هل هناك مؤسسة دينية في الإسلام؟
في كل الأديان المحرفة والموضوعة التي ظهرت في التاريخ الإنساني كان هناك دائمًا مؤسسة دينية تراتبية، يقوم على رأسها رجال دين يصوغون المبادئ والعقائد وطرق العبادة وتفاصيل الحياة اليومية، ويسيطرون على العقول والقلوب والجيوب بطرق مختلفة، وبالتحالف مع السلطة التي تتبادل معهم الاعتراف بما يضمن الاشتراك في المنفعة بالتسلط على العباد.
ولعل أوضح الأمثلة على هذه المؤسسات وأكثرها استحضارًا في كتابات المثقفين هو كنيسة الفاتيكان الكاثوليكية، حيث سيطر البابا طوال القرون الوسطى على ممالك وإمارات أوروبا، ثم امتد سلطانه إلى المستعمرات حول العالم، ولم يكن يُسمح لأي كنيسة بأن تنشأ ولا لأي كاهن بأن يُرسم سوى باعتراف البابا وتحت سلطته.
وبالرغم من بروز محاولات عدة للتمرد عليه (حركات الهرطقة) إلا أنها كانت تنتهي دائمًا تحت أقدام العسكر وفي محاكم التفتيش بمساعدة السلطات السياسية المتحالفة معه. أما في اليهودية فتتخذ هذه المؤسسة شكلاً أكثر تطرفًا وانغلاقًا؛ لكنها أقل شهرة لعدم تحالفها مع سلطة سياسية منذ السبي البابلي وحتى تأسيس الكيان الصهيوني، ولحرصها الشديد على البقاء في الظل.
ونجد هذه المؤسسات الدينية بتحالفاتها السياسية حاضرة أيضًا طوال تاريخ الحضارات الشرقية، كالهندوسية والبوذية والطاوية والكونفوشية والشنتوية والزرادشتية والمزدكية، وقد اطلعت في الأيام الماضية على بعض ملامح المؤسسة الدينية للبوذية وتزاوجها مع السلطة حتى اليوم في دول آسيوية، ووقفت عن قرب على تفاصيل احتكار الكهنة للمعرفة الدينية؛ تمامًا كاحتكارهم لإدارة المعابد، فالتعرف إلى الدين بحد ذاته لا يتم إلا على يد الكهنوت؛ مما يجعلهم بحق “مؤسسة” متكاملة.
لكن وجود مؤسسة دينية بهذا المعنى مستحيل في الإسلام، لأن نصوص هذا الدين -التي تكفل الله بحفظها من التحريف- لا تجيز وجود هذه المؤسسة، وبالرغم من محاولات الكثير من المذاهب ابتكار هذه المؤسسة بكل ما تستلزمه من مراتب وشعائر ترسيم ومبايعة وتوريث فإنها لم تنجح إلا بين أتباعها فقط، ولم تستطع احتكار الإسلام نفسه لأن النصوص المحفوظة والمعلنة والتي لا يستطيع أحد احتكارها تفضح هذه المحاولات.
فالنصوص المحفوظة تمنع وجود السلطة الدينية والكهنوت، ولا تجيز الاستبداد أصلاً على يد السلطة السياسية نفسها، فضلاً عن الدينية. لذا لا يُعترف في الإسلام سوى بشرعية العلم الذي يُكتسب بالطلب المتاح لكل صاحب همة، وليس بالوراثة ولا بالمال ولا بالبيعة. وهو علم يتصل بالسند المضبوط بقواعد الرواية عن مصدره الوحيد وهو النبي المرسل، ويُجتهد فيه بالرأي المنضبط أيضًا بقواعد مستنبطة من فقه القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها النبي المعصوم بالالتزام بالسنة.
وعندما حاول الخليفة المنصور –وكان هو السلطان الوحيد لكل مسلمي الأرض حينئذ- أن يجبر القضاة والولاة على الالتزام بكتاب واحد هو موطأ مالك، رفض المؤلف نفسه رحمه الله وقال: “إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها”. وحتى عندما اكتمل جمع الأحاديث في قرون لاحقة لم يكن ممكنًا حمل الناس على مذهب واحد، حتى لو وُجد من العلماء من يرغب بالتسلط، لأن هناك علماء آخرين لديهم من العلم ما لديه ولا يستطيع أي سلطان أن يطمس ذلك العلم ويحرّفه ليجبر الناس على الالتزام بما يقوله عالم ما يتربع على رأس مؤسسة دينية.
لذا لم يتسيد أي عالم مهما علا شأنه على الأمة كلها، فكان هناك إمام السنة ابن حنبل وحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية وفيلسوف الإسلام ابن رشد، ولكن لم يتمكن أنصار أي منهم أن يؤسسوا لهم مؤسسة دينية، مع أن كل واحد من هؤلاء وجد من يناصره من السلاطين، ولكنهم جميعًا تعرضوا أيضًا للاضطهاد السياسي في فترات أخرى، كما أن المسلمين لم يجتمعوا على سلطان واحد إلا في سنوات قليلة من عصر الخلافة الراشدة والأموية وبداية العباسية، بينما كان البابا يسيطر على كل ملوك أوروبا الذين يتنابزون بينهم سياسيًّا ويعودون في النهاية لاكتساب الشرعية من مؤسسة دينية واحدة.
إذن فمصطلح المؤسسة الدينية الذي يطغى على كتابات الأوربيين المناهضين لاضطهاد الكنيسة السابق يجب أن يبقى ضمن سياقه، ومن المؤسف أن يستعيره العلمانيون العرب لنقد عيوب المسلمين أو للتعرض للإسلام نفسه، فأقصى ما يمكن نقده -عندما يوجد الضمير الحي- هو سلطة فقهاء السلطان الذين يشكلون مرجعيات لا مؤسسات، والذين يحاولون حمل الناس على آرائهم بقوة السلطان والإعلام وليس باحتكارهم للحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها كما هو الحال في الأديان الأخرى التي طمس أحبارها ورهبانها الوحي وأخفوه تمامًا.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!