هل تؤثر اللوبيّات العالمية على التخصصات العلمية؟ الصيدلة نموذجًا!
لا بُدّ أن الصيدلة -على اختلاف تطوّراتها- ملازمةٌ لوجود الإنسان على البسيطة، فإن الإنسان مذ كان هائمًا يعيش في مجتمعات منعزلة يواجه الوحوش ويبحث عن الغذاء بين النبات والحيوان، فإنه -في امتداد حياته- لاحظ خواص ملفتة في بعض ما كان يصادفه أو يستعمله وأدرك تأثيرها فيه، ولا بدّ أنه كان يعلِّم ابنه، وهكذا توارثت الأجيال مشاهدات السلف وملاحظاتهم في خواصّ النباتات والأشياء دون إحاطة تفصيليّة بما تحويه من عناصر فعالة، فأرجعت ما فيها من قوة وتأثير إلى الأسرار الرهيبة، فأحلُّوها من نفوسهم محل التقديس والإجلال، واحتفظوا بسرّيَّتها لهم حفظًا لِمَا لهم من هيبة وما يجنون من فوائد.
وظلّ علم الصيدلة يتطوّر عبر الأزمنة المختلفة ممتطيًا النَفَس المميِّز لكل عصر، وتأثر بالكثير من النظريات الفلسفية والمعتقدات في عصور مختلفة، مثلما حدث أثناء الحضارة اليونانية الإغريقية التي تميزت في علم الصيدلة وغيره من العلوم كفروع بحثية فلسفية باعتبار الفلسفة أمًا للعلوم ورمت بسهمها في كل مجال.
تأثير نزعة الإنسانوية في الصيدلة
بحلول القرن الخامس عشر الميلادي وابتداء عصر النهضة الأوروبي بدأ إحياء الفكر اليوناني القديم بما يحوي من فلسفات وعلوم، ومع صعود حركة الإصلاح الديني البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر لتقليص سلطة الكنيسة وحاكميتها؛ انزاحت المركزية الإلهية لتحلّ مكانها مركزيَّة الإنسان، وبالرغم من أن الإنسانويين لم يقدموا إنجازات على أيٍّ من الأصعدة بحسب رونالد سترومبرج الذي قال: “الإنسانيون لم يسهموا بتاتًا في إنجاز أي شيء في مجال العلم والتكنولوجيا، فلقد كان الكتاب والمفكّرون الإنسانيون مدمنين على دراسة المؤلفات القديمة، ونهجوا نهج أرسطو وجاليليو في كل حقل، ثم إنّ العلم الحديث يبدأ قرابة نهاية القرن السادس عشر، حيث قاد مواكبه نخب من العلماء يمثلون نهجًا من الفكر مختلفًا عن نهج الإنسانيين” (تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد سترومبرغ) إلا انّ النزعة الإنسانوية أثّرت في محرِّك الاكتشافات المرتبطة بالعلوم التي تم إحياؤها في ذات الحقبة، فنجد أن صناعة الدواء لم تتوقف على تقليل الأمراض والآلام وشفاء المرضى، بل أخذت منحنى بوصلة السير فيه تتمركز حول تقديس الإنسان الذي يجب أن تتمركز كل الأشياء حوله، وأنه الغاية في ذاته، بل الغاية مستمدة منه.

مارتن لوثر
كيف ابتلعت الرأسماليّة سوق الدواء؟
مع ظهور الرأسمالية بحلول القرن السادس عشر بدأ البساط الذي يدعم قدسية الإنسان يُسحَب ليُوضَع تحت أقدام تسليع الإنسان، وتفاقم هذا المعنى بحلول القرن التاسع عشر الذي ارتفعت فيه صوت المادية وجنحت وتحوّل الإنسان على إثرها إلى مجرد سلعة تتصارع الجهات الاستهلاكية على استغلالها، وتجلّى التأثير المادي الرأسمالي في الصيدلة والدواء، ففي سوق الدواء نجد أن التنافس على رفع معدل المبيعات هو الأصل الذي على أساسه تتحرك سياسات المصانع، ولا يُنظَر للمريض إلا أنه مستهلِكٌ يجب جذبه للمنتَج، وتتسابق الشركات في تصاميم علب الدواء، واستخدام فنون التسويق والإعلانات لتحقيق الأرباح المرجوّة، ضاربين بآلام المريض وحالته المادية عرض الحائط، ويتم صناعة صنفين من بعض المكمّلات الغذائية بحيث يكون أحدها خاصًّا بالأنثى والآخر بالذكر، وفي الواقع فإن أغلب هذه المنتجات لا يوجد بينها اختلافٌ جوهريٌّ يستحق التمييز بين الذكر والأنثى، إلا أنّ الهدف الحقيقي من ذلك تحقيقُ مبيعاتٍ أعلى، وكذلك مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة التي يصل فيها الاستغلال إلى ذروته، حيث يتم الترويج لها باستغلال الميل الفطري للأنثى للزينة، فيصنعون مئات المنتجات والمسميات الجديدة ويتم إقناع الشريحة المستهدفة -الأنثى- بأنها لن تحقّق النموذج الأنثوي الذي يُعرَض عليها ليل نهار في الإعلام إلا إذا استخدمت هذه المُنتَجات، بالرغم من أن أغلب هذه المنتجات يمكن الاستغناء عنها طبيًا، والقليل النافع فعلًا يمكن الاستعاضة عنه بمُنتَجات أقل بكثير في الفئة السعرية وتعطي نفس النتائج التي تحققها المنتجات الباهظة عدا استثناءات قليلة.
هل قرار ضخ أدوية جديدة في سوق الدواء يتأثر بلوبيات عالمية؟
عند الاتجاه لرؤية تأثير الرأسمالية والمادِّيَّة على حركة البحث العلمي الدوائي نجد أن هناك عدة شروط وُضِعت معيارًا لقبول أبحاث جديدة وتحويلها من نتائج بحثية إلى دواء على أرض الواقع، ومن جملة هذه الشروط:
١- يجب أن يكون العائد المادي من تلك الأبحاث كافيًا لتغطية مصاريفها واحتياجات المستقبل البحثي، لذا يجب التركيز على الأمراض المزمنة المنتشرة مثل ضغط الدم والسكر وارتفاع نسبة الكوليسترول والاكتئاب والانفلونزا وغيرهم، والتي تضمن ذلك العائد المادي لاتساع شريحة المستخدمين.
٢- الابتعاد عن بحث الأمراض النادرة إلا إذا كانت منتشرة في الدول الغربية لقدرتها الاقتصادية على تأمين العائد المادي، وكذلك عدم الاهتمام بالأمراض التي تنتشر في الدول الفقيرة مثل الملاريا لعدم مقدرة تلك المناطق على تغطية العائد المادي إلا في حال وجود سياح في تلك المناطق تابعين لدول تضمن سياستها الحفاظ على رعاياها وصحة مواطنيها فتؤمن العائد المادي لتلك الأدوية.
٣- يمكن السماح بإنتاج أدوية جديدة لبعض الأمراض النادرة التي تُحوِّل المريض من حالة حادة خطرة (acute) إلى حالة مزمنة تستقر بالاستمرار في تناول الدواء (chronic) ممّا يضمن بقاء المريض فترة أطول في السوق لتحقيق المزيد من المبيعات من خلاله.
٤- يمكن أن تنتج بعض الشركات أدوية تعمل بميكانيكية جديدة ليكون لها السبق في صناعته وتجني أرباح هائلة من ورائه.
٥- يمكن إنتاج أدوية لأمراض نادرة وأسباب حدوثها متعددة ومتشابكة مثل multiple sclerosis وتكون هذه الأدوية باهظة الثمن فتتحقق الأرباح المادية من ورائها.
من المؤكّد أنه بعد معرفة ودراسة هذه المعايير ستتحطم تماثيل الإنسانويّة الملائكيّة البريئة التي ترسَم أمام عيوننا لنظن أن الدافع الوحيد لصناعة الدواء هو تخفيف الألم عن الناس، وأنّ الواقع الدوائي الحالي بعيد كل البعد عن الأخلاقيّة الإسلامية في توصيف الإنسان وحياته في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:٣٢].

تشارلز داروين
السطوة الداروينية والنزعة العلموية
ما دمنا قد تطرقنا إلى المعايير التي أطّرت البحث العلمي الدوائي من حيث قبول الدواء وتحويله إلى منتج فعلي في السوق أو رفضه، فإنه يجب علينا ذكر المرحلة التي تسبق ذلك من مضمون البحوث نفسها، فلا يخفى على مطلعٍ أنّ نظرية التطور الداروينيّة مدعومة بقوة من اللوبِيّات العالميّة، ويوجد حالة من الاضطهاد والإرهاب لأي باحث يتطرّق لأي إشارة تقدح في صحة (النظرية) أو تُظهِر أي دليل يبطلها، ممّا يقلّص مساحة البحث العلمي في المساحات التي لا تتقاطع مع تلك النظرية حتى لا يُعَّرِّض الباحث نفسه للإقصاء أو لتضييع مجهوده وطمس ذكره وتاريخه العلمي كما حصل عدة مرات.
لا تكاد تجد ورقة بحثية أو مناهج دراسية غير متأثرة بنزعة العلمويّة التي تحصر العلم في العلوم الرصدية التجريبية، فتقطع على العقل البشري إبداعه في ربط العلوم المختلفة مع بعضها البعض واكتشاف مواطن التماسّ بينها، بل وابتكار فروع بحثية جديدة نتيجة قدح العلوم ببعضها، مما يؤدي إلى تطور السلّم البحثي ووصوله إلى نقاط بحث قوية ومبتكرة، وكذلك طمست هذه النزعة الشق الروحاني من الإنسان، فأصبحت الأبحاث العلمية الدوائيّة تستغرق البحث وتحصره في الشق المادي للإنسان مهملين تمامًا الشق النفسي الروحاني الذي يؤدّي دورًا مركزيًا في صحّة الإنسان، مما يفضي إلى تطويل الكثير من الطرق البحثية لأجل الوصول إلى نتائج علاجية لا تنتمي في حقيقتها لعالم المادة ولا تخضع للتجارب المعملية.
ختامًا
بعد هذه النظرة العابرة للواقع الصيدلاني الفكري ندرك أن الإصلاح لا ينحصر في إصلاح نُظُم التعليم الجامعي وسوق العمل ومصانع الأدوية -مع أهمية هذه الإصلاحات-، بل في مناهضة تلك اللوبيات التي تسحق الإنسان وتضعه في غير موضعه بالتقديس تارة وبالتسليع تارة أخرى، تلك اللوبيات التي تتصادم بشكل مباشر مع غايات الحياة الكبرى التي يتحقق من خلالها العبودية لله عز وجل، وتدشين منظومات منطلقة من نظرة الإسلام لحياة الإنسان المنبثقة من قوله تعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: ٣٢] ليتحرر الإنسان بشكل فعلي من وطأة تلك اللوبيات، ويجب أن نعي أن الإصلاح الفردي في هذه الإشكاليات لن يكون مُجديًا في ظل هذا الواقع إلا إذا تمدّد لينبثق عنه إصلاح مؤسسي، فيجب السعي الحثيث لتحقيق تلك الفرضيات على أرض الواقع لإنقاذ ما تبقى من الإنسان.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!