منارات العارفين ومتاهات الغافلين
تختلف سلوكيات الناس عبر الأزمنة والعصور، كما أن معتقدات البشر تتمحور وتتغير وتتشكل من مجتمع لآخر، يعود ذلك لعدة أسباب أهمها تعامل بعض الناس مع من حوله وفق مبادئ واعتقادات معينة كانوا قد نشأوا عليها فتأصّلت في عقولهم وتجذّرت في قرارة أنفسهم، وأفضلهم أولئك الذين امتزجت أعمالهم بالحق من معتقداتهم، أما من خلط السلوك بالكفر فقد حق فيه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103- 104] وعلى سبيل المثال فإن من يجمع ثروته بطرقٍ غير مشروعة ومن يكون مصدر رزقه مشوبًا بالأشواك فإنهم بأساليبهم الملتوية والمبهمة في التعامل اليومي مع الناس يشبهون -إلى حدٍّ كبير- تلك المتاهات أو الدهاليز المتعرجة أو الوديان الوعرة التي يهوي السائر فيها نهاية المطاف واقعًا فيما لا يحمد عُقباه، وعلى ضفةٍ أخرى نرى أناسًا آخرين يسلكون مسلكًا مستقيمًا، أنارته أضواء التقوى فضمائرهم يقظةٌ لا تغريها الرشوة أو المال الحرام فهؤلاء كالشعلة التي تنير الطريق المظلم.
التمييز بين العارفين والغافلين
لا عجب أن تختلط في وقتنا الحالي الأمور على كثير من الناس، فعوامل التحريف لا تعدُّ ولا تحصى، ولكن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أنه سيأتي زمان يُخوّن فيه الأمين ويؤمّن فيه الخائن ويُكذّب فيه الصادق ويصدّق فيه الكاذب.
في عهدنا هذا نرى موت الضمائر يكاد ينهي مَن تبقى مِن المخلصين، ونلحَظ انتشار عمى الجشع في عيون الحاقدين، وتباين الناس في الأصول والنهايات، وصار القوي يأكل حق الضعيف، الذي بدوره يجنح للسلم والدعة فيتنازل عن حقه للقوي. لا تكاد تنتهي مظاهر الغفلة عند هذا القدر، فالظلم يكاد يغطّي أوجه عصرنا، والظالمون يستحوذون على ما ليس لهم، والمظلوم توقفوا أو كادوا عن المطالبة بحقوقهم
هل ثمة كذبة بيضاء؟
نختلط يومياً في مسيرة حياتنا العلمية والعملية بأجناس وجنسيات مختلفة في فترة الدراسة بدءًا من مراحل الدراسة الأولى ثم المتوسطة فالثانوية فالجامعية ثم في بيئة العمل، قد نطمئن لسلوك بعضهم وبالتأكيد فإننا نتعجب لسلوكيات وتصرفات آخرين غير السوية.
هذا بمجمله داخل في نطاق الأحوال الطبيعية في المجتمع البشري، إلا أن ما يزيد عن ذلك الحدّ أن تنتقل من الاعتراف بالخطأ إلى التسويغ، فتتصاعد في المجتمع دعايات المسوغين، فيكون الخطأ الخارج عن هدي الصراط البيّن ذكاءً وفهلوة، مثل أن يلطَّف الكذب المستمر فيصبحَ كذبة بيضاء، فيصغر شأن الكذب في عيون الناس.
وهنا نرى أن حالة الاستقامة والبعد عن الطريق مدارهما مراقبة الله في الأقوال والأفعال، فمن يتهيب جلال الله واطلاعه يثبت على الحق ويتحرى الصدق ليقينه أنه حبل النجاة في الدنيا والآخرة أو في الآخرة على الأقل، أما من ابتعد عن المراقبة وهان أمر الله في نفسه، فإنه سيغوص في المعاصي والكذب حتى يسلب ثقته من نفسه ومن كل من حوله.
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) [أخرجه الشيخان].
هناك من يبرر السرقة والاختلاس أو الغش والتدليس بأن جميع الناس يسلكون هذا المسلك في جمع المال، أو لعله هو نفسه قد نشأ في أسرةٍ تعيش هذه السلوكيات المنحرفة، فلم يجد لنفسه رادعًا في الدين إذ لم يعش معانيه ويقترب من أوامره، كما أنه لم يحكّم ضميره لأنّ نفسه سوّلت له الفسوق وزيّنته أمام عينيه للوصول لمبتغاه فتمثل ذلك المبدأ القائل “الغاية تبرر الوسيلة”.
لكن الله تعالى وضع لنا معايير أخرى، فقال لنا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] وقال {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]
ومن هنا كان العارفون أولئك الذين وضعوا نصب أعينهم مراقبة الله والخوف من عقابه والبحث عن قبوله، فكانت كل خطوة يخطونها على خط الحساب بوزن الأقوال والأفعال، فيتقربون إلى الخالق بعمل الخير، فنرى أحدهم يعين المحتاج أو يغيث المسكين، أو يساعد في إيواء يتيم أو أرملة أو يسخّر ماله لبناء مؤسسة خيرية أو مستشفى أو مدرسة أو مسجد وغير ذلك من أبواب الخير التي يعود نفعها على المحسن والمحتاج معاً، ويبقى الأثر الطيب على صاحبه يريح القلب ويدخل عليه السعادة والفرح، على عكس العاصي والفاجر الذي لا يفتأ يعيش في القلق.
لما كان العارفون بأمور دينهم ودنياهم وما يتعلق بالحلال والحرام كانوا كالمنارات تضيء الطرقات المظلمة، ولما كان الغافلون يجهلون الحلال والحرام ضلوا في متاهات الضلال يتخبطون كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
العدل نقيضُ الظلم
تتفق أقوال العلماء في أن استمرارية الدول والمجتمعات تحكمها نواميس الكون التي فرضها الله عز وجل من العدل وتحريم الظلم، فقد حرم الله عز وجل الظلم على نفسه على العباد، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن الحسبة أن الله قد ينصر الدولة الكافرة إن عدلت ويمحق الدولة المسلمة إن ظلمت، ويمكن أن نستدل على ذلك بقول الله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]
وفي الحديث القدسي عن أبي ذر رضي اللَّه عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيما يروي عن ربه عز وجلَّ أنّه قال: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا)
في الختام لا بدّ من التأكيد على أن الحياة لا تخلو من الخير والشر، كما أن الأمور والأشياء قد تعرف بضدها، فبعض الناس لا يميز بين الأضداد إلا بالمقارنة فتراه لا يعرف فضل الناس الذين يتمتعون بالخلق الحميد والفضيلة الباذخة، إلا بالمعاناة مع آخرين من ذوي الخلق السيئ، ولا يملك معرفة خير الفضيلة إلا بالانغماس في بؤس الرذيلة.
وهكذا يتنوع البشر في أخلاقهم فتترجم إلى سلوك يظهر في مجمل تصرفاتهم ما بين صدق وكذب، عدل وظلم، أمانة وغش، إخلاص وخيانة، حلم وغضب، لين وقسوة، تواضع وتكبر، كرم وبخل، طيبة ومكر، إيثار وأنانية …إلخ، فتتجلّى القيم والخلق الحميدة لتتوّج مجتمعة في مكارم الأخلاق لنميّز بين الخير والشر والحق والباطل، ولتبقى هذه المعالم الأخلاقية خالدة عبر العصور تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!