هل الفن وسيلة للإصلاح؟

image_print

من مزايا المنهج الإسلامي شّموليّته الواضحة في كلّ شيء، ونقصد بالشمولية هنا وجود ضوابط وأطرٍ عامّة ومقاصد أساسيّة للإسلام تتنزّل الحوادث المتجددة تحتها والبحث عن اجتهادات فيها ضمن تلك الضوابط، حيث إن الشريعة حدّدت لنا المبادئ التّي يستطيع أن يلتزم بها الإنسان المُسلم في مُختلف مجالات الحياة من سياسة واقتصاد واجتماع، ويمتدّ ذلك أيضًا إلى الفن بمُختلف أنواعه، وما ابتعدت البشريّة عن هذه الضّوابط في أيّ مجالٍ إلاّ وأتبع ذلك انحراف وفساد وانتكاسة عن الفطرة الإنسانيّة.

يتبادر إلى الأذهان أنّ الإسلام عدو للفنّ وأنّه لا يُمكن النّبوغ فيه مع المُحافظة على القِيَم والمبادئ الإسلاميّة، فكيف يُمكن –أصلاً- توظيفه في التّغيير والإصلاح؟!

يحتج البعض في رَفضه للفنّ بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْ والْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، وتعليقًا على هذه الآية نرى الإمام ابن حزم يقول في مواضع متعددة بأن الكفر متأتٍّ عن إرادة الإضلال عن سبيل الله واتخاذ ذلك هزؤًا، بل لو أن امرؤًا اشترى مصحفًا بقصد الإضلال عن سبيل الله لكان كافرًا” [المحلّى بالآثار، ابن حزم، ج7- 567] ومن ثمّ يمكن القول إنه لا علاقة لهذه الآية بتحريم الفن البنّاء السّليم والنّقي.

محمد الغزالي

محمد الغزالي

يرى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “أن الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح! فهنالك أغان آثمة، تلقى في ليال مظلمة وإن كثرت فيها الأضواء، لا تسمع فيها إلاّ صراخ الغرائز أو فحيح الرّغبات الحرام، وهناك أغان سليمة الأداء، شريفة المعنى، قد تكون عاطفية وقد تكون دينيّة وقد تكون عسكرية تتجاوب معها النّفوس، وتمضي مع ألحانها إلى أهداف عالية” [السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي، ص 109] “لقد أشاعت المدينة الحديثة الراديو والتلفزيون وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهي على سواء، ومعروف أنّ هذه الأجهزة أدوات غير مسؤولة عمّا يصدر عنها، وإنّ المسؤولية تقع على المؤلفين والمغنين والمخرجين، ففي استطاعتهم أن يقدّموا النّافع ويحجبوا الضّار” [المصدر السابق، 125].

إنّ الفن وسيلة يستخدمها الإنسان ليُعبّر عن تصوّراته في الحياة، ولينقُل ما يؤمن به من أفكار ومبادئ للمُتلقّي، فإن صلح هذا الإنسان وأبدع في فنّه فسيُنتج لنا صورة فنيّة سليمة المعالم نبيلة الأهداف تُنير الفكر الإنساني، وإن كان هذا الإنسان مُتّبعًا لأهوائه فاسد العقيدة، فلن يُنتج لنا إلاّ فنًّا مُشوّهًا لا خير فيه، بل لن يزيد المُشاهد إلاّ انحرافًا وضلالاً. فالمُشكل هُنا في الإنسان وفي كيفيّة توظيف الفن الذّي أصبح جزءًا من مُجتمعاتنا وثقافتنا المعاصرة.

الفن في الغرب

يعكس الفن في الغرب تصوّرات الأفكار والأفراد في واقع الحياة المعاشة في ظل طغيان المادة وفساد الفطرة، وأوّل ما يلفت نظرنا في الفن الغربى أنّه مشغول بالآلهة وبصراعها مع الإنسان الذّي بمقدوره الانتصار عليها والاستقلال بذاته.

وفي كلّ مرّة تكون هذه الآلهة أو القدر هي مصدر الشرّ والاستبداد، وفي المُقابل يكون الإنسان هو المُتعرّض للظلم وصاحب الحقّ، وبناء على ذلك وجب عليه تحدّي الآلهة المزعومة، حتّى يستطيع التحكّم في مصيره وصناعة تاريخه بنفسه دون الخضوع لأيّ قوّة خارجيّة. فعلى سبيل المثال الأفلام الحديثة التي يكون فيها الأبطال هم أشخاص من ذوي القدرات غير الطبيعيّة فيتمّ تأليههم في مواجهة قوى الشرّ الظالمة أو في بعض الأحيان يتطور الأمر بينهم وبين الإنسان العادي إلى صراع لإثبات قدرة انتصار الإنسان على هذه الآلهة وانتزاع السّلطة منها.

ومن مظاهر الفن الغربي أيضًا تمييع الدّين وتشويهه وتقديمه للعامّة بصورة باطلة ومنحرفة، حيث يتمّ عرض قصص الأنبياء مثلا كما حدث في فيلم نبي الله نوح وموسى بطريقة مُحرّفة فيها تجسيد للذات الإلهيّة، ففي ذلك افتراء على حقيقتها، كما أن فيها تجسيد للأنبياء ونزع للعصمة التّي منحها الله لهم، ولا ينتهي الأمر هنا بل يتمّ غالبًا عن طريق الفن ربط التطرّف والتخلّف بالدّين، خاصة بالإسلام، كما يتمّ الاستهزاء به في المسرحيّات من أجل المُتعة والتّسلية.

أمّا على المستوى الاجتماعي فقد أصبح الفن تهديدًا للأمن والاستقرار داخل المجتمع، حيث يتمّ تبرير أعمال العنف والقتل لشخصيّة عاشت ظلمًا اجتماعيّة واضطرابات نفسيّة وجعلها ضحيّة يتعاطف معها المُتلقّي، فتُصبح له قابليّة للّجوء للعنف الجسدي واللّفظي كلّما وقعت له مظلمة من باب التمرّد على النّظام القائم، وهذا ما حصل عندما تمّ عرض فيلم الجوكر الذّي انتقِد بشدّة بسبب العنف المفرط فيه إلى جانب التّبرير لإجرام هذه الشّخصيّة، وخلال عرضه في دور السّينما الأمريكيّة تمّ نشر وحدات أمنيّة إضافية فيها خوفًا من تداعيات عرض هذا الفيلم.

الجوكر أحد أشكال الفن

لم يترك الفن في الغرب العلاقات بين الرّجل والمرأة على شكلها الفطري، فلا يكاد يخلو عمل فنّي من عرض مفاتن المرأة من باب الإغراء والمُتعة وتقديس الجسد، كما بات عرض العلاقات الجنسيّة المُحرّمة وكأنه جزءٌ من الدلالة على الحبّ، حيث لا بدّ من تلبية الغرائز كلّما سنحت الفرصة لذلك بدون تحرّج أو قيود أخلاقيّة، ومن شدّة الانحراف الفنّي أصبح يُروّج اليوم لزنا المحارم، والشّذوذ، بل وصل الأمر بأن تقوم نتفليكس بالدفاع عن إدراج فكرة اشتهاء الأطفال والدعوة للمثلية وعرض أفلام من بطولة أطفال مراهقات بما لها من إيحاءات جنسيّة مبالغ فيها!

إنّ مثل هذا الفن، الذّى يتم إخراجه بإتقان وجودة عالية تأسر المُتلقّي، وذلك لن يُنتج إلاّ إنسانًا كارهًا للدّين، جاحدًا لربّه مُنغمسًا في شهواته مُتّبعًا لأهوائه بدون حدود، ونحن لا نُنكر وجود روائع إنسانيّة عميقة وعالية فيها مشاعر راقية في الفن الغربي، إلا أن قول ذلك يجب ألّا يحجب عن أبصارنا المفاسد التي ذكرناها وما يترتّب عليها من انحرافات.

الفن في مُجتمعاتنا

ربما يقال إن بداية الفن في مُجتمعاتنا كانت تحترم التّقاليد اليومية والأخلاق، وعندما دخلنا في طور الحداثة أصبح أرباب الفن مولعين بتقليد الغرب في كلّ شيء يُناقض قيم الإسلام، لقد بدأ الفن ينسلخ رويدًا رويدًا عن منهجه في إظهار مشكلات المجتمع إلى تحريف فكره، وأصبح من الضروري فيه أن تظهر المرأة بطريقة جذّابة ومُغرية، وأصبحت بعض الانتاجات الفنيّة تعرض العلاقات المُحرّمة من دون حرج باسم الإبداع والحريّة وذلك بهدف تحصيل أكبر نسبةٍ ممكنة من المُشاهدات.

أصبحت لحظات الضّعف والانحراف أمام الغرائز والنّزوات تُصوّر على أنّها بطولة فانقلبت المفاهيم عندنا، لقد تحوّلت الخيانات الزّوجيّة واتّخاذ العشيقات حبًّا وتضحية، وتحوّل التعرّي واللّباس الفاضح وغير اللائق تحرّرًا ومُوضة يتسابق إليها شبابنا اقتداءً بالمشاهير من الفنّانين والفنانات، وتحوّل الكلام الفاحش وعقوق الوالدين وشرب الخمر والتميّع رُجولة وفخرًا، وكلّ ذلك يُقام في الأعمال الفنيّة عندنا باسم الواقع وتشخيص حالة مُجتمعاتنا!

كما أصبح الفن اليوم طريقًا لتشويه قُدواتنا الإسلاميّة وتزييف التّاريخ ووصفهم بالتطرّف والإرهاب والقدح المسيء حتّى تنفر العامّة منهم بدون الاطّلاع على سيرتهم وما قدّموه لأمّتنا الإسلاميّة، ونذكر على سبيل المثال الهجمة الشرسة في احدى المُسلسلات على شيخ الاسلام بن تيميّة وجعله سببًا لاتّباع شبابنا لمنهج التّكفير وإباحة دماء الأبرياء، ولنضف إلى ذلك ما يتمّ ترويجه من أباطيل في أعمال فنيّة حديثة باستغلال ما تقوم به  بعض التنظيمات المتطرفة لإلصاق تُهمة القتل والعنف بالاسلام دون توضيح الحقيقة للمُتلقّي ودون تبيين انحراف هذه التّنظيمات عن الحقّ.

لن ينتهي دور الفن هنا بل سيزجّ في السياسة عن طريق إنتاج مُسلسلات ذات جودة عالية هدفها تزييف الحقائق وتلميع صورة الأنظمة الظالمة والمستبدّة، بهدف تبرئتهم من كلّ إجرام قاموا به داخل أوطانهم وخارجها، بل أصبح الفن اليوم يُوظّف من أجل تبرير جريمة التّطبيع مع الكيان الصّهيوني وإقامة الحفلات الغنائيّة إرضاءً لقرارات السّلطة الحاكمة واستجابة لطلبها!

وقد انعكس كلّ ذلك سلبًا على مُجتمعاتنا وانتشر بيننا العنف والفساد الأخلاقي والجمود والوهن أكثر من ذي قبل. ولنا أن نتساءل الآن إذا كانت هذه صورة الفن عندنا، فما البديل الذّي يُقدّمه الإسلام لنا؟

الفن في الإسلام

إنّ الالتزم بمنهج الله في الفن لن يجعله عبارة عن مواعظ وخطب وإرشادات دينيّة متسلسلة، ولن يتحدّث العمل الفني عن العقيدة والفقه فقط، ولن يكون مُنفصلاً عن واقع الحياة عن طريق تقديم صورة مثاليّة للإنسان غير قابلة للتّطبيق، بل سيجعله يتناول كلّ جوانب الحياة ومشاكلها بكلّ حرّية من زاوية التصور الإسلامي.

قد يتحدّث الفن الإسلامي عن الكون فيصوّر لنا جماله وارتباطه بالخالق ويصفه لنا على أنّه خليقة ذات روح تُسبّح لله وتخضع له وتشهد على من عاش فيه وكلّ مخلوق موجود فيه إلاّ وله حياة وروح كما قال الله لنا في كتابه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]

وقد يتحدّث الفن عن الإنسان فيراه خليفة الله في الأرض وعبدًا له يستمدّ حياته ووجوده من الله وحده وأنّ له دورًا فاعلاً في الحياة، وأن هذا الكون مُسخّر له ليُصلح فيه ويُحارب الظلم والشرّ، ومن ثمّ يكشف عن حقيقة الإنسان الذي له منافذ ضعف يستغلّها عدوّه الأوّل الشيطان ليُغويه، فتكون هنا مُجاهدة النّفس والشيطان من أجل اتّباع منهج الله والثبات عليه وتربية النّفس على ذلك.

بكل تأكيد فإنه من المهم للفنّ مُعالجة العلاقة بين الجنسين بإعطائها طابعها الإنساني النّظيف الطاهر بعيدًا عن الرذيلة والشّهوات، وأن يظهر أن العلاقة الطاهرة مهمة لبناء مُجتمع مُتوازن ونقيّ وتغيير واقعه والنّهوض به.

وقد يتحدّث الفن عن رسول الله عليه صلى الله عليه وسلّم فيُخبرنا عن حياته وأخلاقه وعن علاقته بربّه وعلاقته بأصحابه وبأهله وأزواجه وعن غزواته وكيف نصره الله فيها، وعن كفاحه من أجل نُصرة الحقّ ودحض الباطل، ليكون خير قدوة لنا في مُختلف المجالات، ولنتعلّم منه كيف نُدير حياتنا ونحياها.

قد يتحدّث الفن عن المُستويات العليا للجمال التّي تشمل كلّ مجلات الحياة كجمال الأخوّة الاسلاميّة ومدى حاجتنا لها اليوم، وجمال الحبّ الذّي يشمل الحبّ الإلهي والإنساني وجمال الأخلاق، وكيف تحيى الأمم بها، وكذلك جمال الصّبر على محن الحياة والعزم على تجاوزها مع التوكّل الله الذي بيده كلّ شيء، وجمال الخير الذي يجب أن يكون ديدنه كلّ إنسان، وجمال الحقّ والعدل الذي تقام بهما الدّول النّاجحة، وجمال الحريّة والكرامة التّي تطمح إليها الشّعوب والأمم المقهورة والمظلومة، وجمال العلوم التّي تنهض بها الأمم وتُنير بها طريقها وتُحقّق بها استقلالها، وجمال النّضال والبذل والتّضحية بالمال والنّفس من أجل الإصلاح والتّغيير والعودة لمنهج الله ومُحاربة المُنكر والجمود والجهل، وجمال الجهاد الذي تكسر به الأمّة قيود الاستعمار والمذلّة والاعتداء على حُرماتها.

وللفنّ أيضًا أن يُجسّد لنا الواقع ومشاكله الكبرى بدون إفراط أو تفريط، وفق الضوابط الإسلاميّة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وتسليط الضوء على الانحرافات النفسيّة والخُلقيّة التّي يعيشها الفرد منّا مع تقديم الحلول لها في شكل فنّي إبداعي وفق الهدي الإسلامي.

وخلال هذا كلّه يُصبح للفنّ الإسلامي مجال واسعٌ للتّعبير الشامل في كلّ مجالات الحياة، وإنّ مثل هذا الفن سيُساهم بلا شكّ في ترسيخ القيم والمفاهيم الإسلامية بيننا، وسيلفت كذلك نظر المُتلقّي إلى مواضع الخلل التّي تعيشها مُجتمعاتنا وكيفيّة النّهوض بها، وسيدفعه ذلك إلى العمل وعل والهمّة من أجل التّغيير.

إننا لن نصل لهذا المستوى الفنّي إلاّ في وجود فنّانين تشبّعت أنفسهم وقلوبهم التصوّر الإسلامي الصّحيح، فتراهم يتطلّعون للإصلاح، كما أن علينا دعم مواهب شبابنا المُسلم في هذا المجال، والإحسان تأطيرهم وعدم غلق باب الفن عنهم فيفرّون من دينهم ويُسخّرون طاقاتهم الابداعيّة في الفن القبيح المشوّه والمنافي للأخلاق.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد