ممارسات حركة العصر الجديد.. من جرائم السحر إلى أعمال الدجل والشعوذة الحديثة

عادة ما يتسق تطور أساليب الجريمة الحديثة بالتوازي مع التحولات الاجتماعية والحضارية العميقة في المجتمعات، حيث تتطور الأساليب الإجرامية بالتوازي مع التقدم التكنولوجي وما تقدمه العولمة من تغيّر للنُّظُم الاقتصادية والسياسية، وقد يبدو ذلك واضحًا جليًّا بمتابعة جرائم الأموال مثل السرقة والاختلاس والرشوة أو الأشخاص كالقتل والاعتداء والتشهير، التي تطورت أساليبها بشكل كبير في العصر الحديث وأصبح الجناة أكثر ذكاءً وتنوعت أدواتهم ووسائلهم الإجرامية، وهنا يتبادر سؤال في غاية الأهمية، ماذا عن جرائم السحر والشعوذة؟ أما زال المشعوذ يصنع التمائم ويعلّق الطلاسم المحرّمة ويأكل أموال الناس بالسحت والباطل، أم أن هذا المجال من الجرائم تطوّر كما تطوّرت الجرائم الأخرى؟ هل ما زال السحرة يلبسون بالي الثياب وينفر الناس من أشكالهم، أم أن صورتهم النمطية تغيرت، فبات مشعوذ اليوم يرتدي ربطة العنق ويعقد الدورات بعد أن كان يعقِدُ العُقَد؟

كيف تطوّرت الأساليب الإجرامية لممارسي شعوذات العصر الجديد؟

إثر ظهور العلمانية في الغرب وفصل الدين عن الدولة، والفصل المتدرج للناس عن روح الدين، حتى بات كثير منهم كالخُشُبِ المسنّدة، هائمين دون معنى، ماضون دونما أرواح متيقظة، جائعين لا يجدون الغذاء الروحي.

في هذا السياق، استغلّ لصوص الغرب تلك المجاعة الروحية، وتلقّفوا وثنيات الديانات الآسيوية والهندية والأفريقية التي لا تخلو من أعمال السحر والشعوذة وكل ما ناهض الإسلام وأعادوا صياغتها بطابع عصري، فظهرت لنا شعوذات ما بات يعرف بـ (حركة العصر الجديد) بديلًا لمن يبحث عن دين خالٍ من التكاليف!

وفي ظل وجود جرائم متنوعة متجددة قائمة على الخداع والتضليل مثل أعمال السحر والشعوذة والدجل التي تطورت وتغيرت الصورة النمطية للمشعوذ التي اعتدناها في الأفلام السينمائية من شكل مريب وتمائم وطلاسم وأبخرة، فإن مشعوذي العصر الجديد باتوا يظهرون بملابس جذابة وإطلالات ساحرة، وانتقلوا إلى ارتياد النوادي والمراكز التعليمية، بل باتوا يُمنَحون المنصات في الجامعات والمدارس، ويظهرون على شاشات التلفزة ليخاطبوا الجماهير ويوجهوا عقولهم، وصاروا يكرّمون ويلقّبون بألقاب عديدة، كالمدرب المعتمد أو (الكوتش) أو الدكتور في علم الطاقة، أو المرشد، أو القائد، أو التربوي، وغيرها من الألقاب المسروقة من حقول أخرى أو المبتدعة لتحقيق مزيد من الأرباح والخداع.

يضاف إلى ذلك، اتصاف الجمع الكبير منهم بالخبرة في سرقة الأفكار والممارسات الطقوسية والمعاني الروحية من العلوم والديانات الأخرى، مع تغليفها بتسمية الأمور بغير مسمياتها، فاليوغا مثلًا ما هي إلا صلاة هندوسية معززة بتمارين البيلاتس والتمدّد، لكنهم يخلطون هذه التعاليم ببعض العلوم المقتبسة من فلسفات مدارس علم النفس، وفن الإدارة، والتنمية البشرية، مع خزعبلات وثنية من الديانات الباطنية الآسيوية لاختراع علوم ميتافيزيقية هجينة.

ولعل هذا من أبرز الأسباب التي أدت إلى عدم شك السلطات بمحتواهم وخطبهم وكتبهم التي ملأت المكتبات الوطنية، ومعارض الكتاب السنوية، ورخصت مراكزهم التي تتم فيها عمليات النصب والاحتيال، فهم بارعون في التضليل والتدليس وسرقة الألقاب والمصطلحات.

وبالاطلاع على ممارسات هؤلاء المشعوذين التي ملأت وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية وإلى تعريف أعمال السحر والشعوذة في معظم القوانين الجنائية، فإننا نجد أنهم وبوضوح يمارسون أعمال السحر والشعوذة والدجل بادعاء أن الانسان لا يعلم الغيب وحَسْب، بل وصفه بأنه قادر على صنع قَدَره بجذب حاجاته ورغباته، كما أنهم يدّعون أن ممارساتهم تجلب المنفعة وتدفع الضرر من خلال الترويج لقانون الجذب، ورفع الاستحقاق، والطاقة الإيجابية، وطاقة الثراء، وتوأم الشعلة، ولا تخلو ممارساتهم تلك من مخالفات صريحة وفجة ومناهضة لتعاليم الدين الإسلامي، بل يجاهر بعض مشاهيرهم بالتطاول على الذات الإلهية والدين الإسلامي ورموزه.

على كل الأحوال، فإن هؤلاء -بما لا يدع مجالا للشك- يمارسون من جرائم الاحتيال الشيء الكثير، بادعائهم أنهم أصحاب اختصاص وعلم، وبعقدهم تلك الدورات التدريبية ذات الأسعار الخرافية لبيع الوهم وخداع الضحايا، كما أن موادهم المرئية والمقروءة متوفرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفيها من تصريحاتهم ما يخالف نصوص القانون والشريعة الإسلامية بكل وضوح.

ضرورة المواجهة القانونية!

وعلى الرغم من انتشار الوعي بمدى خطورة ممارسات حركة العصر الجديد، إلا أنه لا بد من فرض قوانين رادعة لإحداث التغيير على أرض الواقع وتحقيق الردع العام لهذه الفئات من المجرمين، بهدف حماية المجتمعات العربية الإسلامية من تسلّل هذا الخبث إليها.

ولكن يا للأسف.. قصّر فقهاء القانون والأجهزة التشريعية في الدول الإسلامية والعربية في ذلك، فغابت -على العموم- التشريعات المجرّمة لمثل هذه الممارسات بالنص، أو لم تلتفت القوانين لها بالمطلق في تشريعاتها.

على سبيل المثال، خلت دول رائدة في المجال القانوني عربيًا -مثل مصر- من أي تشريعات تجرّم هذه الممارسات، فلم تجرم السحر بصورته التقليدية لتجرّمه بصورته المعاصرة، واكتفت بأن جعلت السحر التقليدي من أعمال الاحتيال، وفي ذلك تركيز على النتيجة دون تحديد للأفعال، أما في دول أخرى -كالكويت- فما زال مشروع القانون الكويتي لتجريم أعمال السحر جنينًا متعسّر الولادة، وكذا في ليبيا يُراد وأده من قبل أن يولَد.

أما في الدول التي شرّعت القوانين لمواجهة السحر، فلم يتم تفعيل القانون الموجود فيها على العموم، ففي دولة مثل قطر والإمارات العربية المتحدة ما زالت تشريعات القوانين ضد ممارسي تطبيقات حركة العصر الجديد بعيدة عن التنفيذ، بسبب ما شابَ القوانين وأجهزتها وأدواتها من ضعف وأسباب للتحايل عليها، وما ذلك إلا دليل عجزه عن التصدي السريع والفعّال للجرائم الحديثة، على عكس الشريعة الإسلامية المرنة التي انتهى النص القطعي العام فيها بانتقال النبي r إلى الرفيق الأعلى، حيث تعهد الله U لنا أن مبادئها ستكون محفوظة، وأشار العلماء إلى أنها صالحة لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة، ومن ثم نجد أنه من السهل على العلماء إصدار الفتاوى الشرعية التي تحرّم هذه الممارسات وتحذّر منها، كما يمكن لهذه الفتاوى أن ترتب جزاءات دنيوية عليها حسب كل واقعة، بينما تعجز بعض النظم القانونية عن التصدي لهذه الأعمال بسبب مبدأ النصّية والشرعية القانونية الذي يرى على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، فلابد من إدراج هذه الممارسات ضمن الأعمال المجرمة بقوانينها الجنائية حتى تتمكن السلطة التنفيذية بأدواتها المختصة أن تفعّل القانون على مرتكبيها دون الإخلال بهذا المبدأ.

مبدأ الشرعية في الإسلام!

إن هذا المبدأ -أي الشرعية- من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، ولم يعرفه العالم الذي كان يعاني من تعسّف السلطات والملوك الجبابرة إلا بعد بعثة النبي محمد عليه أفضل الصلاة والإسلام، ولكن لابد من التفريق هنا بين مبدأ الشرعية في الفقه الإسلامي المقترن بالعديد من المبادئ الأخرى التي تستند في مجموعها على الأدلة الشرعية الغزيرة والمصادر التشريعية المتعددة، وبين مبدأ الشرعية الجنائي الذي يقصد به أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص “تشريعي وضعي”، فالقانون الوضعي الذي يسنّه المشرع البرلماني -مهما بلغ من الحكمة والذكاء والتيقظ- لن يتمكن من تغطية كافة الأفعال الإجرامية التي قد تصدر من الأفراد ولا يمكنه توقع كامل الأفعال المستقبلية، وبالتالي لن يتمكن من التصدي للجرائم الحديثة لحظة بلحظة وآنًا بآن، خاصة في ظل هذا التطور سريع الوتيرة الذي نشهده اليوم! ناهيك عما تتسم به هذه المجالس والتشريعات ببطء الإجراءات للمناقشة والتشريع والإقرار والتنفيذ، والذي قد يمتد لسنوات طويلة جدًّا قبل أن يدخل مشروع القانون إلى حيّز التنفيذ.

اقتراح ونداء

إنني أدعو زملائي وأساتذتي من أهل الاختصاص والمسؤولين في الدول الإسلامية، والقائمين على تطبيق القانون، أن يأخذوا هذا المقترح بعين الاختبار، حتى يتم التصدي لجرائم حركة العصر الجديد ولتكون دولنا العربية رائدة في مجال مكافحة الجريمة الحديثة:

لعلّ أولى الخطوات نحو مكافحة الجريمة هو سنّ مادة تجرّم السحر، تتضمن تعريف أعمال السحر والشعوذة والدجل حسب ما توفره اجتهادات الأئمة في الشريعة الإسلامية، وأن يتم إدراج بعض أعمال السحر التقليدية المعروفة بالإضافة إلى ممارسات حركة العصر الجديد على سبيل المثال لا الحصر، حتى لا يتم تعطيل العدالة في محاولة تفسير القانون وتكييفه ليوائم الوقائع المحتملة.

وبعد أن تنتهي الدول التي ينقصها التشريع من تجريم السحر والشعوذة قانونيا -كما فعل المشرع الإماراتي والقطري- يأتي دور التكييف القانوني، من خلال طريقين واضحين، أحدهما: تفسير الجهات المختصة بالدولة للمادة وتعريف مصطلحاتها، وهذه الخطوة تكون عادة احترازية -سابقة لوقوع الجريمة-، وثانيهما: تفسير القضاء للمادة في الأحكام التي تصدر ضد الجناة بعد وقوع الجريمة والتبليغ عنها.

تعريفات وإيضاحات

من الضروري في هذا الإطار الإشارة إلى أن ممارسة أعمال السحر الشعوذة والدجل مجرّمة في دول مثل الإمارات وقطر وليبيا والسعودية، وقد عرّف المشرع الإماراتي السحر بأنه “يعد من أعمال السحر القول أو الفعل المخالف للشريعة الإسلامية إذا قصد به التأثير في بدن الغير أو قلبه أو عقله أو إرادته، مباشرة أو غير مباشرة، حقيقة أو تخيلًا، ويعد من أعمال الشعوذة التمويه على أعين الناس أو السيطرة على حواسهم أو أفئدتهم بأي وسيلة لحملهم على رؤية الشيء على خلاف الحقيقة بقصد استغلالهم أو التأثير على معتقداتهم أو عقولهم وادعاء علم الغيب أو معرفة الأسرار أو الإخبار عما في الضمير بأي وسيلة كانت بقصد استغلال الناس”.

فيما عرف المشرّع القطري السحر بأنه: “الإتيان بفعل أو التلفظ بقول أو استخدام وسائل بقصد خداع الضحية وإيهامها بالقدرة على السحر أو العرافة أو معرفة الغيب أو الإخبار بما في الضمير، أو بتحقيق حاجة أو رغبة أو منفعة أو دفع الضرر أو إلحاق الأذى بالغير، ذلك بمقابل أو بدون مقابل مادي”.

حسنًا فعل المشرع الإماراتي في عدم تحديد السلوك الإجرامي بشكل دقيق وإحالة مهمة تعريفه للشريعة الإسلامية الغزيرة بالمصادر والأدلة، ولم يتوسّع المشرع القطري أيضًا في تعريف السحر والشعوذة والدجل، تاركًا المجال لأصحاب الاختصاص بتفسير القانون في الدولة، لتعريف هذه المفردات تعريفًا موسعًا شاملًا وافيًا حتى يكون النص منيعًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ضمّنها، فطبيعة هذه الأعمال التجدّد والتنوّع وهي قائمة على الخداع بشكل أصيل، ولا يسعفها أن تعرَّف تعريفًا ضيقًا محدودًا مغلقًا، على الرغم من أن الأصل في المواد الجنائية الوضوح والدقة في وصف السلوك الإجرامي بعناصره المادية والمعنوية. إلا أن الاستثناء على هذا الأصل هنا محمود، وإحالة تفسير السلوك الإجرامي للشريعة الإسلامية المرنة يعالج مشكلة استغلال المجرمين “المبدعين” لمبدأ الشرعية الوضعي “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”.

توصيات الختام

في الختام، نوصي -ليرى هذا المقترح النور- باتخاذ إجراءات عملية، والقيام بمبادرات من قبل المسؤولين، كلٌ في مجال اختصاصه:

أولًا: يجب على الجهات المختصة في الدولة -المعنية بتجريم أعمال السحر والشعوذة والدجل- الاقتداء بالمشرع الإماراتي والقطري والسعودي والليبي، من خلال تجريم هذه الأعمال، وإضافة التفسيرات والشروح القانونية الواضحة في هذا الإطار، إلى جانب إدراج علوم التنمية البشرية المستندة إلى خرافات العلوم الزائفة والديانات الوثنية ضمن أعمال السحر والشعوذة والدجل والنص على بعض ممارساتها على سبيل المثال لا الحصر.

ثانيًا: أن تقوم السلطة التنفيذية في الدولة، متمثلة بالنيابة العامة وذوي الاختصاص، بتفعيل المواد التي تجرم السحر والشعوذة والدجل من خلال نشر الوعي بين موظفيها بحقيقة هذه الأعمال ومدى خطورتها على المجتمع، وأن تستقبل البلاغات الجنائية ضد المشعوذين الجدد من منتسبي هذه الحركة بحرص وتفانٍ، وأن تقوم بإغلاق كافة المراكز والمؤسسات التي تمارس تطبيقاتها، ومصادرة الكتب والمنشورات المتعلقة بها، وسحبها من أماكن العرض في الجامعات والمدارس الحكومية والخاصة والمكتبات والمعارض، وأن تلاحق كل من يمارس هذه الأعمال ويروّج لها في مواقع التواصل الاجتماعي، وأن تغلق المواقع والبرامج المتعلقة بها.

ثالثًا: أن تمتنع الجهات الحكومية ذات العلاقة عن منح الرخص القانونية والموافقات لممارسي تطبيقات حركة العصر الجديد لعقد دوراتهم أو تأسيس مراكزهم، وأن تُنشر التعميمات لكافة الفنادق والمراكز والمؤسسات بذلك، وأن يتم إقصاء هذه العلوم الزائفة من الخطط التدريبية والتطويرية للموظفين والطلاب، وأن تُعتَمد المصادر العلمية الموثوقة فقط.

رابعًا: أن تقوم الجهات المختصة في الدولة بدور التوعية للتصدي لأفكار حركة العصر الجديد من خلال منصاتها، وأن تفرض الغرامات المالية لكل المنابر الإعلامية التي تروج لهذه الحركة ورموزها بأي شكل من الأشكال.

رابعًا: أن يتصدى لهذه الحركة وأفكارها الأكاديميون والمختصون بكافة المجالات العلمية -التي تقتحمها- عبر إعداد البحوث العلمية وإنتاج الكتب والمقالات الأكاديمية للتبرؤ منها وتفنيدها، ونشر الوعي حول أخطارها وتناقضاتها.

أخيرًا، أن نتكاتف، نحن، عامة الشعوب العربية والإسلامية، ضد الشعوذة الحديثة التي تسمى بحركة العصر الجديد، وأن نقف في وجه هذا العدوان الناعم لحماية عقيدتنا وأبنائنا ومجتمعنا من المساس بقيمه وأمنه وسلامِه، والله ولي التوفيق.

شارك المقال