هل يمكن الفصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية عمليًّا؟
في مقالٍ سابقٍ أشرتُ إلى مآلات الإلزام التعليمي من خلال المدارس المعاصرة، أما هذا المقال فيتمحور حول نقدِ نزعة الفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
إن كل علم هو علاقة جدلية بين ذات وموضوع، فالذات لا تعرف الموضوعات، إلا من خلال فاعليتها الخاصة، ولكنها لا تتعلم معرفة ذاتها إلا بتأثيرها في الموضوعات، فالفيزياء علم الموضوع، ولكنها لا تصل إلى الموضوع إلا بواسطة البنيات المنطقية الرياضية الناتجة عن فاعليات الذات، وعلم الحياة هو علم الموضوع، ولكن الكائن الحي الذي يدرسه العالم بفضل الأدوات المستعارة جزئياً من الفيزياء الكيميائية، هو في الوقت نفسه، نقطة انطلاق للفاعلية التي تفضي إلى الذات الإنسانية، كما يدرس علم النفس وعلوم الإنسان هذه الذات الإنسانية باستخدام تقنيات العلوم السابقة.
التمايز أم التكامل؟
من أهم ما يميز تطور العلم الحديث هو عملية التمايز المتواصل التي تتم فيها، والتي ينجم عنها تكوُّن فروع علمية جديدة، ولكن هذا لا يعني أنَّ عملية توزيع وتبعثر العلوم عملية فوضوية، فثمة علاقات متبادلة وترابط داخلي يشدّ كل العلوم بعضها إلى بعض، ويدخل في عملية التمايز صفة الترتيب والانتظام، وما دامت العلوم المختلفة تبحث جوانب معينة من العالم الموضوعي والمجتمع والوعي، فإن تطور العلم يفضي أيضاً إلى التقارب والتكامل بين فروعه المختلفة، ويحوّل المعرفة العلمية بمجملها إلى كُلٍّ مترابط منظم، حيث إن عملية تمايز العلوم تقابِلُها عملية تكامُلِها ورؤية ترابطاتها الشاملة وتداخلها ووحدتها. [د نايف بلوز: مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، منشورات جامعة دمشق، ص 207].
فالتخصّص المتزايد يتنافى مع طبيعة العلوم وتفاعلها وتشابكها مع بعضها البعض، وكانت الفلسفة تشمل كل العلوم باعتبارها الوعاء الذي تصب فيه كل التساؤلات عن الكون والإنسان قبل تمايز العلوم وانفصالها عنها، لذلك فإن كل تقسيم سابق للعلوم كان ينبع من قلب الفلسفة، أي هو بشكل أو بآخر تقسيم للفلسفة باتجاهاتها الطبيعية والإنسانية لذلك فإنّ العلم بشقيه الطبيعي والإنساني ينتمي من الناحية الإبستمولوجية والمنهجية لجذر مشترك هو الفلسفة أمًّا للعلوم.
ورغم اختلاف منهج العلماء الطبيعيين عن الإنسانيين من حيث التفاصيل، فإنهم يتفقون جميعاً على أن المنهج العلمي يهدف أولاً وأخيراً إلى ربط الظواهر بقوانين أو بعلاقات سببية، حتى يمكن فهمها والانتفاع منها في التطبيق العلمي.
وعند محاولة ليّ العلوم الإنسانية لقوانين العلوم الطبيعية ومناهجها نجد أن هناك إشكاليات تتعلّق بالمعنى المنهجي لتطبيق التّجريب فيها، ومن تلك الإشكاليات قضية التّفاعل بين الذّات والموضوع، الخاصّة بهذه العلوم، وترجع إلى كون تطبيق التّجريب بالمعنى المستخدم في العلوم الطبيعيّة على العلوم الإنسانيّة، صعباً للغاية، ففي حالة علم النّفس، ليس التّجريب من حيث المبدأ أكثر تعقيداً منه في علم الحياة، لكن الفرق ناجم عن كون الباحث لا يحق له إخضاع كائنات بشريّة لأيّة تجربة، وما إن يتمحور الأمر حول ظواهر جماعيّة، كما في علم الاجتماع، والاقتصاد، واللّغات، والسّكان، حتّى يصبح التّجريب بالمعنى الدّقيق للكلمة، أي بوصفه تغييراً للظّواهر يرافقه تحويل حر للعوامل، فيكون حينها مستحيلاً، ولا يمكن إلاّ الاستعاضة عنه بالملاحظة المنظّمة الّتي تستخدم تحوّلات الواقعة، وتقوم بتحليلها رياضياً ومنطقياً.
إنّ العلوم الطبيعيّة عندما تستخدم منهج التجربة، فإنّها تبتغي عزل الظواهر الطبيعيّة صناعياً والتّحكم فيها، حتّى تتوصّل إلى تحقيق الظّروف المتماثلة مرّة بعد أخرى، وما يترتب على هذه الظّروف من نتائج معينة، وواضح أنّ هذا المنهج يعتمد على الفكرة القائلة بأنّ الأمور المتماثلة تحدث في الظّروف المتماثلة. لكن هذا المنهج يصعب تطبيقه في علم الاجتماع، وإن طُبِّق فهو عديم النّفع، لأنّه ما دامت الظروف المتماثلة لا تتحقّق إلاّ في حدود الفترة التاريخيّة الواحدة، فلن يكون لأيّة تجربة نجربها إلاّ دلالة محدودة جدّاً، كما أنّ التّجارب الاجتماعيّة الواسعة النّطاق، ليست تجارب بالمعنى الفيزيقي، بل يُقصد بها تحقيق النصر السياسي، وهي لا تجري في المعمل بمعزل عن العالم الخارجي، وليس من الممكن تكرارها في ظروف مماثلة، من حيث إنّ الظّروف تغيّرت نتيجة لإجرائها في المرّة الأولى.
منطق العلم وأهدافه
إنّ كلّ العلوم طبيعيّة كانت أم إنسانيّة، تسعى إلى التّفسير، شاءت الفلسفة الوضعيّة ذلك أم لم تشأ، والتفسير ليس هو القدرة على التنبؤ بالظّواهر وإثبات ضرورتها وحسب، بل هو على الأخص، جعلها معقولة، ومعقولة هنا ليست بالضّرورة منطقيّة، ولكنّها ليست متناقضة مع ذاتها. من هنا يحسن بنا أن نلاحظ أنّ العلوم الّتي اعتدنا وضعها في مقابل علوم الإنسان، وتسمى بالعلوم المضبوطة، وهي الّتي يقصد بها غالباً العلوم الطبيعيّة، لكن ماذا يمكن في هذه الحالة أن تعني كلمة(مضبوطة)؟
إنّ هذه الكلمة تطلق غالباً على علم الفيزياء، لأنّ هناك فيزياء رياضيّة، ولكن من المسلّم به أن كلّ علم تجريبي بما في ذلك الفيزياء ما هو إلاّ علم تقريبي، فكلمة مضبوطة تنطبق في الواقع على الرياضيات، ولكن هل الرياضيات علم طبيعي؟ إن أردنا أن نقول إنّ الرياضيات تنطبق على الطبيعة فلا بدّ عندئذ من أن نجيب أنها تناسب الإنسان أيضاً، فقولنا إنّ الرياضيات مضبوطة، يعني أنّها ملتصقة بالمنطق لا بالطّبيعة مباشرة، ولكن ما المنطق دون الإنسان؟ حتّى وإن ضرب بجذوره في ضرورات التّنظيم البيولوجي للطَّبيعة. وإذا كانت علوم الطّبيعة تفسّر الإنسان، فإنّ الإنسان بدوره يفسّر علوم الطّبيعة، لذلك نرى أنّ نظام العلوم لا يمكن ترتيبه، كما حاول عدّة مفكّرين أن يفعلوا ذلك على نحو نمطيّ، ذلك أنّ الشَّكل الّذي يميّز العلوم هو الدّائرة، أو اللَّولب الَّذي يكبر باستمرار، فالموضوعات لا تُعرف إلاّ من خلال الذَّات، والذَّات لا تستطيع التّعرف على نفسها إلاّ بالعمل على الموضوعات على نحو عقلي أو مادي. [مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، مرجع سابق]
والفصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية لا يقتصر على الوقوع في أخطاء منهجية استدلالية فقط، بل في كل مرة يقوم العالم التجريبي بعمل تجربة مستخدمًا بعض التقنيات الحاسوبية الحديثة، فهو واقعٌ في انقلاب إقراري، ولا يمكنه الخروج عن حيزه إلا إذا اعترف بالعلوم التي لا تخضع للرصد والتجريب أو ترك ممارسته لاستكشاف العلوم الرصدية التجريبية.
وهذا يؤثر بكل تأكيد في العقل البشري، ولكن كيف؟ إن العقل الذي يعتاد النظر من زاوية واحدة للمسائل التي تقابله ينتج فيه قصورًا كبيرًا في مناهجه البحثية، ويغفل عن الكثير من مواطن التماسّ بين العلوم المختلفة والتي لا تنفك عنها، ويصبح ذا جمود فكري أثناء التحرك في إصلاح إي شيء، مما ينعكس على المجتمع ونهضته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.
ما الحصانات الإسلامية للعملية التعليمية وملامح الحل؟
من ينظر إلى الفرق بين المدارس النظامية التي نشأت في عهد الدولة السلجوقية وبين المدارس الحالية _ كما ذكرنا في مقالنا السابق_ سيدرك المفارقة الكبيرة والانحراف الجذري الذي حدث نتيجة التشابكات المذكورة آنفا.
ولأجل محاولة الانطلاق نحو الحل يجب إعادة تحرير الأهداف التي يقوم عليها التعليم في الإسلام، المنطلقة من {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1]. أي يا أيها الإنسان: اقرأ وتعلم عن الكون والحياة، وافهمهما باسم ربك، منطلقا من الإيمان به ربًا يربيك، خلقك من علق، وهداك إلى تناقل العلوم، وبناء المعرفة بالقلم، وبما أعطاك من فطرة وعقل قادر على التعرف على الحقائق، لأنه من صنع إله مطلق الكمال، ليس عقلا جاء صدفة خبط عشواء، بل عقل مهيَّأٌ من الخالق الأكرم، الذي يريد للإنسان أن يتعلم ما لم يعلم.
اقرأ لتنتفع بعلمك وتنفع الناس، ولتستدل بعلمك على عظمة الله فتشكره، وتحقق ما خلقت من أجله من العبودية له بمفهومها الشامل، فتسعد في الدنيا والآخرة. رؤية كونية تجعل الإنسان منسجمًا روحًا ونفسًا، عاطفة وعقلًا، فتنخرط قواه كلها في تحقيق الهدف الأسمى. فهي تنطلق من توحيد الله عز وجل لتخرج نفسًا موحدة لخالقها، مُوحّدة في نظرتها، لا نفسًا مفككة مشتتة، وهذا ما نجحت المدرسة النظامية السلجوقية في تحقيقه عن طريق الحصانات المُضمنة فيها لتحقيق الغاية العظمى وهو يقوم على خمسة أسس رئيسية:
أولا: أن التعليم تعبدي، سواء كان في علوم الشريعة أو علوم الطبيعة، وبالتالي فثقافة {اقرأ باسم ربك} [العلق:1] كانت مبثوثة في المجتمع، على مستوى الأسرة من المؤدبين في الكتاتيب، في المساجد، في حِلق العلم، وكذا في المدارس التي نشأت في العصور الإسلامية.
وهذا يقودنا إلى العامل الثاني للحصانة ألا وهو: المسؤولية المشتركة، إذ إن الكل يشارك في تحمل مسئولية التعليم، ولا يلقون بها على كاهل الدولة، كذلك تحمل المسئولية يعطي مناعة من انتشار الفساد، حتى لو أصيبت مؤسسة الحكم بالفساد، فمكونات المجتمع توطّدت على قوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) [صحيح البخاري]، فسيسعى كل راعٍ تقيٍّ إلى تخفيف الأضرار على من يرعاهم إذا فسد رأس الهرم، وسيبقى الأبوان والمربون يمارسون التعليم عبودية لله، وهذا يحافظ على سلامة جذور المجتمع المسلم، حتى وإن أصاب الفساد الفروع، فستنبت الجذور فروعا سليمة من جديد.
ثالثا: صحة المرجعية وثباتها: (اقرأ باسم ربك) [العلق: 1]، فالوحي هو المرجعية، فالقيم والمعايير الضابطة للعلم ثابتة لا تتغير. انطلاقا من الوحي، توفر الدولة البيئة اللازمة لبث العلم الصحيح، تصدّر المؤهلين، تحمي الناس من المتلاعبين والعابثين الناشرين للجهل والضلال، لأن حفظ العقل من ضرورات الشريعة الخمس، فالدولة تضع الأطر، ثم بعد ذلك هناك مرونة منضبطة بالوحي.
في المقابل، فإن الناس يحاسبون الحاكم بناء على الوحي أيضا، فهناك مرجعية الوحي التي لا يستطيع الحاكم المساس بها ولا تغييرها، بل هو مُكلَّف بالقيام على مصالح الناس بحسب هذه المرجعية، وإذا خالفها وأمر بتعليم ما يخالف مصلحة الناس، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، بل يؤخذ على يده، ويحمل على الالتزام بالوحي؛ فسلطته ليست مطلقة، بل يحكمها قول الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59].
رابعا: مراكز الثقل المالي في الوضع الإسلامي الصحيح موجودة في المجتمع، ليست منهوبة، ولا يتحكّم بها من قبل زمرة حاكمة، ولا من طبقة رأسمالية؛ فالإسلام يحارب تركُّز المال في يد أي فئة، (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) [الحشر: 7]. كون مراكز الثقل المالي في الناس، هذا الاستقلال المالي يعني: أن طلاب العلم وأهل العلم بأشكاله أحرار فيما يقولون، مُكتفون، لا يهددون بأرزاقهم، ولا ينتظرون راتبا يعطى من فئة متحكمة ستمنع عنهم المال إذا امتنعوا عن الانصياع لأهوائها.
في هذه الأجواء الحرة، كان للأوقاف الإسلامية دور كبير عظيم في التعلم: فيخصص المسلم لذي يمتلك المال جزءا من ماله، ويبقيه أوقافا جارية بعد وفاته، من أجل تفريغ أشخاص لطلب العلم، وهذا كان من عوامل محافظة المحاضن الشعبية على قوّتها، ودورها في تخريج العلماء في شتى المجالات، حتى في فترات انحدار مؤسسة الحكم.
الأزهر -مثلا- قبل أن يفسده الاستعمار البريطاني، كان ينفق عليه من الأوقاف، لقد كان توزُّع المال بين الناس مانعًا من أن يسخر التعلم لمصلحة فئة من أصحاب رأس المال، بل يكون المعنى التعبدي التعلم هو الحاضر وبقوة، هدفه أن تحقق الأمة العبودية لله بمعناها الشامل -كما بينا.
وهذا يأخذنا إلى الميزة الخامسة في منظومة التعليم الإسلامية: وهي أنّ مخرجات التعليم لا تقاس بتأهيل أفراد لخدمة أصحاب رأس المال، والشركات العالمية في عبودية مقنّعة، بل يُقاس بتحقيق أهداف الوحي وهي صلاح دنيا الناس وآخرتهم، وصلاح نفوسهم، وأرواحهم، وأخلاقهم، فيكون للفقيه قيمته، وللأم المربية قيمتها، مع أن هؤلاء لا قيمة لهم في المنظومة الرأسمالية، لأنهم لا يخدمون المنظومة المادية.
كل هذا يهيئ الأجواء لكون السلطان بأيدي المسلمين، ووجود أهل الحل والعقد من المسلمين، ولظهور أجيال من الأحرار الذين تلقوا تعليمهم من مراكز الثقل المجتمعية التربوية، وأمانهم الاقتصادي مرتبط بمراكز الثقل المجتمعية الاقتصادية، فمقياسهم في قبول أو رفض ما يطلب منهم: هل هو حق أم باطل فحسب، لم يعلموا العبودية لغير الله، ولا يهددون في أرزاقهم.
على سبيل الختام
إذًا، إن التعليم باسم الله، هو تعبد يمارسه الجميع، ويتحملون مسئوليته، والوحي فيه إشارات وتأكيدات للحقائق الكبرى وطرق الوصول لها، وفيه تحريك لاستكشاف العلوم، وهو مرجعية ثابتة لا تتغير، تعليم تنسجم فيه مكونات الإنسان، والهدف منه: تحقيق الاستخلاف والعبودية لله بمعناها الشامل، مرتبط باقتصاد عادل لا تحتكره فئة، وفيه عوامل مناعة من أن ينحرف، ومن أن يملى فيه على الأجيال أهواء من البشر، وهنا أوصي بالاطلاع على هذين المقطعين لمعرفة بعض طرائق الحل وسبله.
مصادر للاستزادة
١- العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
http://www.alhiwartoday.net/node/11897
٢- تعليم أم تعليب للدكتور إياد قنيبي.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!