من تحت الأنقاض أخبركِ “لم أمت بسبب حجابي”
مع تفشي متلازمة المثقف العصري في الأوساط الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، برزت الحاجة الملحة لإثارة الجدل والرأي العام، أو محاولة جذب الأنظار، من خلال تصدير أفكار مثيرة للاستغراب أو مستهجنة على الصعيد المجتمعي. ولتحقيق ذلك نرى اتجاهات عدة، تتمثل في مهاجمة أي شيء يمت للدين الإسلامي بصلة، كالتعرض لرمز من رموزه أو قضية جوهرية تتعلق به، فيما يتجه البعض ليظهر بمظهر المثقف الحداثي، لنهج آخر يتعلق بتأييد ما يسمى بـ”الحريات الشخصية” كالترويج لقضايا الميول الجنسية المناقضة والمحاربة للفطرة وخلع الحجاب، ويعمد في ذلك لاستخدام الألفاظ “التلطيفية”، كاستبدال عبارة صريحة بأخرى حمّالة أوجه بدلاً عنها في الترويج للباطل، ومن هذه الدعاوى أيضًا، المناداة بالإنسانية وفصلها عن الدين، وترويج مفاهيم تتعلق بتقديم الإنسانية في السلوكيات والمعاملات على الالتزام الديني، وجعلها الأعلى مرتبة..
توظيف الكارثة
كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريّة، وخلف عشرات آلاف الضحايا والمشردين والجرحى والثكلى والمصابين، كانت مطية أيضاً -أو صيداً ثميناً- لعدد من هؤلاء، ليجدوا من خلالها مدخلاً لمهاجمة الحجاب، فكتبت إحداهن مقالاً بعنوان “في ليلة الزلزال.. متّ بسبب حجابي”، فيما يدرج مهنياً في إطار الصحافة الصفراء.
إنه من المسلمات في عالم الصحافة، وجوب أن يدل العنوان على المحتوى والمضمون، لكن فيما يظهر للعيان بعد الاطلاع أن العنوان والمحتوى لا يمتان لبعضهما بصلة.
دعني أشرح لك بوضوح أكثر أخي القارئ:
جاء في المقال -على لسان إحدى الضحايا التي قضت جراء الزلزال- على سبيل المجاز “في ليلة الزلزال.. مت بسبب حجابي”، وحين عَرَض لي عنوان المقال، أول ما تبادر لذهني إن الحجاب كان السبب في موت هذه السيدة، مما أثار فضولي لأعرف كيف قتل الحجاب المرأة، فقد تخيلت تبعاً للعنوان، أن نساء مُتن أو قُتِلن بسبب كونهن محجبات، وقفزت إلى مخيلتي صورة لنساء محجبات مصفوفات يتعرضن للرصاص على سبيل التخيل..
ولكن المشهد كان على الشكل التالي، رجل يجلس على أطلال منزله منتحبا، يندب حظه ويقول “أنا السبب في موتها.. أنا قلت لها ادخلي واجلبي حجابك”، ليتبين أن السيدة حين دخلت لجلب حجابها انهار عليها السقف وفقدت حياتها.
فهل يصح أن نقول: كان الحجاب سببًا فقدان المرأة لحياتها؟ إذا أرادت المتوفاة الرد من تحت الأنقاض، لصرخت وقالت: لم يقتلني الحجاب ولم يتسبب بموتي.. ربما -بمنطق بشري بحت ستقول-: قضيت لأنني وزوجي لم نقدّر الموقف بشكل سليم من هول المفاجأة.
في أسوأ الأحوال، قد تكون ماتت بسبب انصياعها لأوامر زوجها، وهو ما ستصفه النسويات بأنه المتسلط والذكوري الأحمق وسيئ التقدير.. وحتى في هذا المنطق فإنه حتماً لم يتعمد قتلها، والأهم من ذلك كله أنها ماتت بسبب انقضاء أجلها..
أين الخلل؟
نحن هنا أمام صورتين.. الأولى حين وقع الزلزال وما بعده، وكما الجميع، حينما كنت أتحدث مع أبنائي عن إجراءات النجاة في حال تكرر الزلزال، كان أول ما قاله ابني -غير الملتزم- “حطّي طقم الصلاة قريب منك”، وهنا أشير إلى أن الأعراف المجتمعية، جزء لا يتجزأ من حياتنا، لا لأنها صحيحة بالمطلق، ولكن لأننا اعتدنا فعلها..
أما الصورة الثانية فهي ما ذكرته الصحفية في مقالها، من وجود نساءٍ كثيرات قضين تحت الأنقاض مكشوفات الرأس، لأنهن -من وجهة نظرها-، خفن من الخروج والمثول عاريات أمام الكاميرات والمنقذين.. وهنا أتساءل: أين الخلل في ذلك؟
إن الدين الإسلامي يجعل من نجاة الإنسان بنفسه أولوية شرعية، فالمسألة إذًا لا علاقة لها بالحجاب، أو التستر بموتهن، وبالفعل فإن هناك سيدات سيفضلن الموت تحت الأنقاض على الخروج عاريات، ليس لأنهن يشكلن عاراً على رجالهن على الصعيد المجتمعي، بل لأننا نعرف تماماً أن بعض الإناث سيدات أو فتيات، يتغلب الحياء عليهن، وهي صفة فطرية لا يد لهن فيها، ولا وقت لإعمال عقولهن للتخلص منها ساعة وقوع القضاء، مع احتمال أن يكن غير محجبات وغير مسلمات بالأصل، ومن المحتمل أنهن كن يستحممن وقت الزلزال.
صورة أخرى أغفلتها الصحفية.. ألا يوجد بين القاضين تحت الأنقاض رجل كان عاريا، ففضل عدم الخروج بهذه الصورة، توقعاً منه بأنه ربما ينجو، علماً بأن الزلزال أمر مفاجئ لا يمكن توقعه، وبالتالي لا يمكن توقع ردة الفعل حياله، مع مراعاة الفروق الفردية النفسية والبديهية..
مشهد آخر نقلته الصحفية لطفلة يبدو أنها صغيرة محجبة، عَلِقت هي وأسرتها تحت أنقاض منزلهم المهدم، وكانت الأقرب إلى فتحة النجاة، مما جعل والدها يطلب منها أن تخرج وهي مكشوفة الرأس، لعلها تستطيع إنقاذ أي من أفراد أسرتها، أو على الأقل تنجو بنفسها، وهنا أتحدث بصوت الوالد الذي كان حبيس الأنقاض، والذي صورته الصحفية على أنه ذلك الأب المتوحش الأناني، الذي سمح لفتاته بالخروج من تحت الأنقاض بدون حجاب، قائلا لها إن الله سيسامحها.. وهنا تزعم الكاتبة أن قدسية الحجاب في هذه اللحظة سقطت، وباتت مغفرة الله متاحة، فالوالد منح نفسه سلطة تقديم فتوى تدعم موقفه!..
ما الغريب في ذلك؟
إذا كنا نحن من نؤمن أن الحجاب واجب وفرض على المرأة المسلمة، فيمكنني أن أعيرك منظارنا لدقائق، نعم.. للحجاب قدسية تسقط حين يكون المقابل أن تنقذ عائلتها أو تنجو بنفسها، فالوالد لم يخطئ، فنحن المسلمون، نؤمن بفرضية الحجاب ووجوبه، ولكن في فقهنا الضرورات تبيح المحظورات، فالوالد لم يخطئ في تصرفه، ولم يستغل سلطته الأبوية التي تعتبرها الكاتبة مصدر تلقين الشريعة، والتي أيضا نؤمن نحن بأنها مصدر تلقين الشريعة والأخلاق ومهارات الحياة أيضا، والدها فقط وضح لها أنه يمكنها الخروج وليست مذنبة، فنحن في حياتنا نحتكم لشريعة الإسلام، وهذا لا يعيبنا..
سأستعيد المنظار من الكاتبة.. وأتساءل: هل سمعت بالمثل القائل “اللي استحوا ماتوا”؟. لا بد أنك سمعت به.. ولا بد أنك -بوصفك صحفية متمرسة- تعرفين قصة السيدات اللائي كُنَّ في حمام السوق، حين نشب حريق، وكن عاريات بحكم أنهن في الحمام، وفضلن عدم الخروج عاريات، فقيل: “اللي استحوا ماتوا”، ولم يُقَل “اللي ما لقوا حجابهن ماتوا”، فلم نكن هناك ولم نكن أيضاً تحت الأنقاض والأسقف التي انهارت على هؤلاء السيدات، ولكن ألم يكن ضمن هؤلاء وهؤلاء سيدات ليس لهن رجالٌ.. أرامل.. مطلقات.. ولم يخرجن لا لئلا يحرجن رجالهن، بل لأنهن لا يستطعن تخيل أنفسهن في هذه الصورة..
سأعيرك المنظار مجدداً.. حين تنهار الأسقف على رؤوسنا، لا تمهل الصدمة إحدانا، لتفكر ماذا تفعل وماذا تجلب وبم تنجو، وإنما تتصرف وفقاً لآليات كثيرة وأولويات تختلف من سيدة لأخرى، فليست الأولويات بالنسبة لي ولك واحدة، ستختارين ربما النجاة بنفسك عارية، وسيختار غيرك ربما الخروج نصف عارية، وستختار ثالثة ألا تخرج بدون حجابها، وهنا ليست أداة الاختيار عقولنا، ففي هذه اللحظة كل عقولنا معطلة، نحن فقط نستجيب لأولوياتنا المترسخة داخلنا، والتي تختلف من امرأة لأخرى، ومن رجل لآخر، هذا على اعتبار أن الرجل أيضاً كائن يصنَّف من فئة البشر، ستنتابه الحيرة ولو لحظة، حين يوقن أن السقف سينهار، هل يخرج عارياً أم لا.
على سبيل الختام
للمرة الأخيرة سأعيرك منظاري، لترَي أن الحجاب ليس دوماً إرثاً تقليدياً، مع أنني لا أنكر كونه كذلك عند بعض النساء، وليس وليد سلطة ذكورية -وإن كان ذلك صحيحًا في بعض الحالات-، مع احتمال أن يكون الالتزام به ناتجًا عن ذلك، ولكن الكثير منا يرتبط بمعتقداته ارتباطاً وثيقاً، لا يمكن حلّه، وهو أقوى من السلطة والموروثات، أنتِ فقط يا عزيزتي لا تستطيعين رؤية هؤلاء، ولا تؤمنين بوجودهن، فأنت تختزلين كل صور المحجبات، بالمقهورات اللائي يخضعن لسلطة ذكورية أو موروث تقليدي، فيما أخبرك أنا إحدى المحجبات أن هذا ليس صحيحاً، هذه إحدى زوايا المشهد، وهي الأكثر قصوراً، ولكن هناك زوايا أخرى أنتِ لا تعرفينها ولا تعترفين بوجودها.. الآن.. أعيدي لي منظاري.. وخذي تهيؤاتك وانسحبي من عقولنا.. فعذراً.. لم تمت بسبب حجابها..
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!