نداء الفطرة

image_print

إن الحيرة التي تضطرم في خلدك، والشتات الذي يعيث في عقلك، والتيه الذي تتيه فيه ويتيه فيك، والدوامة النفسية التي تقتات عليك، ما هي إلا رغبتك في المعرفة والوصول ولمس الحقيقة.

“رغبتك” تلك التي تجتاحك رغماً عن إرادتك، تقيمك من مقعدك، تزعج مرقدك، تحركك وتدفعك اتجاه بوصلة المعرفة لئلا تهوي إلى الهاوية فتُسحق وتهلك وتدوسك الدنيا ثم ترميك في غياهب الغياهب، فتتيه فوق تيهك، وتختنق وتغرق في لجة الظلام، ولجّة التيه، وتعجز عن لمس خيط من خيوط النور لأنك ستكون غائب في الغياهب منسي، لأنك لن تكون شيئاً يُذكر ولا يُرى، “رغبتك” في الوصول لإيمان كلّي لا تشوبه الشوائب، ولا تزعزعه النوائب، إيمان محفوف بالتسليم واليقين! 

“رغبتك” تلك ماهي إلا فطرتك التي فطرك الله عليها، فطرة أنك مخلوقٌ ضعيف تبحث دائماً عن إله يرحم ضعفك، يرمم تآكلك، يسد فقر وخواء روحك، تعبده وتعود إليه في وهنك، وهذا دأب البشر منذ أول الخليقة “تلبية نداء الفطرة”.

معنى الفطرة
الفطرة هي الخِلقة والهيئة السليمة المستقيمة التي لا عيب فيها وهي الجبلّة التي جُبل الناس عليها، أي أن الإنسان مجبول على التوحيد والعبادة ومهيأ نفسياً، أو بمعني آخر هي الوجدان الحي والغريزة الربانية التي تسير منطق العقل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوّدانه أو يُنصرّانه أو يُمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل ترى فيها من جدعاء) [رواه البخاري ومسلم في الصحيحين].

فلا يوجد بشري بخِلقة وفطرة غير سليمة أو معوجّة، ولو تجرد الإنسان من الهوى والكبر والعناد لاتبع سبيل فطرته السليمة ففي الحديث: (إني خلقت عبادي حنفاء، وإن أتتهم الشياطين فاجتاتهم عن دينهم) [صحيح مسلم].

ولقد تناول موضوع الفطرة المفكرين والفلاسفة بكثرة، فيقول جان جاك روسو على لسان قس الجبل لتلميذه “عش طويلاً… لا تصغي إلا لنداء البراءة، تذكر أن الوقاية من الطبيعة تضر المرء أكثر من معاكستها” [نداء الفطرة، ص 24].

فلو عاكست فطرتك وكبت مركب هواك فلن تجد له شاطئ ولا مرفأ ولعمري إنك ستغرق في غيك وتتيه في التيه أكثر ويقول أيضاً “كنت في حال من الحيرة والشك تلك التي يراها ديكارت ملازمة لكل باحث عن الحقيقة، وهي حالة نادراً ما تطول لما يصاحبها من قلق وعناء نفساني فلا يمكث فيها إلا من ساءت أخلاقه وخارت نفسه..” [نداء الفطرة، ص 26].

إليك خليل الله إبراهيم عليه السلام لمّا نادته فطرته فراح يلبيها ويتفكر ويبحث عن إلهه، فطرته التي جعلته يستنكر عبادة الأحجار والكواكب وغيره مستشعراً أن له رب واحد وإله عظيم لا يأفل ولا يغيب.. وها هو قد وصل، وإليك نبينا محمّد عليه الصلاة والسلام لمّا اعتكف في غاره يتفكر تأبى نفسه السجود لصنم..  وقد وصل.

يقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون} (الروم: 30) 

يقول سيد طنطاوي في الوسيط: أي: إذا كان الأمر كما ذكرت لك _ أيها الرسول الكريم _ من بطلان الشرك فاثبت على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله تعالى وحده، وأقبل على هذا الدين الذي أوحاه الله إليه بدون التفات عنه أو ميل إلى ما سواه.

قال صاحب الكشاف: قوله: فأقم وجهك للدين حنيفاً أي فقومه وعدله غير ملتفت عنه يميناً أو شمالاً وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه وسدد إليه نظره وقوّم له وجهه مقبلاً عليه.

والمراد بالفطرة الملّة أي ملّة الإسلام والتوحيد أو المراد بها قابلية الدين الحق والتهيؤ النفسي لإدراكه…. أي اثبت أيها الرسول الكريم على هذا الدين الحق والزموا أيها الناس فطرة الله وهي ملة الحق التي فطر الناس عليها وخلقهم قابلين لها.

يقول ابن القيم رحمه الله “والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه وفطرة عملية وهي هذه الخصال، حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء، قال الراوي ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة (رواه مسلم)، فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب والثانية تطهر البدن.

فكما أنك مفطور على تلبية حاجات بدنك وعلى حب الخير وعلى فضائل الأخلاق كالصدق والبرّ والتقوى والوفاء والتعاون. فإنك مفطور على الرجوع لله تعالى وتوحيده متبتلاً إليه مصغياً للنور الذي في قلبك.

هلمّ نلبي النداء
لعمري إنك لمؤمن ومصدق لكنك كما قلنا تائه تحسب مرة أنك قد وصلت وعرفت وأخرى تساورك الشكوك فتقف متحيراً تنظر وتتفكر وتقرأ الكون بكل جوارحك تركض هنا تهرول هناك…. تتعثر، تقوم، تعرج، تلهث، تصرخ، تكاد تلمس الحقيقة وهنا.. ههنا الامتحان ولا تجزع فهذا دأب الناس والأنبياء الذين تنزلت عليهم الرسالة حتى، فإبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه ليطمئن قلبه وموسى عليه السلام كذلك.

وكل إنسان يفتر ويبتعد ثم يبتعد أكثر يذوب وينصهر في بهرجة الدنيا وخداعها يتعب ويذوي لكنه يحتاج أن يعود إلى الله تعالى فطرته تحثه أن يعود فيعود بقلب أشعث، أغبر، كدر، خجلاً من هيأته كثيراً فيحوم ويحوم كي لا يعود رغم رغبته الجامحة في العودة والتعبد، لكن أين؟ لا بد لك أن تعود وتلبي نداء فطرتك كي تسكن وتستكين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٌ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره صحيح رواه الترمذي.

فتقف آنذاك بأكدارك وأوزارك، بأسقامك وآلامك، مطأطئ الرأس، جافي النفس، رافعاً يديك خجلاً وأملاً، خجلاّ من نفسك أملاّ برحمته، فتقول وتشرح وتدعو، تتندى عيناك، تنهمر، فتغسل روحك، عمق روحك، فلا تقوم إلا منتشٍ، رافع الرأس، خفيف الحمل، مضاء البصيرة، مرتاح السريرة.. هذا والله أول الوصول للسبيل فما بالك بآخره!!

يامن يرى مدّ البعوض جناحها            في ظلمة الليل البهم الأليلِ

ويرى نياط عروقها في جسمها            والمخ في تلك العظام النحّلِ 

أغفر لعبدٍ تاب من زلاته                  ما كان منه في الزمان الأولِ

وهنا أقول يالهنائي وهناؤك إن تتبعنا النور الذي في دواخلنا ووصلنا السبيل حيث لذة الوصول ونيل المنال، الوصول للحق والحقيقة لحظة أنك تستشعرها في قرارة نفسك وكلك يقينٌ مطلق، لحظة أنك ستصل معها إلى نفسك وتجدها فتعرف أنك عبداً لربٍ عظيمٍ تشعر بحضوره في حركاتك وسكناتك وأي كرمٍ وإحسانٍ ذاك!

يقول الشيخ علي الطنطاوي: “سيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله ويفكروا دائماً في أنه معهم وأنه يراهم ويسمعهم هنالك تصير الآلام في الله لذة والجوع بالله شبعاً والمرض صحة والموت هو الحياة السرمدية الخالدة، هنالك لا يبالي الإنسان أن لا يكون معه أحد لأنه بكون مع الله” [من حديث النفس، ص149].

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد