هل التديّن شكلٌ أم مضمون؟
هذا الدرب لا يملك شيفرته إلا من أرسله الله تعالى سلسبيلاً للقلوب التائقة، فلا مقال لنا أمام هذه القامة السامقة، إلا أن أحدًا عندما يسأل سائل عن نقطة الانطلاق: هل نبدأ من الظاهر للجوهر، أم من الجوهر للظاهر؟! فلا بدّ من الوقوف للإيضاح.
فهل نقيمُ الشعائر وجرح قلبنا في اللا معنى غائر؟! أم نعزف لغة الحبّ على نبضه ونقول إنّ الإيمان من اختصاص القلب فلا حكم عليه لناظر؟!
والحقيقة تُقال: إنّه لا كمال لجوهر دون ظاهر، ولا كمال لظاهر دون جوهر، فالغيمة حين تهب غيثها للشجرة، لا يكفي أن تضرب الشجرة جذورها في الأرض، بل ينبغي لها أن تزهر وتثمر، وهذا لا يعني أنّ الأشجار لا يتساقط ورقها حين يقدم الخريف أو تتقصّف أغصانها حين تعتريها اشتداد العواصف، إلا أنّ الروح دوماً تسعى أن تكون نخلة لا يسقط ورقها متجذّرة في الأرض غير خائفة.
وفي تلك الحالة لا تسألنّ عن حال قلب شجرة، فكلّنا أشجار، إذ إنّ الشجرة لا تقيّم شجرة، فالأشجار لها من بعضها الظاهر، إلا أنّ سنة الله قد قضت في أنّ الطيور تتبع الرياض الوارفة فتغدو رؤياها رغدًا للفؤاد وأنسًا لروح السائر.
وهنا يجب أن ننوه إلى ملاحظة على هامش موضوعنا قبل أن نبدأ: حيث إنه ينبغي أن نعلم أنّ التديّن يجب أن لا يصبح ظاهرة مستغربة، بمعنى أنّه الوضع الطبيعي المطلوب من أي فرد وصله الهدى، على نطاقه الشخصي بالإصلاح ثمّ يعمّ خيره الأرجاء.
ما التديّن الشّكلي؟
هو ظاهرة يقتصر فيها صاحبها على التقيّد بالطقوس الشّكلية، مع إهمال الأساس، والاكتفاء بالعبادات الشعائريّة مع ترك المقاصد، كأن يقتصر شهر رمضان على مدّ الموائد، أو أن تقتصر الصّلاة على حركات تؤدّى دون أن يكون للآخرين من أثرها الخيِّر عائد.
هذا ينقلنا للسؤال الآتي:
ما التديّن الضمني؟
إنه التدين المأخوذ من المضمون، والمضمون هو ما يخفى عن الجميع إلا على الخالق، ويعتمد أصحاب هذا الاتجاه على أنّ الإيمان في القلب ولا علاقة له بالالتزام الظاهري أو الشّكلي، يعني بعبارة أخرى أصحاب هذا الاتجاه عكس أصحاب اتجاه التديّن الشّكلي.
ومرة أخرى ننوّه، أننا إذ نضع هذه الأسئلة على طاولة البحث والتمحيص فإن اتجاه التقييم يجب أن يكون نابعًا ابتداء منك، لا من الآخرين، فنحن نقترح الأسئلة ونكثّفها لنتكاتف فنهزم الألم ونسدّ الثغرة، لا لنكون ثقلاً على الآخر يفوق ثقل اتجاهه المائل، وإن بدأ الحلّ لكلّ شخص ابتداء من نفسه، لم يعد لنقد الآخر حاجة ولا طائل.
إن الهدف الأساسي في مقاصد الدّين يمثّل الملك في رقعة الشطرنج، وإنّ كلّ فرد منّا حسب ثقله الرّوحي – الذي لا يعلمه ولا يحكم عليه إلا الله تعالى – يمثّل حجراً في هذه الرّقعة، فهل من المعقول أن تهاجم البيادق بعضها البعض تاركين الهدف الأساسي، أم هل من المعقول أن نضع الآخر على منصّة القضاء ونحن نظنّ أنّ ساحتنا مبرّأة من الخطأ؟
قد يكون المتّهم بريء وضحيّة والقاضي هو من يتحمّل تبعات القضيّة، فلا يغرّ أحدنا مكانه، ولا يحكم على متانة بنيانه، إذ إنّ الخطـأ ممّن يعلم ليس كالخطأ ممّن لا يعلم، والخطأ يُصحّح والاتجاه يُقوَّم، طالما أنّ المراد أن نُبنى لا أن نُهدَم.
همساتٌ بين العقل والقلب
وهنا نقف وقفة بين القلب والعقل، إذ لا شكّ أنّ العاطفة في رحلتنا في هذه الحياة اتجاه لا غنى عنه، فالعاطفة هي قطرات الندى التي تبعث الحبور، ولكن إن اكتفينا بقطرات الندى دون النظر للورد فكيف يكتمل المشهد؟
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [سورة الكهف: 107] فما جاء الإيمان -وهو ما كان محلّه القلب- إلا ورافقه العمل لتكتمل الصورة التي يريدها الله تعالى من كلّ فرد منّا.
وقد عرِّف الإيمان بأنّه: قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح، يزيدُ بالطاعة وينقُص بالعِصيان، ومتى صلح القلب استقام البدن، ومتى استقام العود استقام الظلّ، ومن المعروف أنّ عمل القلب سيادي فإن تخلى عن الجارحة لم يعد لعمل الجارحة معنى، وإن لم تعمل الجوارح وتركت القلب يصدر الأوامر عبثاً لم يكن هناك أيضاً معنى لأوامره طالما أنّها لم تترجم على هيئة أعمال.
ظاهرة التديّن الضمني
أصحاب هذا الاتجاه يركّزون على حصر التديّن بالقلب ويعزفون على وتر العاطفة، فمثلاً ترى أحدهم يقول إن الإيمان في قلبي وهذا الأمر يعلمه الله تعالى وحده، فما فائدة الشعائر طالما أن قلبي بالإيمان عامر! ثم تجد أحدهم بلا صلاة ولا صوم ولا حجّ ولا صدقات، وإنما يقتصر في جهده على حسن التعامل مع الآخر، أو تجد أحدهم يقول عن سفور فلانة من الناس، والله إنّها أفضل من غيرها من المحجّبات حتى أنّنا نراها صائمة قائمة متصدّقة، بينما كثير من المحجّبات تركوا هذه الأمور، مع العلم أن ميل بعض المحجّبات عن سويّ الطريق لا يبرّر عكس المعطيات، فالخطأ يبقى خطأ وكلا المرأتان لهما من حالة الخطأ نصيبٌ وميل عن صحيح المفاهيم.
إن إحدى المآخذ التي تؤخذ على هذه الفئة الاكتفاء بالأقوال الروحانية التي يتمّ تردادها عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي وغيرهم، مع العلم أن هؤلاء الأشخاص إنما خطّوا ما يعتريهم من حبّ إلهي ووجد وشوق بعد أن كابدوا وجاهدوا ليصلوا، والمكابدة والمجاهدة تبدأ بالعمل على الجوهر والظاهر في آن واحد.
ظاهرة التديّن الشّكلي
أصحاب هذا الاتجاه يركّزون على كلّ ما ينعكس لعين الناظر من إقامة شعائر الصلاة والصيام والحج وغيرها، فإن جاء أحدهم للتعامل رأيته منسلخاً عن الشعائر التي يقوم بها، فلا صدق في التعامل، ولا أمانة في التداول، ولا حفظ للسان، ولا تطهير للجَنان، ولا ضبط للنفس، ولا رحمة للغير، وإذا غاص أحدهم في مضمونه وجد المضمون خاوياً من المعنى والروح، ووجد نبضه غائراً في الجروح.
فما الحل إذًا؟
إن الحل يكمنُ بالجمع بين الشّكل والمضمون وهذا ما نجده في الحديث الذي أورده أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: (قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ إنَّ فلانةَ فذَكَرَ من كثرةِ صلاتِها وصدقتِها وصيامِها غيرَ أنَّها تُؤْذِي جيرانَها بلسانِها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (هيَ في النارِ) قال يا رسولَ اللهِ فإنَّ فلانَةَ فذَكَرَ من قلَّةِ صيامِها وصلاتِها وأنَّها تصَّدَّقُ بالأثْوارِ من الأقِطِ ولا تُؤْذِي بلسانِها جيرانَها قال صلّى الله عليه وسلّم: “هي في الجنةِ”)[1]
ففي هذا الحديث الشريف تركيز على أهمية الظاهر والباطن فالأولى شديدة على نفسها في العبادة غير أنّ انعكاس الآثار على الآخرين كانت على عكس ما يرضي الله تعالى فكان تديّنها شكليّاً لا معنى له ولا أثر خير، أمّا الثانية فكانت متعبّدة ولكن ليس بشدّة تعبّد الأولى، ولكنّها جمعت بين العبادة وبين التعامل وكان أن ربحت البيع.
وهذا طبعًا ليس ذريعة لتقليل العبادة وإنما دعوة لتعاهد آثارها الخيّرة على الأفراد والمجتمع، فقد جاء في الأثر (أن رجلًا أثنى على رجل عند عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: أصحبته في سفر؟ فقال: لا، قال: فائتمنته على شيء؟ قال: لا، قال: ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد)[2] وفي قول سيدنا عمر رضي الله عنه للرجل دليل على أنّ بعض الناس يخلع إسلامه على عتبة المسجد، فكان أن نوّه للرجل في جوابه على ضرورة الجمع بين الشعائر والمقاصد.
لعله من الأجدى للمسلم أن يكون موقفه من هذه الظاهرة مبنيًّا على خطوات مترابطة، فـيتعاهد نفسه وعمله وقلبه في البداية ولا يربط شأنه بالحكم على الآخرين، فإن صلحت دائرة كلّ فرد صلح المجتمع بأسره، وقد قيل “لا تنظروا في ذنوب الناس كأنّكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد، فإنما الناس مُبتلى ومُعافى فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية”
إضافة إلى ذلك ينبغي عدم التشهير بالأشخاص في حال صدر منهم ما يناقض المفهوم الصحيح فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عندما ينبّه على أيّ خطأ يبدأ قوله بـ (ما بال أقوام)، فقد كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم نِعمَ المعلِّمُ والمربِّي لأمَّتِه، يحرِصُ على مشاعرِ الناسِ، ويحفظُ ماءَ وجوهِهم حتَّى وإن أخطؤُوا، وكانَ يَستخدِمُ التعرِيضَ دونَ التَّصريحِ إذا علِمَ بأمرٍ لا يَليقُ بأحدٍ من الناسِ، ثم يَنهى أو يأمرُ بالواجبِ، فيتعلَّم الجميعُ ولا يتأذَّى المسيءُ ولا يُفضحُ.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها قالت: (كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا بلَغَه عنِ الرَّجلِ الشيءُ لم يَقُلْ: ما بالُ فُلانٍ يَقولُ: كذا وكذا، ولكن يَقولُ: ما بالُ أقوامٍ يَقولونَ: كذا، وكذا.)[3]
وينبغي أن نقرن ذلك كله بأن نعاهد القلب والروح في الليل بالعبادة وقيام الليل والأذكار، ونعاهد القلب والروح بالنهار باستصحاب النيّة في كلّ عمل تقوم به الجوارح ما استطاع أحدنا إلى ذلك سبيلاً، وقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم رهباناً بالليل وفرساناً بالنّهار، فلا يقتصر الفرد على العبادة ظنّاً منه أنّ الطريق إلى الله يكمن فيها وحدها، ولا يقتصر على العمل ظنّاً منه أنّه يكفيه عن مدده من العبادة.
وليعلم أحدنا أنّ الغيث إن اجتمع مع البذر نتج رياض أخضر يأخذ بالألباب.
أذكّر نفسي وإيّاكم عفا الله عنا جميعاً.
[1] أخرج الحديث الإمام أحمد في المسند برقم (9675)، وابن حبان في صحيحه برقم (5764) والإمام الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 171).
[2] رواه الترمذي في أدب النفس، وابن قتيبة في عيون الأخبار، واستشهد به ابن تيمية، ولم أقف له على تخريج يضعفه أو يصححه.
[3] أخرجه البخاري، بصيغ عديدة، ينظر رقم: 456، 750.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!