“الشك العبثي” قاطرة جيل ما بعد الثورات إلى المجهول

image_print

في جولة سريعة بين منصات التواصل الاجتماعي وفي داخل المجموعات التي يبثّ فيها الشباب همومهم بعيدًا عن الخطاب المسجدي التقليدي، يعرضون شكوكهم فيها بحرية، ولا سيما أن هذه المنصات تضمن لهم حرية الكلام طالما أنهم متسترون خلف حجاب الاسم المستعار؛ إذ إنّنا ما زلنا نعاني من صعوبة في تفهم عرض النظريات المغايرة، ويتسرع بعض منّا بإطلاق الأحكام على منكري ما نعتقده بأنهم طلّاب شهرة، أو جهّال، فحزمة التهم جاهزة على الدوام، متنقّلين بين طرفين “نحن، هم”، وتبقى محاولات إزالة البُعد المفترض “بيننا” و”بينهم” خجولة.

هذا الشباب المثقل بالهموم التي أفرزها تحويل بوصلة ثوراتهم، التحويل الذي أتى على كل مقدّس بدأً من الإنسان وليس انتهاءً بالعقائد والمسلّمات، ليجد الشباب أنفسهم وسط فوضى الاغتراب وضياع الانتماء وسقوط القدوات، وفريسة لعذابات لا تنتهي، يقف العقل أمامها حائرًا عن استيعابها، فضلًا عن إيجاد أجوبة للأسئلة الوجودية التي يكرّرها الشباب اليوم، تبدأ من وجود الله، ولا تنتهي عند أسئلة الغاية والمعنى.

هذه الأسئلة وإن كانت تنشط في خضم الأزمات فإنها ليست بالجديدة، فمذ وجد الإنسان على هذه الأرض وهو لا يألو جهدًا في البحث عن المعنى والغاية -وليست نشأة الفلسفة ببعيدة عن هذا المعنى من البحث- يعيش البعض ويمضي وهو مسلّم مقلّد، ويثور البعض على التقليد ويجعل من ثورته قاعدة انطلاق في رحلة البحث عن الحقيقة والغاية، كما فعل الإمام أبو حامد الغزالي الذي يُعَدُّ المقعد للفلسفة الشكوكية في كتابه “المنقذ من الضلال”، وكما فعل الفيلسوف ديكارت أبو الفلسفة الحديثة في كتابه” تأملات ميتافيزيقية”، وكما فعل مصطفى محمود في “رسالة إلى صديقي الملحد” و”رحلتي من الشك إلى الإيمان” وغيرها، فهؤلاء وجِدت لديهم دوافع الشك ومحركاته وهذا ما يلزم على الإنسان العاقل أن يحذوه، أن يقابل شكوكه بالبحث شرط أن يؤمن بداية بإمكانية بلوغ المعرفة، هذه الأوضاع قسمت الشباب العربي اليوم إلى:

من اهتزّت ثوابته، وهو مؤمن بإمكانية المعرفة والوصول إلى الحقيقة وأن لكل سؤال لا بدّ من جواب، فهو مدرك أنه أمام رحلة بحث ليست سهلة، فحالة الشك عنده حال مؤقتة تعتمد على أسس واضحة، فالغاية هي الوصول إلى يقين لا يداخله شك، وهو ما اصطلح على تسميته “الشك المنهجي”، وبين من اتخذ قراره بالإنكار مُغلقًا بذلك الباب على مناقشة الشكوك لأنه اختار وانتهى، وبين من اتخذ من الشك غاية وهو ما اصطلح على تسميته فلسفيًا بالشك المذهبي أو الشك الريبي، ومع التغيير الذي أعاد تشكيل المصطلحات بما في ذلك مصطلح “الشك” ومع ما أضفى إليه التيار العبثي أمكننا أن نسميه اليوم “الشك العبثي”.

صناعة الشك (الشك لأجل الشك)
الحديث عن جيل تعامل مع الشكوك على أنّها محركة للبحث والتنقيب وبالتالي جيل مؤمن بإمكانية الوصول إلى المعرفة هو حديث عن جيل يقف قبالة الجيل الذي شهد التيارات التي أفرزتها مرحلة ما بعد الحداثة، تتمثل بحالة فوضى المفاهيم وعبثية الكون والحياة، أو عدميتها والتي تركت مسحة على كل جوانب الحياة، في العمارة والأدب والفن والفكر، في رد فعل على الآثار التي خلّفتها الحداثة، وهو الملمح الذي أشارت إليه الأستاذة هبة رؤوف عزت في تقديمها لكتاب الحداثة السائلة، بقولها إن الحداثة غيرت مقومات العيش الإنساني وأعادت تعريف الزمان والمكان لتمنحهما معان أكثر اقترانًا بالرأسمالية في مراحلها المتتالية، بالتالي أعادت طرح “ماذا تعني الإنسانية وما هي خصائصها”[1].

فإذا كانت الحداثة تطرح أسئلة الغاية والمعنى لتصل إلى الحقيقة والمعرفة، مؤلهة العقل ومجنّبة ما هو غيبي، لتحرير الإنسان من سلطة ما وراء الطبيعة، ناقلة بذلك الإنسان من سلطة الغيب إلى سلطة الأشياء، فإن تيارات ما بعد الحداثة تتسم بأنها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. فهي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراغماتية، بل عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.[2]

وهي في إنكارها الجدوى والغاية والقيمة تنكر وجود خالق كتحصيل حاصل، فطالما أنه لا وجود للقيمة أصلًا فكيف يمكن أن تكون هنالك قيمة لوجود إله، وتنكر بالتالي وجود وسائل للمعرفة، فما بعد الحداثة نسبية لا تثق بالعقل وتجعل من المستحيل على أي فرد أن يعتقد في مستقبل أفضل أو وجود حل للمشكلات المجتمعية الرئيسية ويبدو البحث بوعي في التغيير والسياسة بشكل عام فاقدًا لكل معنى.[3]

 ويمكن القول إن الشك العبثي هو أحد مفرزات الثورة على كلّ المسلمات، فلم يعد الشك حالة طارئة مؤقتة، وقاطرة للعبور إلى المعرفة والتخلص من سلطة الوساوس بل صار صنعة بحد ذاته، تبدأ القصة بعرض القوالب الصلبة لنار التجديد، فكلّ شيء قابل لإعادة النظر، كل مقدس يمكن إعادة النظر إليه لتتكون لدينا بذلك وجهات نظر، فالإيمان والكفر وجهتا نظر، والشذوذ والعلاقة الطبيعية وجهتا نظر، وتأييد القاتل وتأييد المقتول وجهتا نظر، الفتح والاحتلال وجهتا نظر، الإنسانية برمتها أعيد تعريفها لتصبح المتناقضات وجهات نظر.

البيئة التي ينشط فيها الشك العبثي
تعتبر الانتكاسات الإنسانية وطغيان ثقافة القوة وإخضاع القوي للضعيف، وغياب العدالة، والتقلبات الزمانية والمكانية والاجتماعية التي تطرأ على حياة الفرد فجأة، أضف إلى ذلك تعدد التيارات الفكرية والانفتاح على المعتقدات الدينية السماوية منها والوضعية، جميعها تدفع بالفرد لسلك بداية طريق المساءلة عن القضايا الكبرى التي تمسّ خلق الإنسان والخالق والعالم الخارجي، وفي ظل هيمنة المؤسسات المشيخية والتي تحرّم الأسئلة من أصلها فضلًا عن أن تناقشها، أمكننا أن تنبأ بأن مرحلة ما قبل الانفتاح الذي شهدته العشرية الأخيرة أخرج هذه التساؤلات من قمقمها، فهي موجودة خاملة، وما عادت الإجابات الكلاسيكية مقنعة وشافية لها.

لا تكمن مشكلة الشباب اليوم في انجراراهم وراء الفلسفة العدمية أو التشاؤمية أو غيرها، فبالرغم من أن هذه التيارات تركت آثارها على كل جوانب الحياة، إلا أن هذه الآثار لم تتأصل في جيل اليوم، يحاول البعض تقمصها لكنه لا ينجح في ذلك، إما بسبب غياب الرؤية الواضحة لما يريد، فلربما يلزمه إعادة ترتيب لحياته، وتنظيم أسئلته ليتمكن من إيجاد أجوبة لها، أو بسبب تبعيته لمنظومة دينية أو خلفية اجتماعية تشكّل لديه حالة من الانتماء، فالحديث ليس عن الجيل الذي اتخذ قراراه بإنكار الغاية إنما عمن يتخبط بين النظريتين، ويجد أن الإقرار بوجود صانع يبقى خيارًا منطقيًا يرجّحه على عبثية الكون، فالإقرار بوجود الصانع قاعدة، إذ يتركز البحث عنده لا على وجود الخالق بل على الحكمة، هو فقط يريد أن يدرك الحكمة من كل شيء، ويجعل من إدراكها شرطًا لئلا يختار العبث على المنطق، فلو سأل لم خلقنا الله وقلت له “لنعبده”، قال “ولم نعبده”، وهو يفترض أنه بالحدس والتجربة يستطيع إدراك الحكمة من كل شيء، وهنا مربط الفرس، إذ أن العقل بما أوتي من أدوات؛ له محطّات يقف عندها وهذا مثبت بالتجربة والبرهان، فنظرية مكيانيكيا الكم التي حطمت نظريات الفيزياء التقليدية تنقض اليوم ما توصل إليه العلم البارحة. يقول الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والتر ليوين في حديثه عن الفيزياء الكمية “من المستحيل استيعاب فيزياء الكم وهذا أغرب ما فيها، ولا تسألني حتى لماذا، لا تسألني كيف ستثبتها وكيف تعمل لأن هذا السؤال ممنوع، كل ما يمكننا قوله إنه على ما يبدو هذه هي الطريقة التي يمشي بها الكون”[4].

بهذا المنطق يمكن القول إن الحكمة من خلق الخلق لا تستطيع أن تصل لأبعد مما صرّح به الخالق نفسه، فهنا أنت تجهد العقل ليعمل خارج النطاق المسموح له، والانشغال بالبحث عن الحكمة وراء كل شيء لا يؤدي إلى نتائج مفيدة دائمًا، يستطيع الشباب اليوم أن يجد توازنه بين الواقع السوداوي الذي يعيشه وبين البحث عن الحكمة، باقتناعه أولًا بإمكانية الوصول إلى المعرفة، واقتناعه أن لكل سؤال لا بدّ من جواب، عدا تلك الأسئلة التي يقف العقل عندها، فما وجده كان به، وما لم يبلغه سلّم بما وصله عن الخالق.

___________________________________________

الهوامش

[1] سيولة الحداثة

[2] مدخل إلى مفهوم ما بعد الحداثة، جميل حمداوي
https://www.alukah.net/publications_competitions/0/38509/

[3] جورج لارين، الأيدولوجيا والهوية الثقافية الحداثة وحضور العالم الثالث، ص 207

[4] لقاء لصالح ناشيونال جيوغرافيك https://www.youtube.com/watch?v=KYUR9x0tzLQ

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد