وقعت بنا كارثة.. كيف نتعامل مع الابتلاء؟
لا يمكن أن يمر على الإنسان حياة كاملة دون عذابات متنوّعة يعايشها ويعاينها كل فرد منا، مادية كانت أو معنوية، بل إن الإنسان ذاته لم يخرج من الجنة إلا ليوضع في الابتلاء والامتحان، أيتعبّد ربّه بالصبر والخضوع، أم يطيش عقله وتلتهب عاطفته بأسئلة الشك والتمرّد!
أرأيت صنوف الابتلاء وأنواعها، بما جدَّ منها وقدم، فإنها -على ما فيها من اختلافات ظاهرة- قديمةٌ قِدَم الحياة البشرية، ووجودها مرتبط بوجود الإنسان، فهي تتوالى على الإنسان منذ خلق اللهُ تعالى أبانا الأول، فقال لنا محدّثًا مبيّنًا: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 27]، ثم تتابعت الابتلاءات في نسله من بعده، فأصابت الأنبياء والصالحين وأممًا بأكملها، فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام: 42-44].
بحثًا عن الابتلاء.. سياقاته وأسبابه
يتعدد الابتلاء في أنواع وأشكال مختلفة، وقد يكون ما في إنسان من ابتلاء غايةً عند آخرين، فيطمح الفقير لقصير منيف يختبر الله صاحبه به، ويطمح العقيم لولد يراه عند أخيه وقد ابتلاه الله به.
ولعلنا رأينا جميعًا أن القرار في المنزل أثناء انتشار وباء كورونا يحتوي أمانًا نسبيًّا من وصول العدوى، لكن هذا الأمان يتحوّل إلى خوف إذا ما جاءت الزلزلة واهتزّت الأرض، فيغدو حينها ساكن خيمة التهجير في أمان أكثرَ مما يسكن في قصر منيف..
إن تعدّد أنواع الابتلاء في كل شيء بين أيدينا -المادّي والروحي والنفسي والجسديّ- يبصّرنا بعِظَم الامتحان وضرورة إقامة حقّ الله بعبادته، والتسليم له مع الصبر والرضا، فلا يركن الإنسان إلى قلق اليأس الذي يدفع الإنسان إلى القنوط والحيرة واليأس، فالباري يقول: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وهذا -بطبيعة الحال- بعيد عن قلق الضعيف الذي يرى في ضعفه قوّة لإيمانه، فلا يغيب عن طرق أبواب المولى طرفة عين، بل يستمسك بضعفه عند الخالق ليمدّه بالصبر والقوة.
ولنرصد بعضًا من الآيات القرآنية التي تشير إلى الابتلاء صراحة في متنها، سنجد أنها تزيد عن ثلاثين آية عدا الآيات التي فيها ما يرادفها من الفتنة والاختبار والامتحان.
تشير هذه الآيات إلى سياقات متعددة للابتلاء، بين الشر والخير وكلاهما معًا، وينصّ كلٌّ منها على دلالة مباشرة، فما هي تلك الآيات، وما دلالاتها؟
نبتدئ من قوله تعالى: {وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، حيث وردت في سياق الشر، وتشير دلالتها إلى اختبار مقدار الصبر والأناة على المصيبة، وفي قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] فقد وردت في سياق الخير، وتشير دلالتها إلى اختبار التكليف، أما قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] فقد وردت في سياق الشر، وتشير دلالتها المباشرة إلى اختبار الصبر على المصائب الدنيوية، أما في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] فكانت في سياق الخير والشر معًا، وأشارت دلالتها إلى اختبار العمل بين الصلاح والفساد، والإحسان والإساءة، وقوله تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] فكانت كذلك في سياق الخير والشر، ودالّة على عِظم ما نراه في حياتنا من خيرات ومسرّات ومكاره وشرور، وأننا نُختَبَر بها كلّها بموقفنا منها وتصرفنا إزاءها.
ولعل أعظم ما في هذه الابتلاءات المشار إليها في القرآن ما عُبّر عنه بالزلزلة فقد قال تعالى -حكايةً عن حال المسلمين- {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] فكان السياق سياق شر، والاختبار دائرًا حول الصبر والثبات.
وبالنظر إلى جميع ما يمكن رصده من سياقات الابتلاء كافة، فإننا نراها تكاد لا تتجاوز هذه القيمة العظمى -أي الصبر والثبات- وعليه مدار السياقات والدلالات المباشرة التي يفهمها أي إنسان ذي لغة عربية سليمة، مثل دلالة اختبار الثبات على الإيمان من عدمه، واختبار الأخلاق والضمائر ما فيها من خير أو شر، واختبار الصبر على الفقد، وكيفية اختيار طرق الخير وأضدادها، واختبار صدق الإيمان وغير ذلك.
إن غاية أنواع الابتلاء كلها -سواء كانت لغاية الإنعام أو الإضرار- بثّ العبرة واقتناص الموعظة {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، والإنسان بطبعه يحتاج إلى تثبيت وتوفيق من الله ورضًا يحكم قلبه في كلا الابتلاءين.
إنه شرٌّ مجّاني.. هكذا يقول المشككون!
تشير موسوعة ستانفورد للفلسفة إلى وجود مفهومين -على الأقل- عن الشر، أحدهما عام موسّع، وآخر خاص مضيَّق، ومن العجيب أن المفهوم العام يستوعب أي تصرّف سيئ، أو أي فعل خاطئ أو أي عيب في الشخصية أو التكوين أو الخِلقة أو الكوارث، فربما يتساوى -في الوصف على الأقل- وجع الأسنان مع كارثة كبرى[1].
قُسّم الشر بمعناه الواسع في مقال الموسوعة إلى فئتين: الشر الطبيعي والشر الأخلاقي، ومن اللافت للنظر أن الشر الطبيعي هو ما يطلق عليه الشر المجّاني لدى منتقدي الأديان من رؤوس الإلحاد -كريتشارد دوكنز-، حيث لا نوايا عاقلة خلفها، مثل الإعصارات أو وجع الأسنان كأمثلة على الشرور الطبيعية. في المقابل، تتمخض الشرور الأخلاقية عن نوايا أو إهمال الفاعلين الأخلاقيين؛ كالقتل والكذب كأمثلة على الشرور الأخلاقية[2].
يستدل هؤلاء القوم على أن وجود الشر المجاني يعني عدم وجود إله للكون، لأن الإله لا يفعل الشر على زعمهم -وقد أشرنا لتفكيك هذه الشبهة في مقال عن مشكلة الشر سابقًا– وبما أن مفهوم الشر الضيق ينطوي على إدانة أخلاقية، فإنه يُنسَب فقط للفاعلين الأخلاقيين من البشر وأفعالهم المباشرة[3].
أقتبس من كتاب د. سامي عامري [مشكلة الشر] النص الآتي: “يقوم المشككون في مسلك ساذج للتهييج العاطفي، بتجميع جميع الشرور في العالم باعتبارها كتلة شرّ واحدة حتى إن عددها يبدو للوهلة الأولى مفزعًا؛ للإيحاء أنّ الشرور في العالم بالغة الكثرة إلى درجة بالغة المعاندة لدعوى الحكمة والرحمة في الخلق.. وهذا منطق متكلف؛ لأن الصواب أن نتحدث عن الشر الذي يصيب الفرد الواحد باعتباره محنة للإنسان كفرد من جنس، أما جمع الشرور جميعًا فإنّه يخرج الدعوى من المعقولية إلى المبالغة والعاطفية. وكما قيل فإنّ كلّ شرور العالم لا تزيد على ما يعانيه كائن واحد يعاني أعظم البلاء؛ فإنه لا يوجد فرد يعاني كل شرور الدنيا. وإذا صحت الحكمة في معاناة أشدّ الناس بلاء، صحت في غيره من باب أولى. كما أن هذا المنطق يعتبر خاطئًا حسابيًا؛ لأنّ الأصل في هذا الكون الخير والانتظام لا الشر والفوضى؛ فإنّ عدد الأصحاء الذين لا يعانون آلاما تتجاوز المعدل المتوسط لتحمّل الأذى، أعظم بكثير ممن يعانون الأمراض التي تحرم الإنسان لذة الحياة والكوارث الطبيعية الكبيرة استثناء في الوجود لا أصل.. ولو أننا حسبنا الأمر بالنسب المئوية، فلا ريب أن نصيب الأذى سيكون بالغ الضعف. ثم إن أصل دعوى الشرّ المجاني هو النظر إلى كل شر كوحدة منفصلة، في حين أنه لو نظر إلى هذه الشرور كأجزاء من صورة العالم في كليته، فستتضح حكم لا تدرك إذا عزلنا كلّ جزء على حدة. [مشكلة الشر، ص: 150]
عند التفكير في “مشكلة الشر” كما يعرضها الملحدون والمشكّكون، نرى أن مكمن الخلل الأساسي قائم على تصوّر مشوّه للإله والكون، فهم يتصورون الإله بناء على خليط متراكبٍ من مفاهيم رحمة مبادئ حقوق الإنسان، وتقبّل الآخر، والآلهة الأسطورية التي تفنى في سبيل إرضاء عابديها.. فهم يريدون إلهًا حسب الطلب، يخدم الجماهير، ويغير رأيه مع تغيّر أمزجتها، وهكذا يمضي الزمان والإله يخدم رغبات الأسياد التي خلقها، وهكذا فإن الملحدين لا يصورون لنا إلهًا حقيقيًّا، وإنما إلهًا استقال من كونه واجب وجود إلى موجودٍ يسعى للمساواة مع الإنسان.
فما بالك بزلزلة الساعة؟
لا يملك المؤمن بالله إلا أن يسلّم بحكمته وعدله، ولا يقف أمام الاختبار إلا موقف الضعيف اللاجئ إلى ربه، فيرضي قلبه بأن ما جرى إنما جرى لأمر يريده الله، وأنه إن صبر فسيكون له الجزاء العظيم، اختبارًا لصبره، أو رفعًا لدرجاته، أو إعدادًا له لأمر أعظم، إيقانًا بالعدالة الإلهية الكاملة، فلا يكون هذا الكون بكل خيره وشروره إلا اختبارًا يبحث عن تجاوزه بما يرضي الله عنه فيه.
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
إن الإلف حجابٌ، فالإنسان قد لا يتوقف متأملاً الأشياء التي ألِفها؛ حتى يحدث انقلاب في معهود الأشياء، حينئذ يشعر الإنسان بحقيقة نعم الله، ولنأخذ كارثة زلزال تركيا وسورية على سبيل المثال، فقد جرى في أقل من دقيقتين ما يشيب له رأس الوليد.. ومبعث ذلك أن الناس لم يشعروا بنعمة قرار الأرض إلا حينما مادت من تحتهم وأسقطت بيوتهم وآمالهم، فشعر الجميع بضَعفهم الشديد أمام مخلوق من مخلوقات الله..
ألا يستوجب هذا أن يقف الإنسان لأجله معتبرًا لنفسه فيحثّها على الفوز في هذا الامتحان، بالصدقة والتطوّع والتعبّد والتعلّم وكل ما يمكن أن يكون سببًا في نهضة إنسان أو مجتمع أو أمة..
ما بال الإنسان يفزع لزلزلة لحظات، ما الذي سيقاسيه حين تُضرب الأرض من شرقها إلى غربها فتخرج أثقالها إيذانًا بساعة الحشر ووضع الموازين للقسط.
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 1 – 8].
[1] ينظر: مفهوم الشر، موسوعة ستانفورد للترجمة، رابط المادة الأصلية: https://stanford.io/3xnOuVu ، رابط المادة بالترجمة العربية على موقع مجلة حكمة: https://bit.ly/3YUHlaV
[2] المرجع السابق ذاته.
[3] المرجع السابق ذاته.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!