هل يتطور الدين؟

image_print

لم تكن نظرية التطور مجرد نظرية للتفسير البيولوجي، بل سرعان ما حُمِّلت بحمولات رشحتها لتفسير كثير من مظاهر الحياة غير البيولوجية، ولذلك شاع هذا السؤال عند العديد من دارسي تاريخ الأديان الغربيين، أيهما هو الأصل الشرك أم التوحيد؟

وتكاد تتفق إجاباتهم على أن الشرك هو الأصل وأن التوحيد شكل متطور في حياة البشر، فالأديان مرت بأطوار من التطور من أشكال سحرية وأرواحية بدائية إلى مفاضلة بين الآلهة إلى إلهين ثم انتهى الأمر بالتوحيد، فما هو رأي علماء المسلمين بهذا التفسير؟ وما هو التطور الذي يمكن أن يصيب الدين؟ وما هو الأصل في الأديان كما يرون أهو التوحيد أم الشرك؟

يميز علماء المسلمين بين مفهومين من مفاهيم التطور:

المفهوم الأول: هو ما يكون منشأ الدين فيه من الله عبر وحي إلى نبي، وفي هذا الحال لا دور للإنسان إلا التلقي والتفاعل مع هذه الأوامر الصادرة عن الوحي، لكن مسيرة أتباع هذا الدين قد تنتكس، فيضيفون إلى الدين ما ليس منه، حتى يصل إلى صورة مختلفة عن الصورة الأولى التي جاء بها الرسول، وهو ما يسميه علماء المسلمين بـ (التحريف)، حيث يؤكد ابن حزم إيمان المسلمين بنزول التوراة على موسى والزبور على داود والإنجيل على عيسى، والصحف على إبراهيم وموسى، وأن الله أنزل كتباً لم يسمها لنا على أنبياء لم يسمَّوا لنا، لكن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا وأبقى الله تعالى بعضه حجة عليهم، وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم[1].

ويتحدث محمد كمال جعفر عن مصدرية الدين فيقول: “هناك نظريتان في المصدر، الأولى: تثبت بدء الأديان بشكل واضح تنسبها إلى الله، معتمدة على قصة الخلق والهدف الأسمى منه، وهي من آثار الوحي، لذلك كانت فكرة التوحيد هي الدرس الأول الذي تلقته البشرية، غير أن الإنسان في تاريخه الطويل جرفه تيار الحياة واستهواه الانحراف، وما تتابع الديانات السماوية إلا محاولات متكررة لتصحيح التشويه الذي لحق بهذه الفطرة النقية والتعاليم السليمة”[2].

ويعتبر محمد خليفة حسن أن اليهودية مثال لهذا النوع من التطور، حيث كان للعوامل التاريخية دور كبير في صياغة هذه الديانة[3]، ويتحدث عن الكثير من العقائد والشرائع التي اقحمت فيها مع الزمن.

فالتطور بهذا المعنى كان بتحريف نصوص الأديان الأصلية من خلال الحذف والإضافة والتبديل، وربما كان ذلك راجعاً إلى سدنة الدين نفسه كما يرى محمد كمال جعفر، وهم الذين يقومون على حراسة الدين، فقد زين لكثير منهم أن يضيفوا أو يحذفوا ما رأوه يحقق لهم غاية أو ينجز لهم مأرباً، أو يرفع عنهم طائلة وملاما[4]

والواقع أن الإسلام نبَّه لهذا التطور الذي أصاب الديانات الأخرى، وحذَّر منه، وسماه “البدعة” وحاربها أشد محاربة، ففي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب، قالوا يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا فكان مما قاله: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة”[5].

ويلخص القرضاوي موقف الإسلام من التطور فيقول: إن مجال الابتداع والابتكار ليس هو الدين، فالدين توقيف من الله يجب أن يبقى مصوناً منزهاً عن عبث العابثين وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، أما مجال الابتداع الحقيقي، فهو الدنيا وشؤونها، وما أوسعها وما أكثر ما تحتاج إليه من طاقات الافتنان والابتكار، فتاريخ المسلمين وأدواتهم وتجاربهم متطورة، بينما عقائدهم وشرائعهم ونصوصهم المقدسة هي هي لم يطلها أي تطور أو تغيير، فقد اكتمل الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وثُبِّت هذا الاكتمال في القرآن الكريم: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا} [المائدة:3][6].

وبناء على ما مر تكون بداية الدين راقية، ونهايته -بعد التطور- متخلفة، وهو عكس ما عليه أصحاب نظرية التطور الذين يرون أن اللاحق أرقى من السابق، وفي هذا يقول محمد كمال جعفر: “إن الأنماط الدينية المنحطة والتي تتضمن الخرافات والخزعبلات وظواهر السحر وما إلى ذلك، إن هي إلا انتكاسات في تاريخ البشرية، ولا تمثل بحال نقطة البدء”[7].

إلا أن الملاحظ المتأني لواقع الأديان السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، يجد أن هنالك تقدماً تدريجياً في شرائعها، فهل يعتبر هذا من التطور؟، أي هل كانت المسيحية متطورة أكثر من اليهودية، وهل يعتبر الإسلام صورتها النهائية في التطور؟ يجيب على ذلك الشيخ دراز بقوله: “إن الناظر في الأديان السماوية الثلاث يلاحظ تطوراً فعلياً وتقدماً تدريجياً محققاً، في حقيقتها التنزيلية من حيث طبيعة دعوتها ومناهج تشريعها… لكن هذا ليس تطوراً من الخطأ إلى الصواب، كما تريد أن تصوره المذاهب التطورية للأديان، وإنما هو تدرج تصاعدي في مراتب الوفاء والشمول والكمال[8]

المفهوم الثاني: هو التطور الذي يعني به أصحابه أن بداية الدين نشأت من داخل الإنسان لدواع طبيعية أو روحية او سحرية وما شابه ذلك، وأنها تدرجت في تطورها من الدون إلى العلو، بمعنى أن نهاية الدين خير من بدايته وأفضل، ويلخص محمد كمال جعفر نظرة هذا الفريق بقوله «يرى هذا الفريق من الباحثين في الدين نوعاً من الابتكار والاختراع الإنساني ناله التطور المتدرج عبر العصور، حيث قد بدأ في نظرهم ساذجاً متدنياً في أحط صورة يمكن أن ترصدها عين الباحث، ثم أخذ في النمو والتطور والتعقد والسمو حتى وصل إلى مرتبة ما يسمى بالديانات الكبرى أو الدين العظيم، وهؤلاء لا يؤمنون بما يسمى الوحي، ولا يعتقدون بوجود مصدر للدين خارج الإنسان»[9].

ويرى محمد خليفة حسن أن نظرية التطور التي ترى أن التعدد هو أصل التدين، وأن الفكر المرتبط بالألوهية فكر متأخر بتاريخ البشرية، أنها النظرية خاطئة من وجهة النظر الإسلامية التي تبدأ بالتوحيد، وتعتبر الوثنية والتعدد والشرك خروجاً على خط التوحيد[10]

ويؤكد الشهرستاني أن الدين الإلهي هو الموجود الأول، ويذكر أن الله تعالى خص آدم بالأسماء؛ وخص نوحاً بمعاني تلك الأسماء؛ وخص إبراهيم بالجمع بينهما، ثم خص موسى بالتنزيل؛ وخص عيسى بالتأويل؛ وخص المصطفى -صلوات الله عليهم أجمعين- بالجمع بينهما: على ملة أبيكم إبراهيم[11]، وفي هذا تأكيد أن الدين من الله.

ويرفض محمد كمال جعفر اعتبار الإنسان البدائي منحط التفكير كما تصوره هذه النظرية، فيقول: “إن سذاجة الفكر أو بدائية الحضارة ليست دليلاً على انحطاط الدين أو بدائيته، فقد نجد حضارة مادية وفكرية ممتازة مع عقيدة دينية ساذجة تعبد الأصنام والآلهة التي تتمتع بصفات البشر”[12].

ويمثِّل بتبدل الحضارات بين الشعوب كدليل على خطأ هذه النظرية، بقوله: “هنالك أمم كانت لها حضارات باهرة رائدة في القديم، فهل تعتبر حالتها الراهنة نقطة البدء لها، وهنالك أمم لم يكن لها شأن يذكر في الحضارة لكنها اليوم تتربع على عرش الحضارة والنفوذ، فأين أمة اليونان من حضارتها القديمة التي غزت الدينا”[13].

على أن محمد كمال جعفر يرى إمكانية “الانتفاع بآراء دارسي الأديان في معرفة أصول الديانات الوثنية على ألاَّ تعتبر هذه الأصول ممثلة للبدء الديني للبشرية”[14].

ولقد تناول دراز نظريات نشوء الدين المستخدمة في الغرب في البحث الرابع من كتابه الدين، ورد عليها، ومن الملاحظات التي يذكرها: “إن الرشد والضلال في الفكرة الدينية ليستا ظاهرتين متعاقبتين، بل هما متعاصرتان، موزعتان في كل أمة وجيل، تبعاً لاختلاف الأفراد في درجات استقامة الحدس العقلي، ونبل الحس الباطني، فلا يخلو جيل من نفوس صافية تدرك الحقيقة نقية من شوائب الخرافة، وأخرى دون ذلك”[15] .

والحقيقة أن الفرق بين الإنسان المتحضر والإنسان القديم، يكمن في شيئين: أولهما تطور أساليب الحياة المادية، فمن الكهوف والمغارات إلى البيوت البسيطة إلى العمارات الشاهقة، وتطور في الأدوات كوسائل المواصلات مثلاً، وثانيهما: إن تفاوت المعارف التي حصل عليها ابن القرن العشرين وآخر عاش قبل الميلاد حيث إن زيادة كمية المعلومات نتيجة للتجارب البشرية، وأما أصل العقل فلا فرق بينهما، ولو حصل أن شقيقين أحدهما وصل إلى درجة مرموقة من التعلم والاحتكاك بالمجتمع، والآخر ظل ضمن بيئته ولم يلتحق بالمدرسة، لمثل الأول منهما “شباب الجنس البشري”، والآخر “صباه” أو “طفولته” –بحسب أصحاب نظرية التطور- والحقيقة أن القوة الكامنة في داخلهما متساوية[16].

وخلاصة الأمر أن علماء المسلمين لا يقبلون القول بتطور الأديان كما يقرره دعاة التطور، وإنما التطور الذي يرونه هو “التحريف” الذي ينبغي التخلص منه والعودة إلى أصل الدين كما جاء به صاحب الرسالة في ذلك الدين.


الهوامش

[1] ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل. تحقيق: محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة. بيروت: دار الجيل. الجزء الأول، ص314

[2] محمد كمال جعفر، الإنسان والأديان دراسة مقارنة. الدوحة: دار الثقافة، الطبعة الأولى 1985م. ص87

[3] محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان-دراسة وصفية مقارنة. دار الثقافة العربية: 2002 ص178

[4] محمد كمال جعفر، الإنسان والأديان. مصدر سابق، ص43

[5] أحمد بن حنبل، المسند. تحقيق شعيب الأرناؤوط، القاهرة: مؤسسة قرطبة، الجزء 4، ص 126، رقم الحديث: 17184، تعليق المحقق: حديث صحيح ورجاله ثقات.

[6] يوسف القرضاوي، البدعة في الدين. القاهرة: مكتبة وهبة، الطبعة الأولى 2013م، ص9

[7] محمد كمال جعفر، في الدين المقارن. دار الكتب الجامعية 1970، ص 43

[8] محمد عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، الكويت دار القلم ص 112

[9] محمد كمال جعفر، الإنسان والأديان. مصدر سابق، ص163

[10] محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان-دراسة وصفية مقارنة. مصدر سابق، ص13

[11] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل. صححه وعلق عليه: أحمد فهمي محمد. بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1992م. الجزء الأول، ص35

[12] محمد كمال جعفر، الإنسان والأديان. مصدر سابق، ص89

[13] المصدر السابق نفسه، ص167

[14] المصدر السابق نفسه، ص92

[15] محمد عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، مرجع سابق، ص112

[16] محمد شامة، الرسالات السماوية بين التطور والتجديد، مقال منشور ضمن مجلة جامعة قطر، العدد التاسع، سنة 1991م ص307

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد