نحو فرض نسخة مشوّهة للإسلام.. ماذا تعرف عن تقرير راند؟
تؤدّي العقائد الدينية في تاريخ الشعوب دورًا حاسمًا في ترقّيها حضاريًّا واجتماع كلمتها سياسيًّا، فمن هذا الذي كان يتوقع أن تتحد العرب ويؤسسوا إمبراطورية تمتدّ من جزر الفلبين شرقًا إلى مدن الأندلس غربًا.
إلا أن الإنسان، الكائن الناقص الذي طالما دنس كل ما هو متعالٍ وبلغ به أنه كفر بالله وعبد الأوثان، أبى إلا أن يجعل من الدين آلة هدم، ومن تعاليمه السامية قنابل فكرية تتفجر في وجه البشرية.
جاء الإسلام ليمحق الباطل ويعلي الحق، وضمّ في ثناياه تعاليم ترسي التعايش نهجًا في التعامل مع الآخر المختلف، فرسول الله يفرش رداءه لنصارى نجران، ويتعامل مع يهودي ويستدين منه، ويعودُ غلامًا يهوديًّا مريضًا، ويوصي بالإحسان للوالدين ولو على كفرهم، ويرسل الرسل إلى حكام العالم يدعوهم إلى الإسلام ويرجو مصالحتهم، إلا أنّ دوائر صنع القرار ومراكز الدراسات الغربية ما يزال كثير من المؤثر فيها مثل مركز راند، يدعو لتشويه الإسلام وفرض تشكيلاتٍ مشوّهة منه..
الإسلام والآخر.. مواقف ثلاثة
ليس يُذكَر للحبيب أنه ذَكَرَ الآخر بسوء وتجنٍّ، وهنا لعلنا نجد قائلاً يقول: وماذا عن تشريع القتال وآيات الجهاد والأحاديث في الحث عليه؟! فلنجب عنه فيما يتيسّر من القول.
إن سوء الفهم الذي وقع فيه كثر -على رأسهم المسلمون أنفسهم- أخرج طوائف تكفيرية تُحِلُّ دم المسلم قبل الكافر، ولعل الخوارج والمعتزلة أشهر الفرق الإسلامية أعلنت الحرب ضد معارضيها من الفرق الأخرى، ولنا في حرب سيدنا علي رضي الله عنه مع الخوارج وفي محنة الإمام أحمد مع المعتزلة خير المثال.
لم يميز بعض المسلمين -بسبب سوء الفهم أولا والمواقف الشخصية ثانيا- بين فقه العلاقات الإنسانية في الإسلام والدعوات المتطرفة، فاعتقدوا أن القرآن بآيات الجهاد يرفض الآخر ويطالب برأسه قربانًا للرقيّ والتقرّب لله، وليس الأمر كذلك البتة، فمن خلال تمعّننا في آيات القرآن الكريم نجد أنه قسم موقفه من الآخر إلى:
– الموقف العقائدي: يتعلق بعقيدة الإسلام التي ترفض الإشراك بالله وما يليه من فساد في العقيدة، ويبدأ القرآن الكريم بالفاتحة التي تؤثث بشكل واضح لهذه النظرة، إذ النصارى واليهود كفار، وهذا لا نقاش فيه، ولا يستوي الكافر بالمؤمن في ميزان العقدي. يقول الله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1- 3] وهنا نلحظ الخطاب الهادئ والمنطقي مع الآخر، فلا هم ملزمون بدين الإسلام ولا المسلمون ملزمون بدين الكافر، ولكلٍّ حرية الاعتقاد، مصداقًا لقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، ووفق ذلك وضع الإسلام الدعوة والشرائع.
وحتى مع الاختلاف العقدي، فإنه لا يتخذ موقف عداء مع الآخر، لأن له موقفا آخر ونظرة أخرى للآخر.
– الموقف المدني: ولو أن البعض سيعترض على استعمال المدنية، لكني أحببت أن أستخدمها لسببين هو أنها رسخت في المدينة المنورة، وأنها تحيل إلى أسبقية الإسلام في إرساء النظام المدني وقضائه على حكم الكهنة وطبقات رجال المعابد ورؤساء الأديان، وفي هذه النظرة يتضح من خلال آيات القرآن أن الآخر سواء كان نصرانيا أو يهوديا متساوٍ في حقه بالعيش الكريم والحرّ مع المؤمنين، مع اختلاف الواجبات مثل الصدقات والزكاة التي تعوّض بالجزية على الأغنياء فقط وتسقط عن الفقير والمرأة والطفل، وهي تقل عن الزكاة وتغني عن المشاركة العسكرية والمهام الموكلة للمسلم، وليس أدل على ذلك من “صحيفة المدينة” التي هي دستور مدني يضع المسلم واليهودي في القدر المتساوي من إمكان التعامل والتعايش.
كذلك في التجارة نجد المؤمن منفتحًا على الآخر ومطالبًا بالتعامل معه، وهنا يشير القرآن الكريم إلى أن المؤمنين غير مطالبين بالابتعاد عن معاملة الآخر لدينه {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجكم من دياركم} [الممتحنة: 8]
والملاحظ أن التركيز على هذا الموقف لا نجده في كتابات المخالفين، لأنهم يركزون على الموقف الأول والثالث؛ وبهما يحكمون على الإسلام بكونه دينًا ضدّ التعايش، رغم أن مصر -على سبيل المثال- “أُكرهت على انتحال النصرانية، وهبطت بذلك إلى دَرَكات الانحطاط مقداراً فمقداراً إلى أن جاء العرب […] وكانت تعُدّ من يُحَرِّرونها من أيدي قياصرة القسطنطينية مُنقِذين، فحُفظ هذا الشأن للعرب” [غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص220-221]
– الموقف السياسي: وهذا الموقف الثالث الذي يعتبر أكثر المواقف التي يتحرج بعض المسلمين منها، رغم أنه يجب على المسلم أن يفخر بدينه فقد قال تعالى: {فلا يكن في صدرك حرج منه} [الأعراف: 2]، إذ يرى البعض أن الإسلام يحمل في عقائده مواقف عدائية ومشاريع امبريالية، وهم بذلك يُسقِطون تجارب الغرب على تاريخ الإسلام، فيشوّهون الحقيقة.
والحقيقة أن الإسلام في توسّعه أو معاركه -ابتداء- لم يقم بها إلا مضطراً، فلم تكن معركة بدر إلا بعد أن استمرت الدعوة السلمية 10 سنين، ولقي المسلمون ما لقوا من العذاب، وحتى الفتوحات الإسلامية والحروب التي ستتوالى لم يكن المسلمون يريدونها لشهوةٍ وإنما لمواجهة مفروضة أو لمخاطر بدأت تواجههم، ولتعدّي الآخرين على حدود أرضهم.
ويزعم المستشرقون ويتناقل بعض العرب الفكرة نفسها، ويرون أن الفقر والجوع أو العامل الاقتصادي حسم مسألة الفتح، رغم أن الوضع الاقتصادي في شمال إفريقيا لم يكن بأفضل حال من الجزيرة التي كانت وستظل لقرون طويلة أرض رخاء اقتصادي خاصة ومجاورتها لأرض خصبة كالهلال الأخضر، وحتى أن مسألة الجوع لم تكن بتلك القوى، وذلك أن العرب عموما لم يكونوا قوم شراهة بل العكس، وهذا يفسر انتصاراتهم على أهل الحضارة والمدنية التي أثقلت البطون والعقول كما يشرح ابن خلدون في مقدمته، وكما قلنا فمنقطة شمال إفريقيا شهدت مجاعات متتالية عبر تاريخها، وكانت أغلب مناطقها مقفرة وقصة بناء القيروان خير مثال.
كما أن تاريخ التغذية في المنطقة معروف وليس فيه نوع من البذخ الذي اشتهر في المشرق أيام الأوج الإسلامي، فمعظم المأكولات مشتقة من القمح، ويكاد اللحم لا يحضر إلا في المناسبات، والحلويات لم يتعرف إليها بشكل قوي إلا في الأندلس وعند دخول العثمانيين.
الموقف السياسي يقترح أن تكون المعاملة بالمثل مع المعتدين والظالمين، إذ لا استكانة مع الغزاة، وهذا المبدأ الذي عُرفت به كل الشرائع السياسية، والناس لا تريد أن تفهم أن الإسلام ليس محض دعوة روحانية بل هو شريعة ربانية دنيوية وسماويّة؛ وهنا يحدث الاختصام بيننا وبينهم، فهم يرون في الإسلام دين محضًا ونحن والراسخون في العلم يرونه شريعة تنظم حياة المسلم من ألفها إلى يائها.
وحين لا يريدون الاعتراف بذلك يتهمون الإسلام بأنه دين عدوانية، ولو اعترفوا بالشريعة لاتضحت الصورة، لكنهم يريدونه دينًا صوريًّا كالمسيحية يبدأ عند باب المسجد وينتهي عنده.
وحتى في الموقف السياسي يجب أن نميز بين السياسة في الإسلام وبين ما نعرفه عن سياسات الدول، فليس من الإسلام هذه الحروب الفتاكة التي نراها تُشَن لإهلاك الزرع والنسل، ولا منها المؤامرات والمكائد وإفقار الدول وضرب المستشفيات كما فعلت أمريكا -مستشفى السودان مثلا-.
إن الموقف السياسي أو الحربي في الإسلام تؤطره أخلاق المسلم، بينما تنبني السياسة الحالية على البراغماتية والعلمانية التي تلغي الأخلاق لصالح المصلحة والمنفعة، فلا ضرر برأيهم في إبادة الهنود الحمر لقاء تأسيس امبراطوريات غربية في قارة أمريكا وهلم جرا.
يقول ول ديورانت في كتابه “قصة حضارة”، [مج4، ج2، ص82-83:
“ولقد كانت جيوش العرب خيراً من جيوش الفرس والروم… لقد كان في وسعهم أن يحاربوا وبطونهم خاوية، ولكنهم لم يكونوا في حروبهم همجاً متوحشين، انظر إلى ما أوصاهم به أبوبكر” فانظر كيف يشير إلى وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه المعروفة، والتي لن تخرج عنها قلوب العقلاء وأفكارهم.

ول ديورانت
سعيًا لتحريف الإسلام
يرى روّاد المراكز الغربية المؤثرة أنه “من المستبعد أن يغير الشباب المنتمي لحركات الإسلام الراديكالي آراءه بسهولة. أما الجيل التالي، فالمتصور أنه يمكن التأثير عليه وتشكيل وعيه، بإدماج رسالة الإسلام الديمقراطي في المقررات الدراسية ووسائل الإعلام” [شيريل بينارد، الإسلام الديمقراطي المدني، ص115] وبعد أن تأكّد الغرب أن تغيير الإسلام لن يتم من خلال كتابات المستشرقين، بدأ العمل الحثيث لتغييره من الداخل وعلى يد أبنائه، وقد أشرنا في مقال سابق إلى ضلوع مفكرين عرب معروفين في هذا المشروع.
ولعل مؤسسة راند الأمريكية رائدة ولا شك في هذا المجال، بتقديمها للدعم المادي للحكومات وتدريبها للكوادر العربية واحتضانها لكل مفكر مناهض للإسلام، والكاتبة مذكورة آنفا إحدى محللي المؤسسة ونسوية شرسة وكتاباتها في هذا الصدد معروفة.
انطلاقا من التركيز على الموقف السياسي للإسلام من الآخر ولنقل بشكل واضح من الامبريالي يجد الغرب نفسه في مواجهة مباشرة معه، فهو يريد شعوبًا خنوعة وشرائع تتماهى والهيمنة الغربية بل وتطالب بها تحت مبرر جلب التقدم والازدهار.
وهذا من بين الأهداف الواضحة التي تقدم مؤسسة راند عبر الكتاب السابق والصفحة نفسها، نصيحة تؤكد على أنه لا بد من: “نقد النظرة التقليدية بإظهار العلاقة السببية بينها وبين التخلف. وعلاقة الحداثة والديمقراطية بالتقدم والازدهار”
إذا تأملت في هذه النصيحة فستجدها أشد مبررات المنبطحين ثقافيا، ففي نظرهم الدين وخاصة الإسلام سبب كل تخلف في العالم الإسلامي، والحل الوحيد للخروج من حالة التخلف إلى حالة التقدم التخلص من الدين أو إفراغه من مضامينه.
وهكذا يطرح الإسلام الجديد أو “إسلام السوق” كما يسميه “باتريك هايني”، يشرح الكاتب الفرنسي معنى إسلام السوق بقوله: “وأعني بإسلام السوق مزيجا النزعة الفردانية المتعولمة، ونزع القداسة من الالتزام التنظيمي، بما يتضمّن ذلك من التخلي عن الشعارات الكبرى التي تتمحور حول الإسلام هو الحل، وإعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة” [باتريك هايني، إسلام السوق، ص 24].
يدعم الرجل رأيه بالدعم الذي تلقته المنظمات الإسلامية أثناء الربيع العربي، وهنا يشير مباشرة للإخوان المسلمين في مصر وحتى المغرب باعتبارهما نموذجا واضحا لمشروع الإسلام الجديد الذي يقوض أساس الإسلام ومشروعه، وهو ما يشيره إليه في قوله “إعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة”.
فالأحزاب السياسية الإسلامية التي تتنازل عن ثوابت الدين في معطياتها النظرية والعملية السياسية جزء من خليط من الدعاة والمنشدين وغيرهم يمثّل اتجاه إسلام السوق، وهدف هذا الإسلام واضح، وهو الانتقال من الإسلام العالمي إلى الإسلام القطري، ومن إسلام يعد بإصلاح العالم الغربي إلى إسلام يستجيب لإصلاحات العالم الغربي، ولعلنا نمثّل لذلك بدفاع حزب العدالة والتنمية في المغرب عن اتفاقية سيداو؛ والتي تتعارض جملة وتفصيلا مع الإسلام الأصلي.
يبدو أن الإسلام الجديد يلقى رواجًا وقبولًا لدى أبناء كثير من النشء الجديد والفئات المثقفة المتحررة من ضوابط الدين، ظنًّا منهم -بعد صراع طويل مع الغرب والاستبداد وقراءات طويلة- أن تعاليم الإسلام تتعارض مع الحداثة، ومع السياق التاريخي، فلا يُتصوَّر مثلًا تحريم الربا في عالم مبني على القروض، ولا تحريم الغناء في مجتمع مسلم يصبح ويمسي على ألحان المطربات المطربين وتنظم الحفلات في كل بقاعه، حتى في أشرفها، نرى اليوم تحولا واضحا نحو الانفتاح على الثقافة الغربية، وخير مثال احتفالات الهالوين في أهم دولة مسلمة في جزيرة العرب!
ولعلي أختم بهذه الخلاصة، إن الناس يعتقدون -عبثا وعن قلة اطلاع- أن الحداثة تعد بالرخاء وأن الالتزام بالإسلام يؤدي للفشل، متغافلين عن كون أن الحداثة لم تنجح في بناء عالم آمن أو مزدهر، وانظر حولك تتأكد فمن حرب إلى حرب ومن أزمة إلى أخرى؛ ونؤكد لهم أن الإسلام لم يفشل في بناء المجتمعات المزدهرة بل نجح أيما نجاح في ذلك في أوقات قصيرة حين ساد وحكم والأندلس كمثال، إلا أن تخلّف المسلمين عائد إلى عوامل أخرى ليست محل بحثنا على رأسها الفساد والظلم.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!