نقض مظاهر الخرافة في العمارة

image_print

هذا المقال سيكون لطرح وإثارة أسئلة ومحاولة لتحليل ظواهر ومفاهيم معاصرة، دون وجود إجابات قاطعة بالضرورة وإنما محاولة للفهم، وذلك لئلا نطمئن لنمط واحد ثابت وحقيقة قاطعة لمفهوم العمارة خاصة في ظل عصر الحداثة السائلة المتغيرة.

الطريقة الأنسب للمضي قدما عند التكلم بموضوع شائك متشعب تكون بطرح الأفكار ووجهات النظر المختلفة، ثم النقاش ومبادلة الآراء وتفكيك المعلومات وترتيبها وتنقيتها للوصول للنقد دون الإسفاف والتسخيف والتسطيح، لتصبح الصورة أكثر وضوحا والفكرة أكثر تبلورا، ومن تلك المواضيع الجدلية هي مفهوم العمارة الإسلامية.

إننا عندما نتكلم عن العمارة الإسلامية، فإنه يخطر ببال البعض أجواء الصحراء الساحرة والأضواء الذهبية وقصر علاء الدين وعالم ألف ليلة وليلة، كما شبهها المؤرخ المعماري د. ناصر الرباط في محاضرته (إعادة تسمية العمارة الإسلامية) (1)

رسم متخيّل لقصر علاء الدين من انتاج شركة ديزني

نحن المسلمون مستمسكون بالوحي وقارئون للواقع، فهل نسمح لصورة العمارة الإسلامية أن يتم ربطها وتنميطها بالخرافة؟ كيف وصلت منتجات الحضارة الإسلامية لتلك الصورة النمطية ولماذا يتم الترويج لها، وربط الصورة الرومانسية للعمارة الإسلامية بأنها قديمة وصحراوية فيها قباب وأقواس عالية وزخارف معقدة؟ وما هو الحل للتخلّص من هذه الصورة النمطية؟

هل يكون الحل بالتخلي عن القباب والأقواس والزخارف؟

ربما قد يرى البعض أنه من الأفضل أن لا نثق بما أنتجته الحضارة، ويريد أن يفهم الاسلام من جديد ويتجرد من كل الأشكال التقليدية والشوائب التاريخية التي قد تعيق من فهمنا لجوهر الإسلام، بما أنه لا رموز في الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان؟

بالرغم من صحة أن الإسلام لا رموز مادية فيه، إلا أنه يجب التنبّه إلى أن الإسلام ليس فلسفة روحانية خالصة، وإنما هو منظومة كاملة تلقي ظلالها في جوانب الحياة الدنيا ومتطلباتها وقراراتنا فيها، والذي لا يقتصر دوره –في حالة العمارة- على الإفتاء بجواز البناء بشكل أو نمط معين وانما فهم استراتيجية البناء وفلسفته، وملاحظة إن كانت متوافقة مع الظروف المحيطة دون وجود أشكال ظلم وإجرام للبيئة/الأرض أو الناس أو الثقافة لذلك السياق.

العمارة الإسلامية في الواقع المعاصر
هل يتطلب فهمنا للواقع المعاصر التركيز على الوظيفة المادية للتصميم، وهل التركيز على الهوية قد يعيق هذا التقدّم؟ أم هل يعتبر التركيز على الهوية خطابًا عاطفيًّا؟ هل أصبح الشعور بالهوية والانتماء شيئًا ثانويًّا يضاف كلمسة أخيرة لإسكات ضمائرنا من التجرد الذي وصلنا إليه؟ هل العمارة الاسلامية مختزلة بأشكال وأنماط معينة؟ أم هل هي استراتيجية وفلسفة بناء؟ أم ربما لا يوجد شيء اسمه (عمارة اسلامية) وما هي إلا تبعية وتقليد للملل الأخرى؟

البعض ممن يريد أن يطور من التصميم العمراني ليواكب الواقع، يلجأ لتصميم حداثي متناقض لا علاقة له بالبيئة المحيطة، ثم يغطّيه بزخرفات ذات صبغة إسلامية ليعطيها طابعًا خاصًّا.

قاعة المؤتمرات والمعارض في جامعة GUtech Oman

العمارة في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
الصورة التالية توضح نموذج مجسمِ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسجد النبويّ عندما تم بناؤه.

مجسم بيت ومسجد الرسول (ص) عند بناءه

في حين إن رجعنا إلى القائمة التي تصنّف العمارة الإسلامية في الأقواس والقبب والزخارف، نرى أن بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن تصنيفه على أنه ذو طراز إسلامي، وهنا نستذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى). [أخرجه أحمد في المسند] لندرك أنه يجب إعادة فهم ما الأساس الفكري للعمارة الإسلامية.

قبل القفز للاستنتاج الفوري أنه لا يوجد طراز إسلامي بناء على تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقبل أن نتجه فورا لتقليد بناء هذا المبنى باعتباره تصميمًا مقدسًا، يجب إدراك مفهوم العمارة الاسلامية بأنها قائمة على مبادئ استراتيجية وليست مبنية على نتاج نهائي أو شكل ثابت مقدس، بل تتغير بحسب الحاجة.

إن العمارة الاسلامية مرنة على الدوام مع التأكيد على وجود عنصر الثبات حتى لا يصل التغير والمرونة الدائمة الى حد الهدم، كما أن التغير والتأقلم لا يعني بالضرورة أنه يجب علينا البدء من الصفر في كل مرة.. لقد كان تصميم منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناسبًا مع البيئة المحيطة في ذلك الوقت، ومع قيم وأسس المجتمع الذي كان فيه، ومن هنا نرى أن المهم إدراك الفرق والأبعاد المختلفة بين مفهوم المجتمع والحضارة في عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي عصرنا الحالي.

بناء على الشريعة السمحاء، فإن الأصل هو الإباحة في استخدام العناصر المعمارية المختلفة، واستنباط من العمارة السابقة ومن أنماط العمارة المعاصرة وعمارة الملل الأخرى ما يناسب عقيدة وهوية الإسلام. ويوجد مجال واسع للاجتهاد بأمور الدنيا وما يتطلبه الواقع. لكن يجب فهم متى تصبح اجتهاداتنا بدعة وجاهلية يجب التخلص منها وقطعها؟ وهل اتباع نمط معين في العمارة يعتبر تشبهًا بالملل الأخرى؟ هل يجب تمييز العمارة الإسلامية عن غيرها؟ أم نمشي على مبدأ أن الإسلام لجميع الناس، وبالتالي سيكون من التنفير والانغلاق أن نطور لغة معمارية خاصة بالحضارة الاسلامية؟ أم أنها فطرة طبيعية في الإنسان أن يبني حضارة خاصة ويترجمها في حياته؟

مفهوم الحضارة وتطور المجتمع
لغة التصميم العمراني يترجم جزء كبير من الحضارة وقيمها، ولفهم المنهج العمراني وفهم لماذا يتجه البشر لترجمة أفكارهم وقيمهم في جوانب حياتهم المختلفة، فإنه يجب فهم ماهية تطور الحضارة، إذ إن الحضارة لا تنتج من البداوة والتنقل المستمر، وإنما من الثبات والتجذر، وكما أن المرونة واجبة لكن لابد من وجود جذور لتترسخ قيم الحضارة وتتجلى بأشكال الحياة المختلفة كالطعام واللباس واللهجة واللغة والتصميم العمراني.

عرّف ابن خلدون الحضارة بأنّها “تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله”، كما عرّفها ضمن الإطار الإجتماعي والتاريخي بأنّها الوصول إلى قمّة العمران والتطوّر الثقافي والشخصي للمجتمع والدخول للرقي الاجتماعي الثابت فالحضارة بوجهة نظره هي نهاية العمران. (2)

مع أن الترف الزائد غير محمود وليس الأصل في الإسلام، إلا أن الاتجاه المعاكس من التقشف ليس من الإسلام أيضًا، بل يجب أن نصل لحالة توسط وموازنة. الحضارة هوية.

وهنا نسأل: ما هي الهوية أصلا؟ ماذا عن الحديث الشريف (عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)؟ هل يتعارض الشعور بالانتماء مع هذا المبدأ؟ وهل الحنين للماضي وللوطن يعتبر شركًا؟ هل اتباع نمط معين في بناء الحضارة يعتبر تبعيّةً من أثقال القيود التي صنعها البشر في جاهلية الزمن الحديث؟

هل التمسك بالحضارة بدعة وجاهلية؟
هل مفهوم المجتمع في وقتنا الحالي نفس مفهوم المجتمع في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هل يناسبنا أن نستلهم الأشكال وأدوات البناء البدائية غير المتطورة في عصره وأن نطبّقها مباشرة على عصرنا وما وصلنا إليه من تشعّب وتشابك وتعقيد في مفهوم الحضارة؟

أم هل من الأفضل فهم واستنباط الاستراتيجية والفلسفة من وراء التصاميم الإسلامية السابقة، وتطبيقها على الواقع المعاصر بما يناسب الاحتياجات المعاصرة، محافظين على توازن بين المفاهيم التي تتطلب الثبات مثل الهوية والأخرى التي يمكنها التغير والمرونة كالتقدم التكنولوجي.

من اليسار إلى اليمين يوضح التحول المورفولوجي (التغير في التشكل العمراني) من مستعمرة رومانية إلى مدينة إسلامية. Kostof & Tobias (1991, page 49)

يجب أن نؤكد هنا، أنه ثمة عمارة إسلامية نابعة من الحضارة الإسلامية، وهي ليست بدعة أو شركًا أو تقليدًا، فمن فطرة الإنسان أن يميل إلى الاستقرار، وإيجاد أنماط يدركها ليتحكم بها، حتى يكون مسيطرًا على الطبيعة ويسخرها بما يفيده بطريقة فعالة ومستدامة، وتكون متوافقة مع معتقداته وأفكاره كي يعيش دون توتر أو تناقض، وبانسجام بين معتقداته والأدوات المادية في حياته اليومية، ونعرف هذا بالرغم من عيشنا في عصر الحداثة السائلة، حيث يعيش الإنسان الحديث البداوة الحديثة، وبالرغم من ذلك فإننا نحاول إيجاد الأنماط والمحافظة عليها لأن هذا من فطرتنا.(3)

لخّص الفيلسوف روجيه غارودي زياراته في البلدان الإسلامية وبخاصة العربية: لا انفتاح لطريق جديد ولكن هناك محاكاة مزدوجة: تقليد الغرب أو تقليد الماضي (4).

وهنا أتساءل هل الخيارات الموجودة في عمارة الدول الاسلامية هي إما بناء قصر علاء الدين أو التجرد التام المركّز على الوظيفة؟ وهل الخيارات المتاحة هي إما الرجوع للماضي أو التقليد للغرب؟

التمسك والبناء على ما خلفه الأولون وتطويره ليس نوستالجيا أو رومانسية غير عقلانية ولا اتجاه تام للماضي وإنما فطنة وقمة العقلانية فإننا لا “نعيد اختراع العجلة” كما يقال.

وهنا نسأل، ماذا عن التمسك وتطوير ما خلفته حضارتنا الاسلامية السابقة والبناء عليها؟ هل التمسك بقيم الحضارة يمحو الإبداع ويعتبر تخلفًا ورجعية؟ أم هل هو إرجاع لقيم عصر الاستنارة والتحكم الكامل للطبيعة وبالتالي ضد عقيدة التوحيد؟ أم أنه وسطية بين هذا وذاك؟ يحافظ على الهوية ويدرك بنفس الوقت أننا كلنا من جنس آدم؟

الإبداع والتطوير مهمان، إلا أن مفهوم الابداع حين يعرّف بأنه كسر النمط، فإننا نفهم أنه لابد من وجود نمط حتى يتم كسره، وبدون وجود نمط خاص فينا لن يكون لنا حضارة راسخة، وإنما أنماط مستوردة متناقضة تنتج الفوضى، وإن محاولة الإبداع دون وجود نمط متماسك ستكون تجربة عبثية لإنتاج شيء جديد لا معنى له ولا مضمون ولا سياق، وإنما العبثية فقط.

صورة تعبيرية لمفهوم الإبداع والتميز باعتباره كسرًا للنمط

إن الابتكار والتميز شيء أساسيّ في عملية التقدم وبناء الحضارة، إلا أن الوقت الآن يعتبر حالة طوارىء يستدعي من أولوياته التعاضد والتماسك وليس الفردانية والخروج عن الإطار، ففي هذا العصر المتغير، نرى أن البشر عموما، والمسلمين خصوصا، في حالة تشتت وتشرذم لم نصل لها من قبل، ولذلك يجب علينا التمسك بما هو مشترك في حضارتنا الإسلامية وبناء ثقافة مشتركة، كي تقوى شوكتنا وتتقارب اهتماماتنا.


المراجع:

1- محاضرة د. ناصر الرباط على يوتيوب بعنوان (Re-branding Islamic Architecture?) https://www.youtube.com/watch?v=2cg3JSifqus&t=348s

2- مفهوم الحضارة عند ابن خلدون https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%B9%D9%86%D8%AF_%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86#:~:text=%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%81%20%D8%A7%D8%A8%D9%86%20%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9%20%D8%A8%D8%A3%D9%86%D9%91%D9%87%D8%A7،%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D9%88%D9%84%20%D9%84%D9%84%D8%B1%D9%82%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A8%D8%AA%20%D9%81%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9

3- محاضرة د. هبة رؤوف عزت على يوتيوب بعنوان (الحداثة السائلة) https://www.youtube.com/watch?v=ArmgfnH0qhA&t=5s

4- كتاب روجيه غارودي: “جولتي في العصر متوحداً

مصادر الصور:

https://disney.fandom.com/wiki/The_Sultan%27s_Palace

https://design-middleeast.com/modern-mashrabiya/

https://madainproject.com/masjid_al_nabawi_at_the_time_of_prophet_muhammad

https://www.researchgate.net/figure/Morphological-transformation-of-a-Roman-colony-into-a-Islamic-city-Source-Kostof_fig7_295719509

https://egkw.com/Art/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A6-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%87-%D8%B9%D9%86-132516

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد