من مظاهر العبودية في حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام

image_print

لم يعتمد القرآن الكريم أسلوبًا واحدًا لإيصال رسالته إلى الناس، بل تعدّدت أساليبه وتنوعت، فهو حينًا يعتمد أسلوب الحوار، وحينًا آخر يعتمد أسلوب ضرب المثل، وتارة يعتمد أسلوب التربية النفسية والتوجيه الخلقي، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا تخفى على من تأمل وتدبر كتاب الله العزيز.

لقد كان أسلوب القصة من الأساليب التي اعتنى القرآن الكريم بها عناية خاصة؛ لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاتعاظ والاعتبار. وقد ألمح القرآن إلى هذا في أكثر من آية من ذلك قوله تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف:176]، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين اعتماد القرآن أسلوب القصص، تحقيقاً لمقاصد وأغراض عديدة.

العيش تسليمًا لله

لقد كانت قصةُ نبي الله إبراهيم عليه السّلام أطول القصص القرآنية بعد قصة نبيه موسى عليه السّلام، وقد نزلت آياتها مبكرًا في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن الكريم لها، وأخذت هذه المدة في نزول الوحي، وسميت سورة في القرآن باسمه هي سورة إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، كلّ ذلك يؤكد أن لها دورًا كبيرًا في تحقيق أهداف القرآن الكريم ومقاصده.

قف عند قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] –على سبيل المثال- متأمِّلاً- وتخيل أحدًا ما يأخذ طفله الرضيع وزوجته ليتركهما وحدهما في صحراء جرداء قاحلة، لا ماء فيها ولا زرع، ولا بشر يستأنس بهم، ولا وجود لشيء يعد مقومًا من مقومات الحياة بين أيديهم، ثم يغادرهم ويذهب دون شرح أو توضيح.

هذا ما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث ذهب بزوجته هاجر ورضيعها إسماعيل إلى صحراء مكة في الموضع الذي تفجرت فيه زمزم، فقد تركهما وحيدين دون راعٍ أو مؤنس، امتثالًا لأمر ربه تعالى، في صورة من صور التسليم المطلق، ثم مضى في طريقه تاركًا لهم قليلًا من الماء والزاد، فتسأله هاجر ثلاثًا: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس؟! فلم يلتفت إليها. فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا؟ فيرد عليها عليه السلام: نعم. فتقول المؤمنة بربها في غير تردد ولا قلق: إذن لا يضيعنا. [أخرجه البخاري في صحيحه].

انصرف نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو يدعو ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة إبراهيم:37-38].

هكذا فقط: آلله أمرك بهذا؟ فيرد: نعم. إذًا لا حاجة لنقاش أو تبرير. الله أمرك بهذا، فلا إجابة سوى السمع والطاعة. إبراهيم ينفذ ما أمره به ربه دون تردد، وزوجه معه لم تناقشه حتى في فعله. مهما بلغت المشقة، والحيرة من خفاء الحكمة في الأمر، ولكن التجرّد من حول المرء إلى حول الله وقوته أكبر وأمكن، ويقينهم في الله أعلى وأعظم.

الإقرار بالفداء

في موقف آخر يظهر عظمة التسليم نرى إبراهيم عليه السلام يبثّ لولده أمر الله بتقديمه قربانًا، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }، [الصافات: 102].

لقد قال له ولده: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه أمّي فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه، حتى استنقع الدموع تحت خدّه، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وكأنّ ضرب الله صفيحة من النحاس عليها، هنا نودي يا إبراهيم (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [تفسير الطبري بتصرف].

إن إبراهيم هنا -بعد الاختبار الأول- يختبره اختبارًا ثانيًا ليكون في مآله خيرٌ للبشرية وإبطالٌ لعادة التقرّب بدماء البشر، ومرة أخرى يحقق إبراهيم العبودية الكاملة لله تعالى ومعه ابنه، فيمتثلان للأمر دون اعتراض أو مناقشة. (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أسلما أمرهما لله واتفقا على التفويض إليه، وبالفعل لما باشر إبراهيم الذبح، ناداه ربه: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا). وتلك قصة الفداء المعروفة.

ذلكم مثالين من أمثلة كثيرة في قصة إبراهيم عليه السلام، وهي وحدها غنية بالأمثلة، وقد وردت في عدة سور كالبقرة وآل عمران والأنعام وهود وإبراهيم والحجر والنحل ومريم والأنبياء والحج والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف والذاريات والنجم. وفي أكثر هذا المواضع أمثلة على ما ذكرنا. ولما رأينا من هذه الأمثلة فإن العبودية لله تكون بالانقياد والطاعة التامة لأوامره سبحانه، وما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام دون اعتراض أو مناقشة، حتى لو خفيت الحكمة من وراء الأمر، فسلم لله تسلم.

أن يترسّخ الإيمان في القلوب!

يقول الصحابي الجليل جندب بن عبد الله رضي الله عنه: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن)، وذلك في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا). [صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه] -ومعنى حزاورة: جمع الحزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم- أي أنهم كانوا يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة والمشاهدة والإرشاد والتطبيق العملي أصول دينهم وعقائده، فيأخذون منه الأصول التي ينبني عليها بعد ذلك، وينقادون لأمره صلى الله عليه وسلم انقيادا تاما وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ثم يحفظون ما تيسر من آيات القرآن الكريم  ما يقوى ويزداد به إيمانهم.

وبالتأكيد فإنه ليس المقصد هنا التقليل من أهمية حفظ القرآن الكريم وتعلمه، وإنما التنبيه إلى ضرورة وجود خطوة مهمة تسبقه، وهي ترسيخ الإيمان واليقين بالله في القلب، فذلك جوهر العقيدة، ومن هنا تنبعث العبودية الكاملة لله تعالى والانقياد المطلق لأوامره فكرًا وممارسةً، وتعلّم ذلك أدعى إلى التمسك بما يجيء في كتابه سبحانه وتعالى وعدم رفضه أو النأي عنه، أو الصد عن ما قد يشكل على أفهامنا منه، ولنا في تطبيق العبودية لله خير مثل، أزكى الناس وأعلاهم منزلة، الأنبياء المختارون من قبل الله عز وجل، ففي سِيَرهم جميعًا كل الهدي للعبودية الصحيحة الكاملة كما يريد الله تعالى منا، والمطالع لسيرهم لن يعدم أن يتنبه للأمثلة والعبر، حيث يقول الله تعالى: {لقدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ]سورة يوسف: 111] وهذا ما تظهره لنا حقيقةً مواقف نبي الله إبراهيم –التي عرضناها-، فاللهم انفعنا بذلك يا أكرم الأكرمين.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد