وجهات نظر في العزلة والغربة في العمارة
الحديث حول العزلة مفهومًا وسلوكًا وموضوعًا لا يمكن حسمه، إلا أنه من الجيد التطرق له وعرض بعض وجهات النظر التي تدور حوله، خاصة تلك التي انتقلت بتأثيرات متنوعة إلى حقل العمارة وتخطيط المنازل ودور العبادة.
من المعلوم أن بعض الزهاد أثنوا على جمال العزلة، وحثوا عليها مؤكدين أن الإنسان ينبغي أن يعزل نفسه عما يجلب له الضرر أو الفتنة، مستندين إلى حكاية أهل الكهف التي فصّل الله الحديث عنها في كتابه الكريم، وكان مما قال: }وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا{ ] الكهف: 16[.
الكهف مكانًا للعزلة
في منتصف القرن الثاني بدأت مفاهيم الزهد بالتحول إلى سلوك صوفي على شاكلة الرهبنة المسيحية، وظهر ما يسمى بالخانقاه الذي يشبه الصومعة المسيحية التي ينقطع الناس فيه للعبادة، ويرى آخرون أن التصوف جاء رد فعل على انتشار البدع، أو بسبب تغلغل المؤثرات الأجنبية. (1).
في العصر الحالي نرى الكثير من الأشخاص يثنون على غنى العزلة وضرورتها ويحرصون على ترميزها بالكهوف وكيف يمكنها أن تكون وسيط لاستعادة ما يسمى بالطاقة الروحية والإنسانية فيها، إلى جانب الابتعاد عن ضوضاء المدينة وازدحامها، ولفهم الذات والحيز من حول الإنسان والتواصل مع الواقع بشكل أعمق.
من المثير بالاهتمام رؤية الكثير من المشاريع المعمارية متعلقة بالكهوف. ومن الأمثلة على ذلك في الفيديو الآتي، حيث يقول المعماري الياباني كويشي تكادا: “نستمد الإلهام من الطبيعة، لكن بشكل قريب جدًا من المقياس البشري. تخيّل أن تكون في كهف أو حول الكثبان الرملية، أو تجري في مساحة ضيقة من السوق الشعبي. هناك شيء ما يثير مشاعرك، حيث تبدأ بالاتصال بالفضاء والمساحات من حولك، والاتصال بالمناظر الطبيعية… هذا المكان عضوي للغاية، في كل مرة تذهب إليه يثير أنواعًا مختلفة من المشاعر.”
فيديو للعرض: بناء الكهوف للتواصل مع المكان والفضاء
الانتباذ الفضائي
قد يضطر الإنسان الحديث في بعض الأحيان لإيجاد طرق لفهم الواقع بناءً على التجربة الخاصة أو النظريات الموجودة في المجتمع الأكاديمي، وهنا على سبيل المثال يبرز ميشيل فوكو باصطلاحه الشهير عن “الانتباذ الفضائي”.
يجادل فوكو بأننا لم نعد نعيش في عالم من الزمن يتحرك إلى الأمام، ولكن في شبكات من الأماكن المنفتحة على بعضها البعض، وقد وضع فوكو مفهومًا خاصًا للموقع ليقدم نوعًا مكانيًا جديدًا وهو الانتباذ الفضائي Heterotopia. يأتي مصطلح Heterotopia من الطب، حيث يشير إلى إزاحة العضو أو جزء من الجسم من وضعه الطبيعي.

Heterotopia’ by Fiona Ackerman (2011)
تشكل جميع الثقافات حالات للانتباذ الفضائي، ولكن لا توجد قاعدة عالمية معينة لتحديد هذه الأماكن، وهنا يحدد فوكو نوعين من الانتباذ الفضائي، حيث يوجد انتباذ فضائي في أشكال متنوعة ولكن يمكن تصنيفها على نطاق واسع على أنها إما انتباذ فضائي المتعلق بالانحراف Heterotopias of Deviance أو انتباذ فضائي المتعلق بالأزمة Heterotopias of Crisis.
الشكل الأول يوضح الأماكن التي يتم فيها وضع الأشخاص الذين يكون سلوكهم منحرفًا بالنسبة للوسط المحيط أو القواعد الثقافية المعروفة مثل السجون ومستشفيات الأمراض النفسية، أما الانتباذ الفضائي المتعلق بالأزمة، فهي أماكن مميزة أو مقدسة أو ممنوعة، محجوزة للأفراد الذين هم بالنسبة للمجتمع في حالة أزمة، فهي الأماكن التي يعيش فيها الأشخاص الذين يعيشون في حالة أزمة مع المجتمع فيه مثل المراهقين وكبار السن ويمكن أن تنطبق أيضاً على اللاجئين أو المعزولين في جزر سكانية معينة.

Kowloon Walled City, Tung Tau Tsuen Road, 1987. © Greg Girard
المدينة المسورة في هونغ كونغ: مثالٌ على الانتباذ الفضائي
كانت المدينة المسوّرة في هونغ كونغ توفر مكانًا يمكن أن يقيم فيه الأشخاص الذين كانوا في حالة أزمة. على وجه الخصوص، سمحت للاجئين الذين عزلتهم الصين بمكان للعيش في حالة الأزمة، ولكنهم يتعارضون أيضًا مع الأوامر الجديدة للحكومة الاستعمارية، وقد كانت هذه الأماكن هي طريقة الحياة الطبيعية للعديد من المهاجرين في ذلك الوقت، بل واعتبرت جزءًا مقبولاً من سياسة الإسكان غير الرسمية. السمة التي تتعلق بشكل خاص بالمدينة المسورة، هي وظيفية الانتباذ الفضائي Heterotopias ويمكن رؤيتها في شكلين واضحين:
أولهما أنها مساحات من الوهم التي تتعلق بجوانب الحياة المكبوتة داخل المجتمع، حيث يمكن للأطباء والحرفيين العمل دون رخص رسمية. أما الثاني فكونها مساحات للتعويض والتي تشبه مستعمرات القرن السابع عشر، وتأسست فيها الأماكن لتكون بدائية النموذج مناسبة للاحتياجات الخاصة للأفراد على النقيض من المركز الاستعماري.
كانت المدينة المسورة في الغالب مساحة من الوهم حيث كانت تنفذ فيها الإجراءات التي قمعتها الحكومة وقدمت لمطالب اعتبرت غير متوافقة مع المجتمع. أصبحت المدينة المسورة فيما بعد ملاذًا طبيعيًا لجميع أشكال الرذيلة والأفعال غير الحضارية وغير الأخلاقية.

Walled City rooftop view, 1989. © Greg Girard.
من المهم أن نعرف أثر البيئة على الإنسان وأثر الإنسان على البيئة. وهذه الديناميكية قد يكون فيها جهات صراع متناقضة ومن الجيد مناقشتها، لكن أهم شيء ألّا نصل لاستنتاج أن الإنسان والبيئة هو شيء واحد ومتصلان بشكل مطلق، كما هو موجود في بعض الفلسفات المطروحة، والتي تؤدي بالإقرار أن الكون يمر بدورات خلق وانحلال متكررة إلى الأبد. فالإنسان في النهاية يمتلك إرادة تسمح له بتغيير البيئة والظروف المحيطة ومطاوعتها لما يريد.
المتاهة لاستشعار الغربة والعزلة
كنا قد عرضنا في مقال سابق المتاهة الموجودة في المتحف اليهودي في برلين. هناك مثال آخر على المتاهة لكنه مختلف قليلاً، حيث هذه المتاهة في موقع النصب التذكاري للهولوكوست وهي متعددة المسارات، وبذلك نعني أنه لا يوجد مدخل واضح للمكان، فهناك العديد من الأماكن لدخول المشروع، كما أنه لا يوجد مخرج واضح أيضًا، وحينما يدخل الإنسان للمكان، يفقد الإحساس بشبكة الأعمدة والهيكل التنظيمي الموجود في المكان ويبدأ الشعور بالمتاهة يسيطر على تصوره. وهذا يوضح تولد شعور الغربة لدى المستخدم للمكان.
فيديو للعرض: المتاهة وربطها بالغربة في موقع النصب التذكاري للهولوكوست في برلين، ألمانيا
في الختام فإنه من الجيد معرفة آثار العزلة على الإنسان، ومن المفيد بكل تأكيد معرفة سبب شعور الإنسان بالغربة وكيف يمكنه التعويض عنه بشكل صحي ومستدام، فالعزلة ليست قدرًا مستقرًّا، أو علاجًا حتميًّا، بل قد تكون شكلًا من أشكال الأنانية والضعف في بعض الأحيان، كما أنها في الوقت ذاته قد تكون ضرورية لتضميد آثار مواجهة التناقض وغياب المعنى وانتشار العبثية في أحيان أخرى. وهذا ما يدفع كل منا لفهم ما هو مناسب لمحيطه، حتى ينفع نفسه والآخرين.
أهم المراجع:
- التصوف. د. ثائر حلاق، أ. أحمد دعدوش. مقال منشور في موسوعة السبيل. https://cutt.ly/lnQQX3I. تاريخ الزيارة: 07/06/2021
- مقال بعنوان (Kowloon Walled City Heterotopia in a Space of Disappearance). https://cutt.ly/pnQWez0. تاريخ الزيارة: 07/06/2021
- Sudradjat, I. (2012). Foucault, the Other Spaces, and Human Behaviour. Procedia – Social and Behavioral Sciences 36. 28 – 34. Retrieved from https://cutt.ly/3nQErCp
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!