يا بنيّ اركب معنا.. أبٌ كريم وابن كافر

image_print

أمواج عاتية صاخبة تضرب بقاع الأرض، رعبٌ ووجلٌ يزلزلان القلوب، وسفينة نجاة واحدة تشق وجه الماء. هناك كان الأب العطوف على ظهر المركب يدعو الله وحده ويوجه المسير لما رأى فلذة كبده في الماء يبحث عن أيّة بارقة أمل يتعلق بها. ناداه مشفقاً ملهوفاً ليركب معهم ولا يصيبه ما أصاب الكافرين فيهلك معهم في الدنيا والآخرة، فكان رد الصبي الغافل أن سيلجأ لجبل يحميه، رد الأب سريعاً راجياً لابنه النجاة. لكن قضاء الله أسكت الولد العاق وغيبه الموج القاتل إلى غير رجعةٍ أبدا.

قصةٌ مهولة تدور أحداثها أمامنا في سورة هود كأننا نشاهدها صوتاً وصورة [1]. كلنا قرأ القصة وتأثر بها، لكنني لم ألمس العواطف العميقة فيها حقاً إلا بعدما رزقني الله نعمة الأمومة وأحسست بالمسؤولية العظيمة الملقاة على كاهلي ممزوجة بمشاعر الحب والشفقة والرأفة التي يودعها الله تبارك وتعالى فينا. فهمت لوعة نوح عليه السلام لما علم أن ابنه هلك مع الكافرين واختار لنفسه سبيلهم إلى آخر لحظة.

نوح، أحد أولي العزم من الرسل الذي مكث يدعو قومه تسعمئة وخمسين سنة لا يكل ولا يمل ولا يدع درباً للدعوة إلا سلكه، يفجع بابنه لا يؤمن به ولا يوقن بالله حتى وهو يرى عذابه الموعود بعينيه،{قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].

كيف يمكن ذلك؟ هل يعقل أن يكفر ابن النبي الذي اصطفاه الله لرسالته وأيده بوحيه؟ في القصة دروس عظيمة وعبر للتأمل قد تشق على النفس لأول وهلة، لكنها سرعان ما تولد سكينة وطمأنينة تنسجم مع حقيقة الإيمان والعبودية لله جلَّ وعلا.

إنهم أبناؤنا
تعلمنا قصة نوح عليه السلام مبدأً أساسياً ومهماً في التربية وهو انفصال الابن عن والديه عملاً وتوجهاً، وتحمله لمسؤولية اختياراته ونفسه أمام ربه سبحانه وتعالى، فكُفر ابن نوح عليه السلام لا يعكس بأي حال نقصاً في تدين نوح أو التزامه بما أمره مولاه تعالى، إنما هو كافرٌ اختار لنفسه درباً لم يملك أبوه إنقاذه منه.

طفل صغير محاط بملابس والدته كناية عن التربية الوقائيةكثيراً ما يدخل الآباء والأمهات دون إدراك منهم متاهة اجتماعية مرسومةً لهم تنتهي بتوطين نفوسهم على خدعة أن أبناءهم ملكٌ شخصي لهم لا يحق لهم الانفصال عنهم أبداً. ولهذا شواهد كثيرة، تبدأ منذ الطفولة لما تجبر الأم صغارها على ارتداء ما يعجبها من الثياب، وتصرّ على مساعدتهم في كل صغيرةٍ وكبيرة من شؤونهم. وكذلك يستمر الحال ويتفاقم حتى تصير مسؤوليات الأبناء كلها ملقاة على عاتق الأم ويغيب حق نفسها عليها. قد تواسي نفسها بأنها مثال للتفاني وبأن أبناءها سيردوا لها الجميل لاحقاً، لكن عظم هذه الأخطاء يظهر بعد سنين حين تتحول هذه الأم التي كانت المشفقة الحنون إلى أم زوجٍ أو زوجة شديدة الغيرة لا تستطيع أن ترى سعادة لأبنائها بعيداً عنها، كأن زواجهم صدمها بحقيقة أنهم ليسوا جزءاً منها!

لا أقول هنا أن كل الأمهات كذلك، لكن غياب معاني الإيمان وإعطاء النفس حقها وتجديد النية لله في العمل  والتجرد له يؤدي لهذه العاقبة مع الأسف. فمهمات التربية عظيمة ومجهدةٌ فعلاً، وقد ترى الأم نتيجتها في حياتها وقد لا تراها، فهي في ذلك تعمل وتجدُّ مبتغية وجه الله والدار الآخرة، لا منتظرة من أبنائها حمداً ولا شكوراً. فهم في نظرها أمانة من الله عندها وفرصة لتستكثر من الخير لآخرتها عند من لا يضيع عنده مثقال ذرة.

إضافة إلى ذلك، فإن إمساك النفس عن التدخل في مهمات الأبناء وتصويبهم على الدوام قد يكون أصعب من العمل نفسه، خصوصاً مع ما عوّدنا عليه مجتمعنا وما صدرته لنا وسائل الإعلام من صور نمطية وتوقعات خيالية سواء عن دورنا التربوي أو عن حقوقنا على أبنائنا. فكثير من الآباء والأمهات يستثقلون ترك الابن يدرس بمفرده ويجد نتيجة عمله في الامتحان ويفضلون الإشراف بنفسهم على تدريسه ليكون الأول بين زملائه.

ومن المؤكد أن الأم ليست وحدها من تقع في هذا الخطأ، فكم من آباء عاقبوا أبناءهم بـ”الغضب” والطرد لما رفضوا دخول التخصص الذي أرادوا أو الزواج ممن اختاروا.

وأشبِّه هذا الخطأ التربوي بالمتاهة الاجتماعية لأن دخولها سهل لا يتطلب جهداً، إنما مجرد اتباع التيار، لكن النجاة منها تحتاج تحليلاً لما يدور فينا من أفكار وما تسبب في تكوينها على مر السنين إلى أن صرنا على ما نحن عليه اليوم. فكم من رسائل وصور تراكمت فينا حتى رسخت مبادئ وتوقعات مغلوطة صارت جزءاً من فكرنا وسلوكنا دون أن ندرك. وفي هذا المعنى يقول د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي أنه ينبغي أن نعي ما يردنا من مدخلات، ومن الضروري أن لا نترك مفاتيحنا في يد أهل الإعلام أو الإنترنت أو المجالس اليومية أو غيرهم، وذلك بتدريب النفس على مهارة التوقف والتفكير والعقل والتدبر [2].

ابن ضال لوالدين مستقيمين
قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

أب وابنه يتبادلان أطراف الحديث وقت الغروبفرغم أهمية ما ذكرت من إعطاء النفس حقها وإمساكها في بعض المواضع عن تقويم خيارات الأبناء لتتدرب على انفصالهم عنها وتنمي استقلاليتهم وتحملهم لمسؤولية خياراتهم، فإن ذلك لا يعني أن على الأبوين أن ينسحبا من حياة أبنائهم ويتركا لهم الحرية المطلقة في كل الأمور، بل المراد تحقيق التوازن بين الإشراف والانسحاب. ومن المهم كذلك تأصيل المرجعية الحق في نفوس الأبناء ليعلموا ما العمل الذي يرضي الله وفيه سعةٌ للاختيار مما لا يرضيه تبارك وتعالى. يقول د. ابراهيم الخليفي أن علينا تعليم أبنائنا أنهم في كل لحظة مخيرين ليتعلموا مقارنة البدائل و تمييز الحق واختيار الفاضل ولو كان مراً على المفضول ولو كان حلواً [3].

ولذلك خطوات تبدأ بوعي الأبناء بحقيقة الوجود فهم ولدوا ليخلدوا بين انتقالات من ذر لرحم لدنيا لبرزخ لآخرة، وأن أمامهم في هذا الخلود السرمدي فرصةً قصيرةً ذهبية للعمل يتبعها الجزاء. والعدة للعمل هي معرفة ما يرضي الله سبحانه وتعالى وبناء الخيارات عليه [3].

والمهمة تختلف بحسب المرحلة العمرية للابن، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كخ كخ، ارم بها، أما علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة” [متفق عليه]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الحسن بن علي بنفسه ويصوب له سلوكه برفق ولين وهو بعد طفلٌ صغير.

أما إن كان الأبوان قائمين بما عليهما تجاه نفسهما وأبناءهما ثم كتب الله لأحد هؤلاء الأبناء الضلال فهذا لا يطعن في الوالدين البتة. ولعل ذلك من أهم الدروس المستفادة من قصة نوح عليه السلام مع ابنه الكافر، فضلال الولد لا يدل على تقصير والده. وللدكتور إياد القنيبي كلمة طيبة في هذا المعنى يقول فيها إن الشيطان قد يأتينا من باب الصدق ومحاسبة النفس في حال النوازل حتى يجرنا إلى الإحباط واليأس [4].

إن انحرف ابنك أو ابنتك فلتحاسب نفسك ولتراجع سلوكك وتربيتك له ولتدارك الأمر ولتصلح فيما تبقى، لكن لا تشعر بالفشل أو القلق فتصير غير قادر على التعامل بحكمة مع هذا الابن أو إخوته. ورغم صعوبة تقبل فكرة أن ابناً لك قد يكون ممن لم يشأ الله أن يهديهم, تذكر{إِنَّكَ لَا تَهدِي مَن أَحبَبت} [القصص:56]، فاخضع لإرادة الله واقبل أن له سبحانه قدراً نافذاً قدّره قبل خلق الخلائق [4].

كلهم آتيه يوم القيامة فرداً
شخص يقف وحيدًاورغم ثقل وصعوبة حقيقة الأمر على الآباء والأمهات الحريصين على نفع أبنائهم، إلا أنها تبعث في النفس راحة وطمأنينة إلى عدل المولى سبحانه ورحمته بنا. فكلنا محاسبٌ عن نفسه مسؤول عن ذاته فقط، والله يملك هدايتنا وحسابنا جميعاً، فإن أدى المرء ما عليه أمام مولاه، كان أجره على العمل لا على نتيجته. يقول تبارك وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] فأعمالنا ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة [5]، ولم تذكر الآية نتيجة العمل أو ثمرته. فالمجاهد يثاب بخوضه غمار المعركة لوجه الله انتصر على العدو أم لم ينتصر، وقد قال سيد قطب رحمه الله: “الدعاة إلى الله أجراء عند الله أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا وقبضوا الأجر المعلوم، وليس عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير فذلك شأن صاحب الأمر ولا شأن الأجير” [6]. وسبحان الله كم يبعث الاستسلام له من راحة في النفس فهو سبحانه المتحكم بالخلق مالك نواصيهم، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، و{مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ} [فصلت: 41].

ولذا كان رد نوح عليه السلام استسلاماً لإرادة مولاه سبحانه وانقياداً لقضائه لما علم حقيقة الأمر فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. فيعلم العبد بذلك حده ومنتهى قدرته.

فلله الحمد كم في كتابه الكريم من عبر وفوائد، نسأل الله أن نكون ممن يعيها وينتفع بها. جعلنا الله أن نكون من أهل القرآن العالمين بمعانيه العاملين بما فيه، إنه قريب مجيب، بيده الخير وإليه يرجع الأمر كله سبحانه رب العالمين.


المصادر:

[1] سيد قطب، في ظلال القرآن

[2] د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، مقالة بعنوان: ألف باء العلوم – الحلقة الثانية: موجز فقه التفكير والعقل / الجزء الأول. موقع مركز مكاني.

https://makany.world/

[3] د. ابراهيم الخليفي، مادة مرئية بعنوان: موسوعة الأسرة – كيف نعلم أبناءنا تحمل المسئولية https://www.youtube.com/watch?v=Wv6LOzJqneU

[4] د. إياد القنيبي، مادة مرئية بعنوان: ابني الضال مشروع حياتي. https://www.youtube.com/watch?v=PKMvQc-LUeU

[5] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم

[6] سيد قطب، معالم في الطريق

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد