وجود الله عز وجل إسلاميّاً (الجزء الأول)

image_print

أبرز محاور العقيدة الإسلاميّة؛ هو وجود الله عز وجل. وهذا شيء طبيعي؛ فالقرآن الكريم يعتبر الإنسان مخلوقاً لغاية مقدسة حددها بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).[1] أي لالتزام منهج شرعه في نشاطات الحياة الخاصة والعامة، فكان من الطبيعي أن يكون الخالق سبحانه أبرز محاور هذه العقيدة، وأن يكون الحديث عنه أظهر معالمها، إذ بين العقيدة والشريعة تلازم وثيق للغاية، فلا شريعة عامة بلا عقيدة صحيحة، ولا عقيدة صحيحة بلا شريعة عامة.

ومن ثم كانت كثرة الحديث عن الله تعالى في القرآن والسنة، مع ربط أسمائه وصفاته بحركة الإنسان والكون والحياة والتاريخ والتشريع، تنبيهاً على معنيين اثنين:

الأول: أن التوحيد مقصد أصيل في الرؤية الإسلامية، فالإنسان إسلاميّاً مخلوق لله تعالى، ومن المنطقي أن يُعرّف الخالق بنفسه لهذا المخلوق.

الثاني: أنه سبحانه ليس فكرة ذهنية عائمة، بل له وجود واقعي يتجاوز الإنسان والكون، وليس بعيداً عن الوجود، بل له فاعلية قوية وعميقة ومتواصلة فيه.

هذا البروز الإلهي في نظام العقيدة الإسلاميّة وكثرة الحديث عن الله تعالى وتجلّيات أسمائه وصفاته في الكون والحياة، وارتباطها الوثيق بحركة الإنسان في الواقع والتاريخ، وانعكاساتها على مجالات التشريع والتنظيم؛ كل هذا يمكننا تحديده في معلمين كبيرين، وهما: الحقيقة الوجودية، والألوهية الوجودية. وبيان ذلك هو:

الحقيقة الوجوديّة
الله سبحانه في العقيدة الإسلاميّة ليس فكرة ذهنية مبهمة، أو ذاتاً بلا صفات ولا أسماء، أو مجرد عنصر لابد منه لبناء نسق عقلي وكوني متماسك. بل هو جَلَّ مجده حقيقة وجوديّة كاملة ذاتاً وصفات، مستقلة وقائمة بنفسها، كما أنّه منفصل عن الوجود المخلوق والإطار المادي. ومن ثم فالله سبحانه ضرورة عقليّة وكونية.

هذا المعلم له ثلاثة مظاهر، نحددها في: الكمال، والخالقيّة، والقيوميّة.

1.الكمال: كشف القرآن الكريم بأساليب مختلفة أنّ الله تعالى يتصف بالكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته، فذلك هو مقتضى كونه إلهاً وخالقً وربّاً. نجد ذلك في قول الله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).[2] فهذه الآية تُقرّر أن الله سبحانه مختلف اختلافاً كاملاً عن مخلوقاته كافة، فلا يشبهونه في شيء مطلقاً. وقول الله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).[3] فهذه الآية تُقرّر أن الله سبحانه غني غنى مطلقاً عن جميع مخلوقاته، فلا يحتاج إليها لجلب مزيد كمال له. وقول الله سبحانه: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).[4] فهذه الآية تُقرّر أن الله سبحانه له الأسماء الحسنى، لأن له منتهى الكمال والعظمة والمجد والسؤدد. وقول الله سبحانه: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).[5] فهذه الآية تُقرّر أن الكون كله يُنزّه ويُقدّس الله تعالى عن العيوب والنقائص كافة، وهذا يقتضي الكمال. وقول الله سبحانه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ).[6] فهذه السورة تُقرّر أن الخالق سبحانه له الكمال التام، في ذاته وصفاته.

إلى غير ذلك من الآيات البيّنات التي تترجم بمختلف العبارات والإشارات حقيقة اتصاف الخالق جل مجده بالكمال المطلق والعظمة اللانهائية، فلا كامل كمالاً حقيقياً إلا الله، بل كل كمال في الوجود فهو تبارك شأنه أصله ومصدره، بل أقصى ما يمكن تصوره من الكمال، فالرب سبحانه أكمل منه، وكماله وراء ذلك، فأنّى يحيط المخلوق الفاني بالخالق الباقي! ولهذا كان واجباً على كل مسلم أن يثبت لله ما أثبته لنفسه في كتابه أو سنة نبيه، بلا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل، لأن العقل ليس من طبيعته الولوج إلى حمى الألوهية، وليس من شأنه إدراك حقائق الربوبية.

2.الخالقيّة: كشف القرآن الكريم أنّ الله تعالى هو المتفرّد بالخلق، يخلق ما يشاء من أنواع وأشكال، وأنّه خلقهم بإرادته الطليقة، ولحكمته البالغة. نجد ذلك في قول الله سبحانه:( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).[7] فهذه الآية تُقرّر شموليّة خلق الله تعالى لكل شيء في الوجود الظاهر والباطن. وقول الله سبحانه: (ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ).[8] فهذه الآية تربط أحقيّة تفرّد الله تعالى بالعبادة بكونه الخالق لكل شيء. وقول الله سبحانه: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ).[9] فهذه الآية تُقرّر أن الله سبحانه له الخلق والاختيار كما يشاء وكيف يشاء، بلا منازع. وقول الله سبحانه: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[10] فهذه الآية تُقرّر أن هذا الكون الفسيح بما فيه مُلكٌ لله وحده. وقول الله سبحانه: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).[11] فهذه الآية تُقرّر أن الله تعالى خالق كل شيء والمتصرف فيه والمدبر له كيف يشاء.

إلى غير ذلك من الآيات الواضحات التي تُقرّر بتعابير شتّى وأساليب مختلفة حقيقة اتصاف وتفرّد الله سبحانه بالخلق والإبداع لما شاء وكيف شاء. ولهذا كانت حقيقة أنّ لهذا الوجود خالقاً أعلى، حقيقة ثابتة في الفِطَر وراسخة في العقول ومتجلية في الكون، يولد بها الإنسان وتظل كذلك لا تفارقه أبداً، في كل زمان ومكان، وكيفما كان مستواه من العلم والحضارة، كذلك كان الأمر في غابر التاريخ المديد وكذلك يكون في المستقبل البعيد.

3.القيّوميّة: كشف القرآن الكريم أنّ الله تعالى لا يترك مخلوقاته المختلفة سدى، بل هو القائم على شؤونها جميعاً، صغيرها وكبيرها. نجد ذلك في قول الله سبحانه: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).[12] الآية تُقرّر أن الله تعالى عليم خبير بكل نفس، ما يظهر منها وما يظل ساكناً في أعماقها، فيعطيها ويجازيها بما تستحق. وقول الله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا)[13] الآية تُقرّر أن الله سبحانه هو الذي يمسك ذرات الوجود أن تتلاشى ويمدها بأسباب البقاء المستمر. وقول الله سبحانه: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ).[14] الآية تُقرّر أنّ الله له الوحدانية المطلقة والكمال اللانهائي، ولذلك فهو القائم على كل المخلوقات. وقول الله سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).[15] الآية تُقرّر أنّ كل المخلوقات الحية إنما رزقها وأسباب بقائها بيد الله وحده. وقول الله سبحانه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).[16] الآية فيها أنّ الله تعالى محيط بما يعمل الظالمون، وسيحاسبهم يوم القيامة.

إلى غير ذلك من الآيات البيّنات التي تؤكد بطرائق تعبيريّة مختلفة حقيقة قيوميّة الله سبحانه على الوجود كافة، بما فيه من أشياء وأشخاص وذرات ومجرات، تصريفاً وتدبيراً. والواقع أن الإنسان يدرك هذه الحقيقة بفطرته، فليس استشعاره الافتقار والحاجة إلى موجود عظيم يمنحه الأمن والسلام والطمأنينة والقوة، إلا أمارة واضحة على يقينه الفطري بأن خالق هذا الكون لا يتركه هملاً، بل هو قائم عليه دائماً. بل إن هذه الفطرة حتى في قمة تراكم الغبش والدنس عليها، ففي لحظات الضعف القاهر تجد نفسها متوجهة إليه ترجو رحمته وفضله وعونه.

في الجزء الثاني من المقال، نكمل بحول الله مع المعلم الثاني. والله أعلم


الهوامش

[1] . الذاريات/56

[2] . الشورى/11

[3] . العنكبوت/6

[4] . الأعراف/180

[5] . الإسراء/44

[6] . سورة الإخلاص

[7] . الرعد/16

[8] . الأنعام/102

[9] . القصص/68

[10] . آل عمران/189

[11] . الزمر/62

[12] . الرعد/33

[13] . فاطر/41

[14] . البقرة/255

[15] . هود/6

[16] . إبراهيم/42

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد