1

هل يفرض الإسلام مفهوما خاصًّا عن الوطن؟

كرّس الإسلام في منظومته الفكرية والثقافية والعقدية مفهوم تعلّق الإنسان بوطنه وبأرضه، واحتسب من قُتِل دون أرضه وعرضه وماله شهيدًا، فكان الحفاظ على الأرض والدفاع عنها جزءًا من مهامّ المسلم، إلا أن السؤال الذي قد يتبادر للأذهان: هل حدّد الإسلام في نصوصه أبعاد الوطن الجغرافية والسياسية؟ وهل يتنافى المفهوم المعاصر للدولة الوطنية مع مقاصد الشريعة الإسلاميّة؟

الدولة الوطنيّة، حكاية النشأة

دارُ البلديّةِ في مونسترَ حيثَ جرى توقيعُ معاهدةِ سلامِ وستفالْيا والتي كانت البداية للمفهوم الحديث للدولة الوطنية وقدمت مفهوم الوطن بشكله الحديث

دارُ البلديّةِ في مونسترَ حيثَ جرى توقيعُ معاهدةِ سلامِ وستفالْيا. (المصدر ويكيبيديا)

    بعد أن حصدت الحروب الطائفية المسيحية مئات ألوف الأرواح في أوروبا، خاصة حرب الثلاثين عاما التي دامت من العام 1618 إلى العام 1648 ميلادي، انخفض عدد سكان ألمانيا من الذكور بمقدار 30 ٪ في المتوسط وانخفض ذكور أراضي براندنبورغ إلى قرابة النصف، بينما انخفض الذكور في الأراضي التشيكية بحوالي الثلث.

اضطرت تلك الإمبراطوريات المسيحية المتناحرة إلى توقيع اتفاقية مونستر التي كانت جزءًا من صُلح ويستفاليا سنة 1648م، حيث أقرت الاتفاقية بالسيادة التامة للدولة على أراضيها وعلى شعبها وعلى التابعين لها في الخارج مثل الدبلوماسيين وأفراد الجيش، بالإضافة إلى تحمل الدولة مسؤولية كل ما ينجم عن مواطنيها والتابعين لها كالقيام بأعمال عدوانية ضد دولة أخرى.

كان أهمّ في الاتفاقية النصّ على الاعتراف بالحدود الثابتة للدول أو ما يعرف بالحدود السياسية للدولة، ومن هنا كانت اتفاقية ويستفاليا البداية للمفهوم الحديث للدولة الوطنية، المتمثلة بالأرض ذات الحدود الجغرافية المحددة والثابتة والمعترف بها، والتي تدير شؤون المواطنين المنتمين إليها حكومة أو سلطة تنفيذية، تضمن لهم حقوقهم ومشاركتهم في الشأن العام مقابل واجبات عليهم، وهذا النموذج من الحكم أو الدولة بات يعرَف باسم الدولة “الويستفالية”.

إقحام الدولة الويستفاليّة في العالم الإسلامي

    قبل انهيار الدولة العثمانية، كان شكل الدول في العالم الإسلامي يستند إلى المفهوم التقليديّ للإمارات والسلطنات والإمبراطوريات التاريخيّة، فالحكم حكم أسرة، والأرض تتوسّع بتمدد الجيش، وتنحسر رقعة الدولة مع تمدّد الدول والإمبراطوريات الأخرى، وهكذا كان شكل الحكم في العالم عمومًا منذ بزوغ عهود الممالك والإمبراطوريات، وكانت على هذا النسق ممالك المسلمين كالدولة الأموية، أو العباسية التي تعرض العالم الإسلامي في عهدها للانقسام فصار من الطبيعي أن تكون هناك دولتان أو ثلاث أو أكثر من ذلك تحكم مساحات شاسعة من بلاد المسلمين وتسعى في الوقت ذاته للتوسع من خلال الفتوحات في أراضي غير المسلمين بالإضافة إلى سعي كل واحدة منها إلى ضم الدول الإسلامية الأخرى لتتوحد تحت لوائها، مثل دولة المماليك والدولة العثمانية في ظل الصراع الذي كان قائمًا بينهما.

لم يكن هذا العهد من التاريخ ينظر للوطن بمفهوم الأرض الجغرافية في الدرجة الأولى، وإنما كان مفهوم الوطن مرتبطًا بالعقيدة وسعة الأمة الإسلامية، فلم تكن القومية أو اللغة الفيصل في تعريف الوطن، ولم تكن الدول الإسلامية تعتبر حدودها الجغرافية حدودًا سياسية ثابتة.

في عصر الاحتلال الأوروبي لبلاد المسلمين وغيرهم من القوميات والأراضي، أقحمت القوى المحتلّة الكبرى مفهوم الدولة “الويستفالية” في الأراضي التي احتلّتها من الدولة العثمانية وغيرها، فتقاسمت فرنسا وبريطانيا منطقة المشرق العربي ضمن حدود معيّنة نصت عليها اتفاقية “سايكس-بيكو” سنة 1916. أما المغرب العربي، فقد عينت فرنسا الحدود الفاصلة بين الدول المغاربية من خلال اتفاقيات ومعاهدات متفرقة، كمعاهدة “لالة مغنية” سنة 1845 والتي رسمت بموجبها الحدود بين الجزائر والمغرب من طرف فرنسا؛ وبذلك تحولت الجغرافيّة العربيّة إلى دول مفككة ومتنازعة فيما بينها بسبب صراعات سياسية وحدودية وطائفية تركتها القوى المستعمرة، وارتبط مفهوم الوطن في أذهان المسلمين أولاً بالحدود المرسومة والخطوط المتكسرة التي رسمها المستعمر لتفكيك بلاد المسلمين وتجزئتها.

هل يرفض الاجتهاد تثبيت حدود الدولة؟

    لم يأتِ في الإسلام مفهوم محدّد للدولة أو الوطن كما أن القرآن والسنة النبوية لم تتعرض للحديث عن الحدود السياسيّة الثابتة، وبالتالي فإن الاجتهاد الفقهي المنضبط بمقاصد الشرع هو الطريق لفهم ذلك والحكم فيه.

لقد نص الله في القرآن على وحدة الأمة، واستدل العلماء على ذلك بالعديد من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. ونهى عن الفرقة والتنازع بين الأفراد والطوائف لما في ذلك من فشل وتفكيك للأمة، مثل قوله تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. كما أنّ هجرة النبي الكريم وصحابته رضوان الله عليهم وتركهم لبيوتهم وأرزاقهم وقومهم والأرض التي ولدوا فيها، واتخاذهم للمدينة المنورة موطنًا جديدًا لهم، يشير إلى أن الوطن في الإسلام مرتبط بالعقيدة، وأن مفهوم الأمة في الإسلام يرتبط بالاجتماع على الإسلام وقيمه لا الأعراق القومية، فـ “لو كان الولاء للأرض لما ترك النبي مكة، ولو كان الولاء للقبيلة لما قاتل قريشًا، ولو كان للعائلة لما تبرأ من أبي لهب، ولكنها العقيدة أغلى من التراب والدم”[1].

د. علي القره داغي

    إلا أن الاجتهاد لم يتوقف في مسألة تحرّك الحدود أو تثبيتها، وهنا يشير د. علي القره داغي إلى أنه “ليس هنالك إشكالية في المفهوم المعاصر للوطن ما دام الإسلام لم يحدد هذه المسألة، بشرط ألّا يتعارض هذا المفهوم مع المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية، وألّا ننسى أن الجامعة الأساسية هي جامعة العقيدة”[2].

من هنا فإن الحدود الحالية برأيه مقبولة في إطار الاجتهاد الفقهي بحيث لا تترتب عنها مفاسد أكبر، ويمكن تعريفها بأنها تشابه من حيث التنظيم ما كان معمولا به في نظام الولايات سابقًا، بشرط أن يكون هناك تسهيلات أكبر بين الحكومات للتواصل والتراحم.

يمكن إضافة بعض الأفكار في هذا الإطار من خلال المقارنة بين الدول العربية والاتحاد الأوروبي للإجابة عن سؤال، هل يمكن أن تحقق الدول العربيّة مفهوم الوطن الإسلامي؟

حرية التنقل ووحدة الشعوب

    يسمح لمواطني الاتحاد الأوروبي التنقل بين دول الا تحاد من دون الحاجة إلى تأشيرة أو جواز سفر، وقد تطلب بطاقة الهوية الشخصية في بعض الحالات لدواع أمنية، أما في الدول العربية فإن جواز السفر يعد “فريضة” حتى لو كان الزائر من دولة عربية أخرى، بل إن أغلب هذه الدول تلزم زائريها من الدول العربية الأخرى بالحصول على التأشيرة (فيزا) قبل دخول أراضيها.

الكثير من المناطق الحدودية بين الدول العربية تفرقت أسرها وعائلاتها وقبائلها جراء الحدود التي رسمها المستعمر، فباتت تلك المجتمعات العائلية مشتتة بين دولتين أو أكثر، يرون بعضهم البعض على بعد عشرات الأمتار، لكنهم لا يستطيعون الالتقاء منذ عقود، إذ بينهم خنادق وأسلاك شائكة وعسكر مستنفر.

الحقوق والواجبات

    داخل أي دولة من دول الاتحاد الاوروبي تطبق القوانين بمساواة بين مواطني تلك الدولة ومواطني دول الاتحاد الأخرى، عدا بعض الحلات الخاصة كعدم السماح للأجانب بالمشاركة في الانتخابات. ولكن قد يستطيع المواطن الإسباني –مثلا- التقديم على وظيفة في ألمانيا دون تفضيل الألمان عليه أو إعطائهم الأولوية قبله، فتطبق عليه نفس معايير الانتقاء مثله مثل الألمان، ولا تشترط عليه أية وثائق استثنائية كتأشيرة العمل، عدا بعض الشروط الضرورية مثل إتقان اللغة الألمانية. فضلا عن التسهيلات في مجالات أخرى مثل تنقل السلع بين دول الاتحاد دون أية رسومات جمركية، ومعاملة المستثمر الأجنبي من دول الاتحاد مثل أي مستثمر محلي، مما جعل الاتحاد الأوروبي أشبه بالوطن الواحد. لكن الدول العربية غالبا ما تطبق على المواطنين من الدول العربية الأخرى شروطًا توصف بـ”التعجيزية”.

الدفاع المشترك:

    على الرغم من أن معظم دول الاتحاد الأوروبي أعضاء في حلف الناتو، والذي مبدأه الأساسي هو الدفاع المشترك ضد أي عدوان يمس إحدى الدول الأعضاء، إلا أن دول الاتحاد الأوروبي تسعى منذ 60 عاما إلى تأسيس حلف عسكري أوروبي متكامل ومستقل من ناحية القدرة التسليحية والإستراتيجية، وفي سنة 2017 وقعت 23 دولة من دول الاتحاد الأوروبي على وثيقة “مبادرة التعاون المنظم الدائم”, وقد تم الانطلاق في تجسيد هذه المبادرة من خلال 34 مشروعا عسكريا مشتركا، مع تخصيص ميزانية 5.5 مليارات يورو سنويا، ما يبرهن مدى حرص دول الاتحاد الأوربي على قيام هذا المشروع على أرض الواقع. أما عن الدول العربية، فقد أبرمت معاهدة “الدفاع العربي المشترك” سنة 1950 تحت مظلة “جامعة الدول العربية” وما زال الواقع أمرًا آخر، وما فلسطين وهضبة الجولان السورية المحتلة إلا مثال عن ذلك، علمًا أن الشرع الإسلامي يوجب على الأمة الدفاع عن أي بلد مسلمٍ يقع تحت العدوان.

عَلَم حلف الناتو

   من خلال هذه المقارنة، يتبين جليا أن الوطن العربي بعيد كل البعد عما تقتضيه الشريعة الإسلامية، كما أن الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي لتوسيع مدى التحرك والاندماج بين مواطنيه ومصالحهم وخططهم المستقبلية يبين لنا مدى إمكانية تطويع مفهوم الدولة الحديثة “الويستفالية” بما يتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية في ظل الظروف الدولية الراهنة.


الهوامش: 

[1]القائل هو: أدهم شرقاوي

[2] في مقابلة له مع قناة الجزيرة، في برنامج ساعة صباح: https://mubasher.aljazeera.net/news/miscellaneous/2015/8/28/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85  

المصادر:

-مقابلة مع الشيخ الدكتور “علي القرة داغي” : مفهوم الوطن في الإسلام, 28 مايو2015, الجزيرة مباشر

-تقرير:  23 بلدا عضوا في الإتحاد الأوروبي يوقعون وثيقة للتعاون الدفاعي, 14 نوفمبر 2017, فرانس 24

-تقرير: الاتحاد الأوروبي يرفد مبادرة التعاون الدفاعي بمشاريع جديدة, 2019/05/08, أورونيوز