هل الاكتئاب مرض أم ضعف في الإيمان أم خلل في السلوك؟

image_print

من أشد الأمور إيلاما وأقساها على نفس أي مريض بمرض عقلي -أو نفسي كما يسميه البعض- هو نظرة مَن حوله له ولمرضه، فبدلًا من التعاطف والدعم والتفهّم، يواجه قدرا رهيبا من الاتهام بالكفر أو قلة الإيمان، أو الاستسلام والتواني عن السعي للعلاج.

وهذه النظرة المؤلمة تأتي من الصديق والعدو، في المجتمعات الشرقية والغربية، وهي نتيجة لطبقات متراكمة من عدم المعرفة وسوء الفهم لطبيعة المرض العقلي -أو النفسي-، وتعود كذلك إلى الميل لإنكار المجهول وتجنب مواجهته.

في بيان ماهية المرض النفسي والعقلي

لأوضح لكم الأمر، فلنفترض أنك تجلس في مقهى تستمتع فيه بشرب مشروب منعش، فيمر أمامك ثلاثة أشخاص يعرجون، فإنه يمكنك بمجرد النظر إليهم معرفة أن أحد هؤلاء الأشخاص قد أصيب بشوكة صغيرة تؤلمه وتسبب ألما في رجله، والعرج سيزول خلال ساعات إن شاء الله، بينما الشخص الثاني يعرج بسبب إصابة بالغة، وليس من المتوقع أن تشفى قبل بضعة أسابيع، هذا مع ضرورة الحرص على اتباع تعليمات الأطباء. أما الشخص الثالث فهو مصاب بعاهة مستديمة في رجله. كما تلاحظ فإنه بالرغم أنه يبدو ظاهريا أن سبب عرجتهم واحد، إلا أن ذلك أبعد ما يكون عن الصحة.

قد يبدو لك من المناسب أن تطلب من الشخص الأول أن يتناسى الألم ويحاول المشي بشكل طبيعي، وقد تفكر في قول نفس الشيء للشخص الثاني، أما الشخص الثالث المصاب بعاهة مستديمة، فإنه من غير المنطقي أن تطالبه بتناسي مرضه والجري سريعًا، أو أن تطالبه بالتقدم لوظيفة تطلب لياقة بدنية عالية.

والآن لنتخيل أنك قابلت ثلاثة أشخاص مكتئبين، الأول حزين لأنه فقد جهاز هاتفه المحمول\الجوال (الموبايل)، والثاني حزين لأنه فقد أباه، أما الثالث فهو مصاب بمرض الاكتئاب.

سرعان ما ينسى الأول حزنه بمجرد أن يشتري جهازا جديدا أو يجد جهازه المفقود، أما الثاني فلا شك سيحزن لبضعة أسابيع، ولكنه سرعان ما ينسى الأمر كذلك، وربما يحزن بعض الشيء كلما تذكر أباه، ولكن الحزن لن يؤثر بشكل مزمن على قدرته على الاستمتاع بالحياة وعلى العطاء. أما الشخص الثالث فهو مصاب “بمرض الاكتئاب”. وهو مرض كأي مرض، منه ما يمكن معالجته ومنه المزمن الذي لم يتوصل العلم لعلاجه بعد.

إن كان من المناسب أن تطلب ممن فقد هاتفه المحمول أو والده أن يحاول نسيان الأمر، فإنه من السذاجة أن تطلب من مريض الاكتئاب أن ينسى الأمر ويعيش وكأن شيئا لم يكن. فما أشبه ذلك بمطالبة المشلول بأن ينسى شلله ويقوم بالجري!

يحسب بعض الناس أن الإيمان بالله، والذكاء، والحب، والتفكير الإيجابي يحمي صاحبه من الأمراض العقلية، أو يكون كافيا لعلاجه إن أصيب بمرض عقلي. صحيح أن هناك الكثير من حالات الاضطراب النفسي التي يمكن علاجها بالروحانيات والحب والتفكير الإيجابي، تماما كما أن هناك الكثير من حالات العجز البدني التي قد يفيد معها العلاج الفيزيائي (أو الطبيعي). ولكن هناك أيضا الكثير من الحالات التي هي عبارة عن إعاقة بدنية مستديمة نتيجة لضمور أعضاء معينة كبعض الأعصاب، أو إعاقة عقلية نتيجة لتعطل بعض وظائف المخ.

ولكن ماذا عن العلاج بالقرآن والرجوع إلى الله؟

أليس ذلك كفيلا بعلاج كل أمراض النفس؟

سأقول لك، هل ترى أنه من المناسب أن تطلب من شخص مشلول أن يلجأ للعلاج بالقرآن، أم أنك ستطلب منه أن يلجأ لطبيب يعالج أعصابه أو عضلاته؟ كذلك المصاب بمرض عقلي، إنه يحتاج لأخصائي أمراض عقلية لعلاجه. أعتقد أن من أهم الأسباب وراء الالتباس في فهم حقيقة المرض النفسي هو “تشابه الأسماء”. فقد يبدو بديهيا أن علاج الأمراض “النفسية” يكون بعلاج “النفس” بالقرآن والروحانيات والنظرة الإيجابية للعالم ومشاكله. وهذا صحيح ولا شك لمن عنده مشكلة نفسية مؤقتة. ولكن هناك عدد كبير من حالات المرض النفسي التي من الأكثر دقة أن يتم وصفها بأنها “مرض عقلي” أو “مرض مخي” أو “مرض عصبي” (بدلًا من أمراض نفسية).

ربما هذا الوصف يجعل الناس أكثر تفهما لحقيقة هذه الأمراض. ففي الحقيقة أن الكثير من الأمراض العقلية نشأت بسبب اضطراب في وظائف العقل أو المخ، وليس عن سوء فهم للأولويات في الحياة، أو للارتباط بالشيطان والبعد عن الله.

صحيح أن هناك حالات تحدث معها المعجزات ويتم فيها الشفاء بقدرة الله من أمراض مستعصية – عضوية وعقلية-، وذلك بوسائل لا يستطيع البشر إدراكها كقراءة القرآن أو شرب ماء زمزم أو غير ذلك، ولكن تبقى هذه الحالات استثناءً عن الأصل الذي نحاسب به البشر ونطالبهم بالسعي له.

حذرًا من الوقوع في الخطأ

أظنك تتفق معي على أنه من الظلم أن نتهم من أصابه الشلل (أو الإعاقة من أي نوع) بالكفر أو ضعف الإيمان، لمجرد أنه قرر أن يتعايش مع إعاقته بالقبول والتسليم، وقرر التوقف عن البحث عن علاج لما لا يمكن علاجه.

أظنك تتفق معي أنه إن كانت الإعاقة دائمة، فأفضل ما يقوم به المعاق أن يركز جهده على تعلم العيش مع الإعاقة والتكيف معها، بدلا من التعلق بآمال وهمية في الشفاء من إعاقة دائمة أبدية، وهذا لا يمنع من تجربة وسائل جديدة للعلاج إن ظهرت، ولكن يجب أن يكون التركيز وغالبية الاهتمام والتفكير منصرفا للتكيف مع الوضع الحالي.

من المؤسف فعلا أنه لا يزال هناك من ينظر للمريض العقلي على أنه مذنب. ويتم اتهامه بأنه لبعده عن الله وبنظرته السلبية للحياة وبتقاعسه عن مساعدة نفسه، تسبّب في تعاستها.

لقد عشت أكثر من 20 سنة أعاني بصمت من الاكتئاب ولم يشعر أحد ممن حولي بمعاناتي. فقد كانت الأدوية كفيلة بعلاج الخلل (إلى حد كبير) في كيمياء مخي. ولكن منذ عدة سنوات بدأت حالتي بالتدهور ولم تعد الأدوية تفيد نفعا. فلجأت للجلسات الكهربائية، ولكنها كذلك لم تفِد. فاضطررت لترك عملي، وأصبحت أعيش وأولادي على الإعانات المادية من الآخرين. ولا يستطيع تصور الإحساس بالفقر إلا الفقير، ولا يستطيع إحساس من وجد نفسه فجأة فقيرا إلا من مر بهذه التجربة المريرة المؤلمة جدا، وهكذا “ارحموا عزيز قوم ذل”.

نصحني الكثير من المعالجين بإعلام أصدقائي وأقاربي بحالتي. وكان من المفترض أن هؤلاء المعارف سيقدمون الدعم المناسب ويتفهمون حالتي. ولكن ما حدث معي (ومع كثير من المرضى النفسيين الآخرين) هو أنني تلقيت قدرا كبيرا من النصائح الساذجة. وبالرغم أنني على يقين بأنها كلها نابعة من حب وإخلاص وحرص على فائدتي، إلا أنها كانت ضارة وأتت بنتائج عكسية على حالتي العقلية. لقد سببت لي في المزيد من الإحساس بالعجز والذنب.

الإحساس المبالغ فيه بالذنب من الأعراض الشائعة المصاحبة للاكتئاب. وكانت ردود فعل من حولي تزيد من هذه المشكلة (الموجودة بسبب مرض الاكتئاب) وتزيد من إحساسي بالذنب. فكلما سمعت نصيحة بممارسة الرياضة أو قراءة القرآن أو الخروج من المنزل أو غير ذلك، عندما أسمع هذه النصائح ولا أستطيع تنفيذها لعجز عقلي عن الاستجابة لتأثيراتها الإيجابية، يزيد إحساسي بالذنب وكرهي لنفسي ورغبتي في عقاب نفسي.

أرجو أن أكون قد استطعت أن أوضح لك أن (الاكتئاب المرضي المزمن) هو ليس مجرد حالة حزن مؤقتة لسبب مؤقت، وأن هذا الاكتئاب المرضي لا يمكن علاجه بمجرد الرجوع إلى الله أو ممارسة الرياضة أو النظرة الإيجابية للحياة.

ولكن ما هو الاكتئاب المرضي إذًا؟

للإجابة على هذا السؤال، أحب أن أسألك، هل فكرت يوما إن كان ما تراه يوميا وبشكل متكرر من ألوان هي نفس الألوان التي يراها الضفدع أو الغزال أو السمكة أو الشخص المصاب بمرض عمى الألوان؟

ما تعودت أنت على رؤيته بشكل متكرر وبدون أن تتساءل عن صحته أو حقيقته، أراه أنا بشكل مختلف تماما. وقد أثبتت الدراسات الحديثة وجود اختلافات واضحة بين وظائف وقدرات المخ السليم والمخ المصاب بالاكتئاب. عقلك “السليم” يرى في المواقف السعيدة والإنجازات المختلفة أسبابا للسعادة والرضا عن النفس والرغبة في مزيد من العطاء والعمل. ولكن عقلي “المريض” يرى كل هذه الأمور بشكل مختلف تماما.

 فكما أن الشخص المصاب بعمى الألوان يجد صعوبة في التمييز بين بعض الألوان أو يعجز عن رؤية بعضها، فأنا كذلك لا يستطيع عقلي ترجمة الأمور بنفس الشكل الذي يترجمها به عقلك.

نعم، هذه هي الحقيقة المرة!!! أنت تحاسبني بناءً على افتراضية أن عقلي لديه نفس القدرات التي يتمتع بها عقلك. وقد أبدو لك طبيعيًّا ولست مصابا بأي قصور في الذكاء، ولكن هناك أجزاء من عقلي لا تعمل كمثيلاتها عندك، فلتعتبرني ضفدعا أو شخصا مصابا بعمى الألوان أو مصابا بخلل عصبي خفي لا تستطيع أنت أن تراه.

عقلي لا يرى السعادة سعادة، ولا الحب حبّا، إنه لا يستجيب لهرمونات السعادة بالشكل الذي يستجيب لها عقلك، عندها ستدرك أنه ليس من العدل أن تنتظر مني أن أفهم أو أدرك أي سبب للسعادة. المشكلة الأعظم أنني (في كثير من الأحيان) لا أستطيع إدراك أنني مختلف. وبالتالي لا أدرك أن نصائحك غير المناسبة لحالتي ينبغي تجاهلها لكيلا تؤثر عليّ سلبًا، بل أحس بالذنب لتقصيري وعجزي عن تنفيذ نصائحك، وأحس أنني مقصر وكسول ولا أقوم بما يلزم من خطوات إيجابية لعلاج نفسي، بل يقودني عقلي المريض أن أؤذي نفسي وأفكر في الانتحار لأعاقب نفسي على أخطائها الفادحة (النابعة من إحساسي المرضي والمبالغ فيه بالذنب).

قال يوما أحد الحكماء ما معناه: كلنا عباقرة، ولكن إن قمت بتقييم قدرات السمكة بقدرتها على تسلق الأشجار، فستعتبرها عاجزة وغبية.

السؤال الآخر الذي قد يخطر ببالك لماذا لا أتجاوب معك عندما تدعوني للخروج أو للقيام بأي نشاط؟

في الحقيقة أن عقلي يصعب عليه الاستمتاع بأي نشاط، كما أنني أجد صعوبة شديدة للبدء بأي نشاط، وربما تحس أنت أحيانًا بأنك تحتاج إلى بعض المجهود لتدفع نفسك للبدء في ممارسة بعض الأنشطة. أما أنا فأنا أحتاج إلى مليون ضعف لما تحتاجه أنت من المجهود. ثم أحتاج لكثير من المجهود لأحاول أن أستمتع ولو قليلا بممارسة نشاط ما أو حتى بتناول طعام ما. ولكن من الغريب أنني أحب أن تتصل بي وتدعوني لزيارتك أو تشرفني بزيارتك لي. ولكني يا للأسف لا أستطيع قبول الدعوة في كل مرة، فتمر عليّ أيام أكون فيها بحال جيدة نسبيا، وأخرى أكون فيها بحال سيئة، وأخرى أكون فيها بحالة سيئة جدا.

في هذه الحال الأخيرة ربما لا أستطيع حتى الرد على اتصالك الهاتفي. وبالرغم من ذلك أكون مقدرا وشاكرا لك اتصالك، ولكنني لا أستطيع الحديث والتواصل معك من شدة الإحساس بالاكتئاب والحزن والألم النابع من اختلال في كيمياء مخي. ففي هذه الأيام يبدو كل ما في العالم مختلفا تماما، ولا يمكن لأي إنسان طبيعي يتمتع بصحة عقله أن يرى العالم بالشكل الذي أراه أنا به.

ثم ماذا؟

ولعلك بعد هذا الشرح المطول جدا والعميق بعض الشيء للاكتئاب ولمشاعري وظروفي، لعلك الآن تتساءل وتستعجب كيف أدّعي الجنون وفي ذات الوقت أستطيع توضيح الأمور بهذا الشكل التفصيلي الدقيق!؟ أو ربما تقول هذا كلام شخص مريض فعلًا ولكن ليس بالاكتئاب، وإنما بعدم النضج وبالطفولة المتأخرة، وبالحاجة الطفولية للاهتمام.

لا ألومك في تحليلك هذا. ولكن أحب أن أوضح لك أنه من عجائب مرض الاكتئاب أن المريض قد يكون ناجحا -بل ربما متفوقا- في بعض نواحي الحياة -رغم مرضه العقلي-، وكأن قدراته العقلية تركزت في ناحية ما فأبدع فيها، وخبت في ناحية أخرى فأثرت على إحساسه بالسعادة والحياة.

والأعجب من ذلك أن تفوقه قد يكون في فهم النفس البشرية وتنميتها. فقد يكون لديه الكثير من الفهم والدراية بخبايا النفس البشرية وبعلوم التنمية البشرية، بل قد يستطيع أن يدرس هذه العلوم ويقدم المساعدة للأخرين ويأخذ بأيديهم لتحقيق السعادة في الدنيا والعمل للآخرة.

ولكن ومع كل هذا، يعجز عقله عن تطبيق ذلك على حياته الشخصية، قد يبدو لك الموضوع وكأنه نوع من النفاق، فالاضطراب العقلي يمكن أن يظهر للبعض في شكل شخصية منافقة أو كاذبة أو مستجدية (طالبة) للاهتمام، وذلك نظرا للاضطراب والتناقض الحاصل في بعض وظائف المخ.

يحضرني في هذا الصدد الممثل الأمريكي الكوميدي الشهير (روبن ويليامز) الذي مات منتحرا بعد معاناة طويلة مع الاكتئاب -فيما نُشِر عنه-، وأول ما يخطر ببالك، كيف يكون ممثلا كوميديا ويعاني من الاكتئاب؟! لقد عاش يقدم للكثيرين الابتسامة والسعادة، بينما كان يتألم في صمت لوحده -فيما أظن-.

أرجو أن يساهم هذا المقال في التخفيف من الإحساس بالعار لدى المرضى أمثالي. والتخفيف من الإحساس بالعار لدى أقارب المرضى ومعارفهم، ولا أظنني أستطيع -مهما حاولت- وصف بشاعة الصدمة وشدة الألم الذي أصابني من ردة فعل أحد الأقارب عندما صارحته بمرضي، فقال لي: “ليتك لم تخبرني”. وطلب مني ألّا أذكر هذا الأمر لأي من المعارف المشتركين بيننا. لن أحدد لكم طبيعة القرابة لكيلا تتعرفوا عليه أو عليّ، ولأجنّبه العار الذي سيلحق به عندما يعرف معارفه بأن له قريب مصاب بمرض عقلي. ولنفس السبب فلن أوقع على هذا المقال باسمي الحقيقي، لأجنب أقاربي العار في حال انتشار هذا المقال بين الناس المحيطين بي.

أرجو أن يساهم هذا المقال في إيضاح أن المرض العقلي ليس نتيجة لبعد المرء عن ربه أو لتقصيره في الاهتمام بممارسة الرياضة أو لعدم فهمه لأولويات الحياة وسبل الوصول للسعادة، وإنما هو اختلال كيميائي في مكونات المخ، ويحتاج إلى علاج طبي مثله مثل أي مرض أخر.

لا أستطيع أن أنهي هذا المقال الطويل دون التعبير عن عميق امتناني وشكري لزوجتي الحبيبة التي قدمت لي كل الدعم. وربما كانت الشخص الوحيد الذي لم يقدم لي نصيحة واحدة. نعم، هذا هو كل ما أريده “عدم تقديم النصائح”. زوجتي “تحسن الاستماع” لما أقول لها. ولكنها “لا تحاول تقديم الحلول”. هذا هو كل ما أنتظره منك “مجرد الاستماع” والدعاء. أرجو منك ألا تصر على محاولة تقديم النصح لأن ذلك يزيد حالتي سوءا. أرجو منك أن تساعدني بالطريقة التي تفيدني؛ حسن الاستماع والدعاء.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد