداث تغيير سياسي أو اجتماعي مطلوب. ومن الناحية القانونية، فالمقاطعة مغروسة في مبادئ حرية التعبير والاستقلالية والحكم الذاتي للأفراد[3]. وكما أن بإمكان الشركات تغيير مكان الاستثمار والبيع لأهدافها الخاصة، فإن المقاطعة تسمح للزبائن الذين لا يملكون إلا شراء حاجياتهم أن يجتمعوا مع من يشاركهم الأفكار والأهداف لإحداث التغيير السياسي الذي يريدون.[4]

فالمقاطعة من الناحية القانونية تضع أقل فردٍ في المجتمع على صعيدٍ واحدٍ مع المنتجين وصناع القرار السياسي تماماً كما تنادي الديمقراطية.[5]  ولا شك أن لهذا النشاط قوة فاعلة على أرض الواقع تتجاوز قوة السلاح أوالانتخاب في كثير من الأحيان، ولذلك أمثلة كثيرة من التاريخ. فقد أظهر ليود كاتلر أن الأمة الأمريكية ولدت نتيجة مجموعة من مقاطعات الاستعمار التي قادت التجار البريطانيين لدعم مطالب الشعب الأمريكي بالاستقلال والضغط على الملك حتى يوافق عليه.[6]

وتظهر السجلات التاريخية العائدة إلى النصف الأول من القرن العشرين أن المقاطعات كانت ذات تأثير كبير في إنهاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة، فبين عامي 1900 و1906 قامت مقاطعات لسيارات الأجرة في أكثر من 25 ولاية جنوبية رفضاً لقوانين الفصل العرقي.[7] وامتداداً لتلك الحركات قامت مقاطعات واسعة لباصات النقل عام 1950 في البلاد رفضاً لفصل الأعراق في المواصلات.[8] وقد كان لهذه المقاطعة أثر كبير في المساهمة بتأمين حقوق الأفارقة الأمريكيين ومنع الفصل المبني على الأعراق في البلاد.[9]

وقد ظهر الأثر السريع والكبير لأسلوب المقاطعة في ولاية أركانساس الأمريكية عام 1971 حين اتفق المجتمع الأفريقي الأمريكي على مقاطعة التجار البيض في مدينة ماريانا لجذب الانتباه إلى التمييز العنصري الذي عانوه، وبعد ثمانية أشهر من المقاطعة المركزة قدم قادة المقاطعين عريضة بمطالبهم، وتم الاتفاق على حلولٍ مرضية لإنهاء المقاطعة. ويشير الباحثون في تفسير التأثير الكبير للمقاطعات إلى أن المحاكم العليا لا تعمل في معزل عن الواقع البتة، ولذا فإن حراك جزء كبير من الناس في مقاطعةٍ محددة وما ينتجه ذلك من جدل إعلامي وخسائر مادية للمستثمرين المحليين يولد ضغطاً كبيراً على القضاة وصناع القوانين.[10]

وكثيراً ما تكون المقاطعة بطيئة وتراكمية الأثر، ففي عام 1966 بدأ ناشطون في ولاية ميسسبي الأمريكية مقاطعة طويلة الأمد من أجل مطالب متعلقة بمساواة الأعراق من حيث الألقاب، والمهن المتاحة، والفصل في المرافق العامة.[11] ورغم النتائج الكبيرة والدراماتيكية لتلك المقاطعة، إلا أن ظهورها تأخر 16 سنة عن بدايتها.

ولعل أحد أوضح الأمثلة على فعالية المقاطعة يظهر في الاستخدام الواسع لمبدأ العقوبات الاقتصادية التي تمارسها الدول القوية ضد تلك التي لا تتفق معها. وهدف هذه الممارسة بسيط و واضح: الضغط على دولة معينة عبر إحداث ضرر في كيانها الاقتصادي لتغير مواقفها وترضخ لما هو مطلوب منها. فالعقوبات الاقتصادية كمبدأ تنطوي على إيقاف المبادلات اقتصادية مع الدولة “المذنبة”.[12] ورغم أن هذه العقوبات غالباً ما تتركز في النفط، أو في سلعة لا بديل لها في الدولة المُعاقَبة، إلا أنها تشبه كثيراً المقاطعة التي تقوم بها الشعوب المسلمة ضد فرنسا اليوم من ناحية إحداث الضرر للاقتصاد.

بهذه النظرة التاريخية السريعة يتضح أن المقاطعة الاقتصادية ليست كما يدعي كثيرون، “حلٌ عاطفي بائس وغير مجدٍ”، بل إن الدراسات والخبراء يشيرون إلى قدرتها الكبيرة في إحداث التغيير إن التزمت التركيز والمثابرة اللازمين لإيصال صوت الشعوب والأفراد.

اقتصادٌ هزيلٌ وفرصة
تحاول كثيرٌ من دول العالم اليوم التعافي من انكسارات  شديدة أصابت اقتصادها نتيجة وباء كورونا، فهذه الدول ذات اقتصاد مبني على الحركة الدائمة من بيع وشراء مستمرين مما يجعلها سريعة التأثر ببطء الحركة الاقتصادية في ظل الإغلاق والحجر وارتفاع معدلات البطالة.

من ناحيةٍ أخرى فقد دعى الرئيس الفرنسي إلى إغلاق جديد للبلاد بتاريخ التامن والعشرين من أكتوبر الحالي بسبب تسارع انتشار الفيروس، أدى إلى هبوط مباشر للأسهم الاقتصادية الفرنسية في تاريخ 29 أكتوبر الحالي. وكل ذلك يزيد فرصة تأثر فرنسا بمقاطعة البلاد الإسلامية لها.

على صعيدٍ آخر، نفت شبكة فرانس-24 أن تؤثر المقاطعة في اقتصاد البلاد، مقررةً أن المقاطعة لن تشمل منتجات الرفاهية أو قطاع الطيران ذوي الأثر التجاري الكبير، وقال خبراء على الشبكة نفسها إن مبادلات السلاح مع قطر والكويت لن تتأثر بحركات دينية منطلقة من المساجد لأن الوصول إليها وإقرارها يأخذ سنوات عديدة، ولأن الدول العربية تعتبر أوروبا شريكاً تجارياً مهماً لن تخاطر باحتمال عقوبات اقتصادية منه.[13]

ولعل هذه البيانات تظهر أهمية اشتمال المقاطعة لكل المنتجات الفرنسية، بما فيها رحلات الطيران، إضافة إلى ضرورة استثمار الموقف للحديث عن حاجة بلاد المسلمين لاكتفاء يغنيها عن الاعتماد على عدوها والرضوخ لإساءاته. فبإمكان المسلمين اليوم وهم مجتمعون على نصرة نبيهم والدفاع عنه توجيه ضربة قوية لهذه الدولة المتكبرة التي تسيء بكل فجاجة لمقدسات ملايين المسلمين حول العالم.

هذا والأمر كله لله، له الحكم والأمر وإليه المصير، مع استحضار أن لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء (رواه الترمذي)، لكي لا نحزن على مافات منها، ولا ننجرّ للنظر في الأرقام على حساب تزكيتنا لنفوسنا ويقيننا بنصر الله والاستعداد لدار المقامة الحقيقية.


[1] من درس صوتي للشيخ ابن باز، بعنوان “من قوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”: https://binbaz.org.sa/audios/2123/01

[2] سيد قطب، معالم في الطريق، ص 181.

[3] Lee, T. J. (2012). Democratizing the Economic Sphere: A Case for the Political Boycott. W. Va. L. Rev.115, 531.

[4] المصدر السابق.

[5] Lee, T. J. (2012). Democratizing the Economic Sphere: A Case for the Political Boycott. W. Va. L. Rev.115, 531.

[6] Transcript of Petitioner’s Oral Argument at 5, Claiborne Hardware, 458 U.S. 886 (No. 81- 202)

[7] MONROE FRIEDMAN, CONSUMER BOYCOTTS: EFFECTING CHANGE THROUGH THE MARKETPLACE AND THE MEDIA 92 (1999)

[8] المصدر السابق.

[9] Gayle v. Bowder, 352 U.S. 903 (1956)

ولمزيد من المعلومات ابحث عن Montgomery bus boycott””  على محركات البحث

[10] CATHERINE A. BARNES, JOURNEY FROM JIM CROW: THE DESEGREGATION OF SOUTHERN TRANSIT 124 (1983).

[11] NAACP v. Claiborne Hardware Co., 458 U.S. 886, 889 (1982).

[12] Galtung, J. (1967). On the effects of international economic sanctions: With examples from the case of Rhodesia. World Politics: A Quarterly Journal of International Relations, 378-416.

[13] French firms urged to ‘resist blackmail’ as Turkey’s Erdogan joins calls for boycott. https://www.france24.com/en/middle-east/20201027-french-firms-urged-to-resist-blackmail-as-turkey-s-erdogan-joins-calls-for-boycott

 

“هل تنجو إسرائيل؟”.. سؤال يطرحه خبير صهيوني

يعد كتاب  “هل تنجو إسرائيل؟” (2006) خلاصة أبحاث الكاتب “ميتشل بارد” عن إسرائيل لمدة عشرين عامًا والذي يرى أن جميع الكتب التي تتحدث عن إسرائيل تستعرض الماضي أما الحاضر والمستقبل فما زالوا يحتاجون لمن يتحدث عنهم. 

أما مؤلف هذا الكتاب “ميتشل بارد” فهو السياسي الصهيوني والذي حاز على عدة مناصب سياسية منها عضو اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة ومؤلف لكتاب “اللوبي العربي”.

وقد ختم “بارد” كتابه بأبيات من الشعر للكاتب “إدوارد إيفرت” هيل يقول فيه:

“أنا واحد فقط، لكني واحد..

لا يمكنني القيام بكل شيء..

لكن ما يمكنني فعله.. سوف أسعى لفعله..

وبعون الله أفعل..

وكانت هذه الأبيات في رأيه بمثابة دافع لكل إسرائيلي ليقوم بشيء في سبيل نجاة إسرائيل.”

وفي اعتقادي أن هذه الأبيات يجب أن تمثل شعارًا لكل عربي ومسلم يناصر قضية ويؤمن بها وأبرزها القضية الفلسطينية، ومن خلال تصفح هذا الكتاب يظهر كم التفاصيل الهامة والدقيقة المذكورة من خلال بحث عميق حول إسرائيل ومدى عمق دراسة الدول المجاورة لها والأيدولوجيات المختلفة.

ومن وجهة نظر الكاتب فهو يستعرض مفهوم التنازل عن الأراضي الفلسطينية في عبارات خلاصتها تحقيق السلام، ويرى أن الوصول له يتم بعدة طرق، ورغم مخالفة هذا للمفهوم العربي الإسلامي إلا أنه من المهم فهم كيف يفكر واضعو السياسات الصهيونية وما هي أهدافهم.

تعد القضية الفلسطينية قضية عربية وإسلامية، أما الكاتب فقدمها كقضية تهم الإسلاميين فقط أو أصحاب الإسلام الراديكالي وأتباع حماس والجماعات الجهادية وابن لادن، ورغم أن هذا النسب غير صحيح إلا أنه لعله السبب الرئيس الذي حوربت من أجله الكيانات الإسلامية في مختلف الدول العربية حتى تم إسقاط بعضها لكونهم جهروا بأهمية القضية الفلسطينية لديهم وأولويتها.

ولا يرى الكاتب أن نجاح إسرائيل وبقاءها وتحقيقها للسلام يعتمد على وضع المزيد من خطط خرائط الطرق وإنما يحدث من خلال عامل هام للغاية ورئيسي وهو الأمهات في الشرق الأوسط وما يزرعونه في أطفالهم، إلى جانب دعوته لخروج مظاهرات تدعم السلام مع الصهاينة. 

وعلى الرغم من الدعم الكبير الذي تحظى به إسرائيل من الولايات المتحدة إلا أن الكاتب يشير في أكثر من موضع أنه دعم غير كاف، وأن الولايات المتحدة والغرب بشكل عام أصبحوا يميلون لإظهار السلام والتوافق مع الشرق الأوسط ومع الإسلام كدين رئيسي هناك وأن هذا الأمر يشكل تهديدًا لإسرائيل.

أزمات متعددة
أفرغ الكاتب فصلًا كاملًا للحديث التفصيلي عن قضية المياه والعقبات التي تواجه إسرائيل في مصادر المياه  ومدى حفاظ مواطنوها عليها، ومن أهم النقاط التي ركز عليها الكاتب هو أن سر تمسك إسرائيل بمرتفعات الجولان هو كونها تحتوي على مصدر المياه الرئيس لها، أما توقعات لعشرات الأعوام التالية عن أزمات المياه في المنطقة وللدول المجاورة والتي ستؤثر حتمًا على إسرائيل، وأوضح أنه من الأولويات الحصول على مصدر جديد للمياه في السنوات القادمة. وبدء هذا الفصل قائلًا: “”الماء هو الحياة” هكذا صرح  “موشيه شاريت”. ووفقًا لهذه المقولة فالإمداد بالمياه يعد مسألة حياة أو موت وهو نفسه الحرب والسلام لشعوب الشرق الأوسط، إن التنبؤات الرئيسية خلال عام 1990 تفترض أن المياه ستكون أهم من الوقود بحلول عام 2000.”

أما اليوم ونحن في 2020 فقد اتضحت أزمة المياه بشكل أكبر فيما يتعلق بسد النهضة في إثيوبيا ومدى تأثيره على مصادر المياه بالمنطقة. 

لم يكتف الكاتب بعرض الحاضر والمستقبل الجاري بداخل إسرائيل ولكن قام ببحث وتحليل ما يحدث تجاهه في الدول المجاورة بدقة شديدة، مؤكدًا على أن الرؤية الإسلامية تقتدي بعودة فلسطين كأرض فلسطينية خالصة وأنها مسألة حرب مقدسة لابد أن تقوم بينهم وبين الصهاينة، مشيرًا للجهاد. وأكد أن الإسلاميين يريدون إعادة صياغة العالم برؤية إسلامية مشيرًا لمعنى عودة الخلافة الإسلامية، كما حلل الكاتب أدق الألفاظ في الخطاب الإسلامي للقادة ورجال الدين والموجه إلى اليهود أو مقال عنهم. 

كما تحدث “بارد” عن مصر وحجمها كدولة وعن جماعة الإخوان المسلمين فيها وفي الدول الأخرى، وكيف تم التعامل معهم على مدار عقود، مؤكدًا أن نجاح الإسلاميين في الوصول لحكومة أي دولة يروع إسرائيل بسبب الأيدولوجية التي يتبناها أصحاب الإسلام السياسي تجاهها ، ذاكرًا: “وكما يقول العرب: لقد احتل الصليبيون فلسطين وتطلب الأمر مائتي عام لإخراجهم، لكننا استطعنا في النهاية. واليوم احتل الصهاينة فلسطين، وربما يتطلب الأمر مائتي عامًا أخرى لكننا حتمًا سنخرجهم.” ومن وجهة النظرية الإسلامية، فإنهم يعملون على هذا الهدف منذ مائة عام ولايزال لديهم مائة عام أخرى للاستمرار. وكما قال المستشار السياسي  لرئيس الوزراء الفسلطيني إسماعيل هنية قائد حماس وهو ما وضعه بوضوح كعنوان لكتابه الجديد – “نهاية الدولة اليهودية: إنها فقط مسألة وقت.”

ثم يذكر الكاتب دور الإعلام وخطورته وأنه غير راضٍ عن رؤية الإعلام لإسرائيل في الشرق الأوسط واصفًا إياه بالمتحييز، وعلى الجانب الآخر مما يراه إيجابيات في وجهة نظره يقول: “وكمثال إيجابي الفيلم الشهير “ميونخ” لستيفن سبيلبيرغ فالفيلم لا يستنتج منه أن إسرائيل غير محبوبة لكن الانطباع العام الذي يعطيه أن العرب قتلة بربريون يستحقون الاغتيال. فمن الصعب تصور الخروج من مشاهدة الفيلم بأي تعاطف تجاه الفلسطينيين ، ففيلم “ميونخ” ليس فيلمًا وثائقيًا بل هو في الحقيقة قطعة فنية.”

ويصل الرصد والتحليل للكاتب إلى تحليل برامج الأطفال وأغنياتهم والتي تدفع للعداء مع الصهاينة، ذاكرًا في النهاية “وكما جاء بعبارات فلسطينية بسيطة ومفهومة تتلخص في “أنهوا الاحتلال” فإسرائيل طورت عباراتها بشكل أكثر بساطة ودقة فتلخصت في: “إسرائيل تريد السلام”.”

كما يعتبر “بارد” أن الدول العربية تمثل تهديدًا غير مباشر أيضًا على إسرائيل، وذلك من خلال دعمها لمدارس إسلامية في دول أجنبية حيث يتعلم الأطفال أنه بدلًا من خريطة إسرائيل توضع خريطة فلسطين.

وعن دعم غير اليهود ذكر الكاتب أن إسرائيل بها مسلمين مختلفين في الاتجاه نحوها، وأن الكثير من يهود إثيوبيا ينتقلون لإسرائيل ثم يتحولون للمسيحية، وأن هناك مسيحيين داعمين للصهيونية ولديهم لوبي مشترك قائلًا: ” أنهم يؤمنون بأن عودة اليهود لأرضهم الكتابية يتعلق بنبوئة إنجيلية وأنه حينها يعود المسيح ملكًا للأرض، ومن الجدير بالذكر عدم ارتياح اليهود لمن يساندهم طمعًا في تحولهم الديني أو تحت فرضية أن إسرائيل ستدمر أولًا من أجل عودة المسيح.”

وواصفًا إسرائيل بوادي السيليكون، أفرد الكاتب فصلًا في الكتاب بهذا الاسم، شارحًا فيه كيف تغلبت إسرائيل على ظروفها الخشنة واعتبر أن قوتها في الموارد البشرية، موضحًا بدقة عدد وأسماء المؤسسات التنموية التي أنشأتها إسرائيل بالشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومنهم المشروع الأمريكي the United States Israel Binational Agricultural Research and Development (BARD)، والمؤسسة العلمية الثنائية The Binational Science Foundation (BSF) لتطوير التعاون البحثي لمشترك بين علماء البلدين، والمؤسسة الصناعية للبحث والتنمية The Binational Industrial Research and ، Development Foundation (BIRD). 

ومؤسسة Trilateral Industrial Development (TRIDE) والمخصصة لدعم مشروعات القطاع الخاص في كل من الولايات المتحدة والأردن وإسرائيل، و هيئة العلوم والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة وإسرائيل U.S Israel Science & Technology .Commission (USISTC)  

وختم بارد هذا الفصل معقبًا أن تحدي إسرائيل الحقيقي ليس في التفوق العسكري وإنما في نجاحها الاقتصادي والديموقراطي وعلى الجانب الآخر تواجه إسرائيل الكثير من العقبات شارحًا: “ورغم هذا ما زالت إسرائيل تواجه العديد من المشكلات من صناعات لم يتم خصخصتها وعدم تكافؤ في توزيع الثروات ومعدل بطالة مرتفع.أما عن مستقبل إسرائيل فيعتمد على نمو اقتصادها بشكل كبير والذي سيظل مصدر قوتها.”

ومن الجدير بالذكر أن مسألة التقدم الاقتصادي في الدول العربية مقيدة بأمور عدة، أبرزها إضعاف الديموقراطية والقضاء عليها والاستعمار بأنواعه وهجرة العقول لأسباب اقتصادية مختلفة، لذا فالمقارنة هنا غير عادلة بالمرة، ولكن من المهم على الأقل التعرف على المبادرات الاقتصادية التي قامت بها إسرائيل تعاونًا مع دول كبرى للإطلاع على ما أحرزوه بهذا المجال وكيف يمكن الوصول لنفس المستوى مع اختلاف التفاصيل والملابسات الواقعة في الدول العربية من الناحية الاقتصادية والديموقراطية.

إن هذا الكتاب على أهميته غير منتشر كقراءة على الرغم من احتوائه على الكثير من المعلومات النافعة التي حللها ودرسها الكيان الصهيوني عن نفسه وعن الدول المجاورة له من خلال أحد خبرائه النشطين مثل “ميتشل بارد”.


المصدر

Will Israel Survive, Mitchel G. Bard, First Edition: July 2007, PALGRAVE MACMILLAN.