المصطلحات.. كلمات مجردة أم وعي

image_print

إن للمصطلحات دورًا مهمًّا في تكوين ثقافة المجتمعات وتشكيل العقول، وتحمل في طياتها تاريخ المجتمع وثقافته وموروثاته، فما أهمية إدراك أبعاد هذه المصطلحات؟ وما أهميتها في العلوم التجريبية والنظريات الحديثة خاصة الإنسانية منها، وما قدر الاختلاف الذي قد يحمِلهُ مصطلح واحد إذا تم تفسيره في نطاق ثقافات ومجتمعات متباينة؟ وهل النظريات الحديثة مبنية على مرجعيات دينية وإلحادية؟

سنرد بإذن الله على تلك الأسئلة، ونقطة مهمة سنخرج بها من هذا المقال، وهي: كيف نتعامل مع المصطلحات؟. إن المصطلحات المبهمة الغامضة تُربِكُ الذهن وتُشوش الأفكار، ولأن من البلاغة أن تُبيّن وتُعبِر عن قصدك بالشكل الذي يجعل القارئ أو السامع يتفهّم ما تريد إيضاحه أو قوله، ولأهمية الكلمة ووضوحها يقول الدكتور زكي نجيب محمود  “قد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها، لكنك إذا عزلتها وحدها ووضعتها في مخبار التحليل ألفيتها تقاوم وتراوغ، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ كائنٌ حي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، تنصاع لفهمك إذا جعلتها جزءاً من عبارة، وكأنها وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى” (١).

أهمية المصطلح في الثقافة الإسلامية.

أنزل الله عز وجل القرآن بلسان عربي مُبين، حماية له من التأويلات الباطلة، ولقدرة اللغة العربية على توضيح المعاني بطريقة واضحة جازمة و”لأن أهل تلك اللغة أفهم لدقائقها، واصطفى رسوله من أهل تلك اللغة لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم، فيكونوا المبلغين مراد الله إلى الأمم” (٢).

وأدان القرآن الكريم محاولات أناس للخداع اللفظي أو تعمد الغموض واللبس ليتسنى لهؤلاء تفسير الكلمات حسب أهوائهم وتحميلها المعاني التي تناسبهم، قال تعالى مخاطباً بني إسرائيل ومن صفاتهم هذا الخداع والخلط، {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]. وقال عنهم: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46]؛ ولأن من الملاحظ أن كثيراً من التفرق والتحزّب الذي يقع في الأمة الإسلامية إنما هو ناشئ عن سوء الفهم والتعامل مع الألفاظ والمصطلحات، ولهذا قد منع العلماء من إطلاق الألفاظ المُبتَدَعة المُجمَلة المُشتبِهة، وإن كان العلماء والمفسرون في الفكر الإسلامي قد كفونا مهمة شرح وتحديد بعض المصطلحات المهمة القرآنية مثل: الجاهلية، الأمة، الحكم، الهجرة، الجهاد، فإن بظهور عصر الترجمة في العصر العباسي الأول، قد أُدخِلَت عبارات ومصطلحات من نتاج ثقافات ولغات أخرى، ومن الأمثلة البارزة في ذلك: أنّ لفظ (العقل) عند اليونانيين القدماء الذين تُرجمت كتبهم، إنما هو مغاير تمامًا لمعناه في القرآن الكريم، فإنهم يعنون بالعقل جوهراً قائماً بنفسه، ولكن في المصطلح القرآني هو إجراء ذهني يساعد على السيطرة والضبط والتحديد وهو عملية رُشد وتمييز بين الهدى والضلال.

فهكذا تتجلى أهمية اللغة والمصطلحات ومعانيها بالنسبة للمسلمين “فقد كان المسلمون أمة المصطلح إبداعاً وتوليداً واشتقاقاً وبياناً، ووصفاً وتدقيقاً، وتأصيلاً وتقعيداً، بصورة مثلت ريادة حضارية في هذا الباب” (٣). فهل يتغير مضمون المصطلح حسب المرجعية الثقافية؟

المصطلح بين ثقافة وأخرى

قل أي جملة شئت، مهما بلغت بساطة مضمونها، ثم انقل هذا المضمون إلى لغة أخرى تجدك قد اضطررت إلى نقص هنا وزيادة هناك مما تقتديه ثقافة تلك اللغة الأخرى” (٤)، ولأن المصطلحات تحمل سمات من صكها، حيث أنه يترك بصمته فيها، فتخضع لفلسفته ورؤيته الوجودية، لهذا وغيره، فإن المصطلحات المتكونة في مجتمع معين وبمرجعية محددة، قد يصعب وجود ما يطابقها في المجتمعات الأخرى، فمثلا مصطلح (العبودية) أو (عبداً لله)،هل يترجم بكلمة (slave) الإنجليزية وهي تعني العبد المملوك، أم نترجمها إلى (servant of God) وهي تعني الخادم لله!، ولكن ليس هذا معنى العبودية في المصطلح القرآني، والتي تعني الخضوع مع المحبة، ولذلك وصف أشرف الخلق بصفة العبودية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ..).

مصطلحات العلوم التجريبية والأدلجة.

من بين تلك العلوم التي نشأت في العصر الحديث، أي: في وقت الحداثة وما بعدها عندما انتشر الفكر الإلحادي، تم تفسير الظواهر الطبيعية والعلوم عمومًا من مرجعية إلحادية تطورية.

فنجد مثلًا أن الأديان تعتبر وهم صنعه شخص ووضع قواعد لضبط العلاقات بين الناس، وذلك بناءً على كلام داروين عن الأديان وتفسيره لها كونها “فيروس” أو كما فسر كبار الملاحدة أنه وهم لتخدير الناس ليس أكثر..

ونجد في علم النفس التطوري أو علم الأحياء، يتم دراسة سلوكيات الحيوانات؛ ثم تطبق هذا الدراسات على الإنسان، باعتباره حيوان تطور من قرد إلى تلك الحالة التي هو عليها الآن.

وهذا مخالف تمامًا لمفهوم الإنسان والتكريم والخلافة في الأرض بالنسبة للثقافة الإسلامية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء 70]

ولهذا كانت مشكلة العلوم الإنسانية في فكرنا العربي خاصًة عند المُتَغرِبين أنها مستمدة من الغرب حيث قاموا بنقل ما يسمعون، دون النظر إلى المنطلقات التي تم فهم المصطلح بها، أو حتى تقييم مضمون المصطلح من منطلق ثقافتنا الإسلامية.

اليوم.. ثقافة الغالب واحتلال العقول

يرى ابن خلدون في مقدمته أن “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، واليوم أغلب المصطلحات تتركز في وعي الجيل الصاعد بما تحمله من معانٍ غربية، فمصطلحٌ كالأسرة، والذي يشير في ظلال السياق الاجتماعي العربي إلى الأسرة الممتدة من الجد إلى الأب والأحفاد، محكوم بمعاني الترابط والتراحم والشرف، فإنه في سياق المجتمع الغربي لا يعني ذلك وانما يشير إلى المجتمع التعاقدي، الذي ثار على طقوس الكنيسة، وقدم نموذجاً مختلف لإرادة الصراع في المجتمع، من ثم أصبح مفهوم الأسرة هو تعاقد شخصين، وازدادت خطورته في إطارات الاسرة المتعدد (مظاهر الشذوذ الجنسي)، لا يرى فيه أهله حرج، وأصبح يلاقي قبولًا واستحسان في مجتمعاتنا العربية.

ومما يشار له كثيرًا كقاعدة لعلاج هذا الخلل في نقل المصطلحات من لغة إلى أخرى “هي أن يُدرس المصطلح الغربي الذي يشير إلى ظاهرة ما من خلال سياقه الأصلي دراسة جيدة، نعرف مدلولاته معرفة جيدة، ونحاول توليد مصطلح من داخل المعجم العربي بحيث لا يكون ترجمة حرفية، وإنما تسمية للظاهرة من وجهة نظرنا، وقد أدمنّا عملية نقل المصطلحات دون أعمال فكر أو اجتهاد، ودون إدراك للمفاهيم المتحيزة الكامنة”(٥). لأن عملية تقريب مصطلحاتنا هذه إلى المفاهيم الغربية يُعقّد مشكلة النهضة والإصلاح التي نسعى إليها، ويوقعنا في حالة الاستتباع والانبهار. ” ولكن ماهي خطورة استخدام المصطلحات الغربية على شرعتنا وثقافتنا؟

القبول بكل الحواشي

نستطيع اليوم أن نجد تيارات حداثية يمكن أن نُسقط عليها ذلك الكلام، فمصطلح مثل النسوية موجود عندنا في اللغة العربية:

“قال سيبويه في الإضافة إلى نساء: نِسوي، فرده إلى واحدة، وتصغيره نِسوة نُسَية، ويقال: نُسيَّات، وهو تغير الجمع”(6) فإن سلّمنا بأن ذلك المصطلح مضمونه هو نفس مضمون النِسوية الغربية، ثم نأتي ونجعله شعار لرفع الاضطهاد دون النظر إلى ماهية الاضطهاد، وكيف تفسر تلك المظالم والاضطهاد عند من ننقل مصطلحاتهم؟

فالظلم والاضطهاد: هي عدم المساواة بين الجنسين، فانظر كيف تستخدم مصطلح؛ فتتهم الله بأنه ظالم كون الإسلام ليس دين مساواتي؟

ولكي تتجنب النسويات ممن استخدمن المصطلح ذلك الصدام؛ قررن نقل النزاع مع الإسلام إلى نقله إلى المفسرين، باعتبارهم بشر “هم رجال ونحن رجال” وعمل تفسير نسوي بديل للقراءة الذكورية -على وصفهم- وكل ذلك لمحاولة إقحام مضامين الثقافة الغالبة، واختراق هويتنا وثقافتنا، فتدخل علينا كل مضامين النسوية بصبغة دينية يرتضيها المجتمع لكونها غير مصادمة مثل التي تتهم الدين والإله.

“وعلى ذلك؛ فإن التحذير من ضرر استخدام المصطلحات الغريبة على شريعتنا وثقافتنا لا يمثل موقفًا انعزاليًّا أو تقوقعًا وانكفاء على الذات، وبُعدًا عن التفاعل مع العالم من حولنا، وإنما يمثل موقفًا محافظًا على مقومات الأمة وخصائصها ألا تذوب في غيرها؛ فإن تلك المصطلحات محمَّلة بدلالاتها الخاصة بها التي تكونت عبر أجيال عدة، وخبرات متطاولة في بيئة غير إسمية، وهي بالطبع بيئة مناقضة لبيئتنا.. وهي تمثل اعترافًا بعجز ثقافتنا أن يكون لديها المصطلحات الخاصة بها التي تدل على المضمون الذي نريده، ثم إن هذا التصرف سينتهي – ولا بد- إلى قبول المصطلح بكل شروحه وحواشيه”(7)

خلاصة القول

انتهينا بفضل الله من مقالنا، وذكرنا أهمية المصطلح في الثقافة الإسلامية، وكيف يتغير بين ثقافة وأخرى، وتكلمنا عن مصطلحات العلوم والنظريات الحديثة، وكيف أن تلك النظريات منها ما هو مؤدلج، وكيفية احتلال العقول عن طريق المصطلحات وتشكيل الرغبة والوعي، وأن المصطلح دون مراجعة من منطلق وهوية إسلامية؛ حتمًا سيؤخذ بكل ما فيه حتى وإن كان مخالف للشريعة الإسلامية.

والنتيجة أن المصطلح هو المُعبر عن هوية الأمة وذاتها وأصلتها، ومضمون المصطلح لا بد أن يكون متوافق مع الشريعة الإسلامية، بدون زيادة أو نقصان، فما يتفق عليه أصحاب الفكر المتعلمن، وعلماء  العلوم الحديثة وإن تقاطع مع مضمون مصطلح لنا؛ لا يعني ذلك أن يكون المصطلح الغربي استخدامه مناسب لنا لأن تقاطع المضمون ليس حُجة على أن المصطلح متوافق مع هويتنا، إلا عندما تنظر إلى باقي المضامين وتراجع المصطلح انطلاقًا من مرجعية الوحي، فإن كان متوافق لا إشكال، وإن كان غير متوافق، فلا يصح استخدامه لما يتضمن من معاني باطلة ويمكن أن تكون مُبدّلة لدين الله وشريعته.

“فمن الواضح أن المتغربين قد انخرطوا في نفس المسار الذي سار عليه علم الاجتماع في الغرب من جهة بحوثه حول الدين، وهو إطار مشبع – في الغرب – بالعلمنة والالحاد والرؤية المادية، ولم ينجح العرب المتغربون في الانفكاك عنه، فظهرت بحوثهم حول الدين متأثرة بذلك الإطار؛ فحولوا الدين إلى ظاهرة اجتماعية، واستبعدوا الجانب الإلهي، وجعلوا بعض البدع وسيلة لتعميم أحكامهم السقيمة على دين الإسلام…فمع الداروينيين يكون أصل الدين راجعًا إلى الطبيعة والمادة، ومع المغتربين من علم النفس مصدره لا شعوري، ومع المغتربين في علم الاجتماع؛ يكون مصدره المجتمع، وغفلوا أو تغافلوا عن الفرق بين الدين الحق وأديان الباطل”(8)


المراجع

(١) ثقافتنا في مواجهة العصر /١٩٢

(٢) التحرير والتنوير ١٦١/١٠

(٣) الأستاذ هيثم زعفان: كتاب المصطلحات الوافدة وأثرها على الهوية الإسلامية.

(٤) في حياتنا العقلية /١٣٢

(٥) دكتور عبد الوهاب المسيري: حوارات ٣٥٠/١

(6)  لسان العرب لاين منظور الإفريقي ج15/ص321

(7) محمد بن شاكر الشريف، دعوة إلى تأصيل المصطلحات السياسية، مجلة البيان، السنة العشرون، العدد 213، جمادى الأولى 1426 ه . يونيو.

(8) خاتمة كتاب النظريات العلمية الحديثة – حسن الأسمري

Authors

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد