من مكان بعيد!

تساءلت عن قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ في الآية الكريمة: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت:44]. ورحت أبحث عن معناها في كتب التفسير، فوجدت لابن جرير قوله: “كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول” [تفسير ابن كثير]، وللفراء: “تقول للرجل للذي لا يفهم: أنت تنادى من مكان بعيد” [تفسير ابن القيم]. و”حكى أهل اللغة أنه يقال للذي يفهم: أنت تسمع من قريب. ويقال للذي لا يفهم: أنت تُنادَى من بعيد. أي كأنه ينادى من موضع بعيد منه، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه” [تفسير القرطبي]. وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: “لأنهم سمعوا فلم يتأثروا به، فشبَّههم الله بمَنْ ينادَى من بعيد فلا يَسْمع” [تفسير الشعراوي].

من الضيق إلى الاتساع!

تذكرت مواقف كثيرة، كنت فيها -ولعل غيري يمر في هذه المواقف- أذكّر بعض الناس بطاعة هم عنها ساهون، أو بأمر هو من قبيل المعصية هم له مقترفون، فلا أرى أثرا لما أقول على وجوههم، فكأنما هم كما قال جل وعلا: {كأنما ينادون من مكان بعيد}!

وكنت أقول في حسرة: ما أشد عصيان هؤلاء على الطاعة، وعصيانهم على الاستجابة لما يدعونا إليه ربنا جل وعلا، من الخير والحكمة والاستقامة! لماذا لا ينتبهون، لماذا لا يفقهون؟ وأجدني متعجبة لبلادة هؤلاء، إذ كيف لا يستجيبون لنداء خالقهم؟

يقول تعالى عن الكافرين: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]، قيل: “ناعق؛ مصوّت بالغنم، ومنعوق به؛ وهو الدواب. وقيل: إن مَثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء. وقيل: مثلهم كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت. قال سيبويه: مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به. أي مثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم”. ليت شعري، كيف يكون الإنسان إنسانا إذا كان سمعه لا يؤهله لسماع ما هو خير أو ما فيه الخير والنفع له؟!

بين الفاعل والقابل

يقول تعالى منوّهًا: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]، والمقصود بالذكرى هنا -كما يقول ابن القيم في شرح هذه الآية الكريمة- “هو المؤثر، ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾؛ وهو المحل القابل، والمراد به: القلب الحي الذي يعقل عن الله، ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾؛ أي وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا هو شرط التأثر بالكلام، ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾؛ أي شاهد القلب، حاضر غير غائب”.

فإذا حصل “المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر: حصل الأثر، وهو الانتفاع بالقرآن والتذكّر” [تفسير ابن القيم]

يقول الشيخ الشعراوي -رحمه الله- في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ [فصلت: 44] عن “نظرية الفاعل والقابل، فالفاعل يقوم بالفعل والقابل يتأثر به، ففَرْق بين الفلاَّح الذي يضرب الأرض بفأسه وبين مَنْ يضرب بها صخرة مثلاً، الأرض تنفعل للفأس وتتأثر بها وتثمر وتنتج، أما الصخرة فلا تقبل ولا تتأثر”[خواطر الشعراوي]

رحمات الله لا تنتهي!

ولعلنا نذكر هنا ما عاناه رسول الله ﷺ من أشكال الإعراض والصمم التي قوبلت بها دعوته، حتى كادت نفسه تذهب حسرات -كما وصفه المولى جل وعلا في كتابه- لفرط ما كان يجد في نفسه من الأسى والحزن بسبب قسوة قلوب مدعوّيه.

وكذلك كان حال الأنبياء عليهم السلام جميعا، حتى شكا نوح إلى ربه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح:5-7] إلى أن قال: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا﴾ [نوح: 21] وعلى لسان مؤمن آل فرعون مسترشدا قومه: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [غافر: 41].

إنه لمن رحمة الله بعباده أن كلّفهم بمهمة الدعوة لدينه ممن ورثوها عن أنبيائه من العلماء -بكل ثقلها وعظم تبعاتها- دونما تحمّل منهم لنتائج ذلك؛ والله تعالى الذي خلق الخلق يعلم أن قلوبهم شتى ووجهاتهم شتى ومساعيهم في الحياة شتى، فلا يشترط على الداعي الناس إلى الخير أن تكون منهم الاستجابة، كما لم تكن كذلك على الأنبياء عليهم السلام؛ والله تعالى يقول لنبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107]، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ}[النور: 54]، و{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، إذ أمر الهداية بيد الله وحده.

ولا ينفكّ الداعية يجد في نفسه لوعة وضيقا وكربا عندما يرى عدم الاستجابة ممن يدعوهم؛ فهو يتحسر أنه لم يتيسر له إخراج العاصي من معصيته، والغافل من غفلته، والشقي من شقوته، إلا أن ابن حزم الأندلسي رحمه الله يلفت النظر لأمر آخر قائلاً: “لا تنصح على شرط الإجابة”؛ إذ ليس ذلك من حقك، فإن كانت الدعوة لا يشترط فيها القبول، إلا أن الداعية الصادق المحب الخير للناس لابد أن يهتم لوقوع كلامه في قلب مدعويه.

ويبقى الأمر معلقا بقرب المدعو أو بعده عن نداء الحق ونداء الإيمان. وكيف يتعين على الداعي أن يقرّب البعيد ويأخذ بيده؟ لا شك أن الأمر صعب. وربما كان الأحرى به أن ينشغل بإزالة العوائق أولا والعلائق التي في قلب من يريد دعوته أولا، إذ كيف يذكّر بالطاعة من كان غافلا عمّن أمره بها، وكيف يعي خطر المعصية من كان لا يستقر في قلبه القدر المطلوب من الخشية ممن منعه ونهاه عما يقترفه جهلا أو عنادا..

نلجأ منه إليه!

إن المرء عندما يخشى شيئا يهرب منه، إلا الله فعندما نخشاه نهرب إليه، وفي الدعاء: “لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك”. نهرب إلى ساحة رحمته التي وسعت كل شيء وكل أحد: العاصي والمطيع، المذنب والتائب، القريب من الله والبعيد عنه، الساعي نحوه والهارب منه.

ولعلنا نذكر حديث أنس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله ﷺ: لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) [أخرجه الشيخان]، وقال ﷺ: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم).  [أخرجه مسلم] وفي الحديث القدسي: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) [أخرجه الترمذي).

أليس في هذا كله تذكير بتلبية الله لعبده حين يدعوه، وتذكير لنا أن الله حين يلبينا بالتوبة علينا أن نتلقى أوامره ونواهيه بالقول: “سمعنا وأطعنا”؟

إن جهلنا بديننا وغرقنا في بحر المطالب المادية -التي نظن حياتنا فيها- وغشْيَ قلوبنا بركام من الثلج يجعلنا لا نكاد نسمع الدعاء، ولا تكاد قلوبنا تصغي لنداء الإيمان، والله يعلمنا أن نقول: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ [آل عمران: 193]

ولقد اسمتعت الجن إلى القرآن يتلوه النبيﷺ، فانقلبوا إلى قومهم داعين: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف:30-31]

لابد أن نسعى إلى إذابة ذلك الثلج المتراكم على قلوبنا، ونساعد غيرنا على إذابته على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قيل: كلنا آمر بالمعروف ومأمور به، وناهٍ عن المنكر ومنهيٌّ عنه.

نسأل الله المولى العلي القدير أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه. وصل اللّهم وسلّم على أفضل من سمع فأوعى.

الوسوم:
شارك المقال