“ما لَم تُحِط بهِ خُبرًا”.. حكمة الابتلاء

image_print

لا أذكر أنّي قرأت عن خبر مؤلم أو صادفت حدثاً مؤلماً إلّا تبادر إلى ذهني في الوهلة الأولى سؤال الحكمة من وجود الشر، أُصابُ بذهولٍ لحظيّ عند السماع بخبر حَدَث أو جريمةٍ قاسية ثُمّ أعود لأذكّر نفسي بأنّنا لسنا في دار العدل ولا في دار الجزاء، ومن هنا يظهر أمام كُلٍّ منّا مفترق طُرق؛ فإمّا إنكار وجود الله أمام ذهولنا بما يحدث من شُرور، وإمّا السعيُ بحثاً عن علمٍ نُحيلهُ إلى عمل فيزداد الإيمان بوجوده تعالى ويترسّخ أكثرَ بالألم.

ملحدٌ جاد ومؤمنٌ جاد
يقول سيّد قطب: “ولماذا؟ -في هذا المقام- سؤالٌ لا يسأله مؤمن جاد ولا يسأله ملحد جاد.. المؤمن لا يسأله لأنّه أكثر أدباً مع الله -الذي يعرفه بذاته وصفاته وخصائصه- وأكثر معرفة بطبيعة إدراكه البشريّ وحدوده، وأنّه لم يُهيّأ للعمل في هذا المجال.. والملحد الجاد لا يسأله، لأنّه لا يعترف بالله ابتداءً، فإن هو اعترف بألوهيّته عرف معها أنّ هذا شأنُه سبحانه ومقتضى ألوهيّته، وأنّهُ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، لأنّه وحده المُهيمن العليم بما يفعل.” [كُتيّب هذا الدين: ص ٨]

يؤسفني القول بأنّ هذا الكلام كان بديهياً أو فلنقل كان مُسلّماً به عند المسلمين في بدايات الإسلام، والقرآءة في السيرة تؤكِد على هذا، فكم من أحداث مؤلمة كان يقوم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- من بعدها ليواصل تبليغ رسالته، يُؤذَى ويموت أهله ويُحارَب، يحزن، ثم تتنزل عليه آيات الله تخبره عمّا لاقاه الأنبياء من أقوامهم ومن أهلهم، بل ويخبره عمّا لاقاه من هم أقلُ مقاماً من الأنبياء، عن آسية زوجة فرعون والسحرة التائبين، وعن أصحاب الأخدود، وتبقى الآيات محفوظة إلى يومنا مؤكدةً لنا مِراراً أن لسنا في دار الجزاء، فالقصة انتهت في عالم الشهادة بعد أن أُحرِقَ أصحاب الأخدود، لكن ما يزال لها بقيّة في عالم الغيب.

مع طغيان المادة اليوم، ومع بدء عبادة الناس لأهوائهم ومقتنياتهم وأموالهم، لم تعُد هذه الحقيقة مفهومة، فمنتهى أحلام الناس في الدنيا، وفي أسوء الأحوال يفرض علينا هذا العالم الماديّ صورة العجوز الشائب المستلقي على سريره، يده بيد زوجته العجوز، ثُمّ في قمة الأمن، تخرج روحه.

هذه الخاتمة التي ما زال روّاد العلم وعبدة المادة يسعون للحصول عليها وإقناع الناس بأنّهم لابدّ أن يتقلبوا طوال حياتهم بين ألوان النعيم ثمّ يختمونها بذاك المشهد، لكن عَبَثاً، نرى بأعيُينا كلّ يوم بأنّ محاولاتهم تعطي نتائج عكسية، نراهم في قمة الرفاه الدنيويّ وفي قمة ما يزعمون بأنّها حرية، يُنهون حياتهم بأيديهم وهم في مقتبل أعمارهم، وإن عدنا لسؤال الشر، فإننا ندرك بأنّه مهما حاول الإنسان أن يجد اللذة الدائمة فإنّه لن يصل إليها، لا بتقنيات ولا بعلم، فذات علم الكيمياء الذي يسهم في صناعة الدواء، يسهم في صنع القنابل.

وبين المؤمن والملحد، أستحضر مشهداً لأُمٍ قُتل ابنها الصغير ورأته أمام عينيها مضرجاً بالدماء، وقد اختارت الصبر واستحضرت عدالة الله، فروح ابنها في عليين بين يدي الإله الرحيم العادل، الذي شقّ سمع طفلها وبصره في رحمها، ومتّعها به سنيناً وأخذه رحمةً لحكمةٍ يعلمها وحده، ووعدها إن صبرت بأن تلقاه في الجنة وبأن يُبنى لها فيها بيتٌ اسمه الحمد.

وهذا المشهد يدفعني للحديث عن اليُسرِ داخل عمق العُسر.

أشدّ قُرباً
يقول ابن الجوزي: “فالحقّ عزّ وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طيّ البلاء، وإنّما البلاء المحض، ما يشغلك عنه، فأمّا ما يُقيمكَ بين يديه، ففيه جمالك.

وقد حُكي عن يحيى البكّاء: أنّه رأى ربّه عزّ وجل في المنام، فقال: يا رب؛ كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يا يحيى؛ إنّي أُحب أن أسمع صوتَك.” [صيد الخاطر: ص ٦٠].

ويقول تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(٦)}[الشرح]، كم منّا أساءَ فهم الآية، وكأنّما بدّل (مع) بـ(بعد)، لكنّ الآية تقول أنّ اليُسر في داخل العُسر نفسه، فكم من لذة قرب لله ومناجاة له لم نستطع تحصيلها إلا عند الشدائد، ولرُبما لكُل إنسانٍ يؤمن بالله قصة مع سجدة أو خلوة في الألم، دعى الله فيها واستسلم بين يديه كأنّه أمامه حقًّا، فأبدله الله في تلك اللحظة بألمه الشديد لذّة لا تشبه لذّات الدنيا، فكانت الأصوات من حوله تغيب، والمكان من حوله يُنسى، وصار بين يدي الله حاضراً بقلبه قبل جسده، ثمّ بعد انقضاء الشدة حاول العودة إلى تلك اللذة في الرخاء فلم يستطع تحصيلها، ولا يخفى أيضاً أنّ العسر يحمل بداخله الكثير من اليُسر الذي يتجلّى في صورٍ كثيرة، لكن إن لم يكن العسر يحمل إلا لذة القرب من الله فهذا يكفي، ويكفينا قول ابن تيمية لتلميذه ابن القيّم عن حبسه في السجن : “مايصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ إن رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بدلت ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، على ما سبّبوا لي فيه من الخير. ” [الوابل الصيّب].

المشهد الأخير
المشهد الأخير ليس هنا، حيث لا شيء يضمن العدل المُطلق، لا قانون ولا بشر ولا محاكم ولا مُنظمات، لا يمتلك العدل المطلق سوى الله، حيث يجمع الخلائق يوم القيامة، فلا يضيع حقُّ إنسان، بل ويقول صلى الله عليه وسلم: “لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء” [صحيح مسلم : (4/1997)]، فإذا كان حقُّ الشاة يُرد، فكيف بالبشر المظلومين، أو بمن قاسى أشدّ أنواع الألم، فلا بُدّ أن تُردّ الحقوق مهما صغرت، وسنرى حينها المجرمين يتساءلون مالِ هذا الكتاب لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرة، فلا مهرب اليوم، حيثُ تشهد الخلائق، وتشهد أعضاء الإنسان على ما فعل، فإمّا نعيمٌ مقيم وإمّا شقاء{وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٤]

فإنّ الإجابة عن سؤال الشر لا نحصل عليها بالشكوى ولا بالهروب من النور إلى ظلمات الدنيا أو ظلمات الإلحاد، وإنّما نحتاج إلى عودةٍ حقيقيةٍ إلى الكتاب الذي أخبرنا بالهدف من وجودنا، ثمّ الإيمان بما فيه، والعمل، العلم لا يكفي دون عمل يتبعه ودون دعاءٍ مُستمر لله  بتثبيت قلوبنا على دينه ، أمّا الجهل وعبادة الهوى والتثاقل عن العمل، فكُلٌ منها تؤدي إلى التيه والحسرة وعدم الحصول على شيء، لذا يجدرُ بنا العمل لنكون ممن قِيلَ فيهم “وَعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: “قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ”. [رواه مسلم].

Author

  • سندس أيمن

    طالبة بكالوريوس في تخصص اللغة العربية، مهتمة بتحصيل العلوم الشرعيّة، ومتابعة لكتب علم النفس من منظورٍ إسلاميّ.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد