مكة بين ذوبان الروح وتغوّل الحداثة

image_print

لا يُعرف عن مدينة مكة تاريخ مؤكَّد سابق على بناء البيت الحرام، ولذا فإن مكانة مكة تاريخياً عند العرب، وحاضرًا عند المسلمين، مرتبطة برمزها الديني المقدَّس، أي الكعبة المشرفة التي بناها آدم عليه السلام، ثم أقام قواعدها بعد اندثارها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، والتي يصفها الله في مواضع عديدة في القرآن بأجلّ الأوصاف وأسماها، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96-97].

ولا تغيب عن المسلمين الأحاديث التي جاءت في فضل مكة وحرمها وعظمة ثواب الصلاة في مسجدها وحب النبي صلى الله عليه وسلَّم لها، ممَّا جعل احترام مكَّة مرتكزاً في الأذهان، وثابتًا في القلوب والأرواح، فهي مهبط الوحي، ومبدأ الرسالة، ومأوى الأفئدة المؤمنة بالله، والهويَّة التي دفعت كثيرًا من الرحّالة غير المسلمين للتنكُّر بغية استكشاف هذا المكان العظيم والتعرُّف إلى أسرار جذبه الروحي لملايين الناس.

رحلة جول جرفيه كورتيلّمون
في رحلته إلى المشرق العربي وإلى أرض الحجاز تحديدًا، رسم الرحَّالة الفرنسي جول جرفيه كورتيلِّمون (ت 1931م) لوحة دقيقةً فائقة التميُّزِ عن المدينة الأقدس في تراث المسلمين.

وفي سبيل إتمام رحلته، أظهر جول إسلامه، وارتحل بجواز سفر سمّى نفسه فيه “عبد الله بن البشير”، متجها نحو مكة عام 1894م، وتاركاً خلفه وثيقة مهمة في وصف الديار الحجازية إبَّان تلك الأيام.

من ذلك كلماته الآتية التي تأخذنا إلى واقعٍ مفعم بالصور عن الحرم المكِّي الشريف: “عند ظهور ضوء النهار اجتزنا بوّابة المدينة المقدَّسة، إنها بوّابة مؤلفة من عمودين يشبهان أعمدة بوابة مزرعة… لقد مررنا بأسرابٍ لا تحصى من طيور الحجل وعندليب الصحراء، تهرب مهرولة أمامنا دون أن تتنازل وتطير، كانت تطير حولنا بأعداد هائلة العديد من مجموعات الحمام وكأنها غيوم، في الحقيقة هذه الحمائم مصدر احترام كبير لغالبية سكّان مكة.

فجأةً عند مفترق طريق، دخلنا إلى المدينة المقدَّسة، لا شيء يجعلك تتوقع مدى قربها، إنها تختبئ بين جبلين قريبين جدًّا من بعضهما، وعندما تجتاز الشارع الأول تدرك أنك وصلت، لا منظر شامل للمكان، كل الأماكن متشابهة، حتى تصل إلى الجامع الكبير المستقر في أخفض مكان في المدينة، مختبئاً عن الأنظار، وكأنه بيضة وسط عشٍ”[1].

ثم يقول: “ها هي الكعبة بهيئتها الملكية مرتدية كساءها الأسود الثمين، ليست الكعبة –كما كنَّا نظنُّ- قبرًا للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، إنها بيت الله الحرام بالنسبة إلى جميع المسلمين”[2]، إلى أن قال “لقد بقيت مع تأملاتي أفكِّر في أقاربي في فرنسا وفي هذه الرحلة العجيبة إلى هذه المدينة الغامضة حيث أشعر أن معجزة ما تسيِّرني… أكون بمنتهى الفرح عندما أذهب لأحلم عند الجامع الكبير، لا يمكن لبشر حين يسمع صوت الأذان في هذا المكان أن يحلم بإنجاز لحن بهذه الرقة والتناغم، أي تنميق مدهش هذا”[3].

أقام جول في مكة أياماً عديدة وجال في أزقَّتِها يدرس معالمها ويتعرف على أسواقها وأشكال عمرانها، ليتأتى لنا عبر هذه الرحلة أن نتعرف إلى صورة مكة الاجتماعية والعمرانية في أواخر العهد العثماني، مشيراً باهتمام بالغ إلى الحِرَف المهنية التي اختصت بها أسواق دون غيرها، فثمة سوق للصاغة وآخر للأخشاب، وثالث للقماش وهكذا دواليك، التي تشبه في شكلها العام شوارع دمشق أو القاهرة القديمة”فالجامع الكبير المستقر في أخفض إلا أن الاندهاش بلغ قمته بالنسبة إليَّ حين مررت على كلماته الآتية: “يعتني السكَّان بأنفسهم بنظافة الشوارع التي تشبه في شكلها العام شوارع دمشق أو القاهرة القديمة”[4]، وموضع الاندهاش آتٍ من تشبيهه مكةَ بدمشق والقاهرة، فالصورة النمطية عن مكة تلك الأيام موحٍ بافتقارها إلى الترتيب والاعتناء العمراني، إلا أنها بحسب شهادته شبيهة بالتنظيم والترتيب المعروف عن دمشق والقاهرة أي دُرَّتَي بلاد الشام ومصر، وهو ما لا نجده في مكة –من الجانب التراثي- هذه الأيام حتماً.

أين الجذب الروحي لمكة؟
يتحدث د. علي عبد الرؤوف عن حادثة تعرَّض لها أثناء إعداده كتابه الشهير “من مكَّة إلى لاس فيغاس: أطروحات نقدية في العمارة والقداسة” قائلاً: “لم يستوقفني وأنا أُعدُّ دراسات كتابي الصادر في القاهرة، أكثر من إعلان فندقي به صورة سرير أبيض بشراشف حريرية عليه وردة حمراء كُتب أسفله تمتَّع بشهر العسل وأنت مُطلٌّ على الحرم!

لقد صدمتني فكرة استغلال الإطلال على الحرم المكي ليس فقط لتبرير دفع مئات بل آلاف الدولارات لقضاء ليلة واحدة، بل تصعيد الاستغلال إلى التحول بعيدًا عن الهدف الروحاني إلى الترويج الفندقي الفج لجناح العرائس المطل بنوافذه العملاقة من ارتفاع شاهق على الكعبة التي تقزَّمت أمام هذا العملاق الخرساني البغيض المسمَّى برج الساعة”[5]، لقد تعاظمت الصدمة –والكلام له- عندما أدرك أن مكة باتت تشبه بأبنيتها الفاخرة وتسارع الوقت فيها مدينة لاس فيغاس الأمريكية، ولعلّ تأثير الصدمة الأولى يزداد “عندما ندرك أن لاس فيجاس ليست مجرد مدينة أمريكية، ولكنها تسمى (مدينة الرذيلة) في مقابل (المدينة المقدسة) مكة، وثمة صدمة أخرى فاجأته عند زيارته دولة الفاتيكان، وذلك لدى رؤيته التناسق المعماري مع الحفاظ على الهوية، واحترام الكنائس والمقر البابوي، والإصرار على جعله أهم وأكبر المباني، وصاحب المركز المسيطر المرتفع في النطاق البصري للمدينة.

وثمة صدمة أخرى، وهي التي تخص مدينة القدس، الأكثر مدعاة للحزن والألم. فعلى الرغم من وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي وبرغم المحاولات الدائمة لتهويدها، إلا أنه لم يصبها ما أصاب مكة من تشويه معماري وعمراني، وما زالت القدس تحافظ على هويتها المعمارية، وشخصيتها الفريدة، وعبقها التاريخي، الذي يبدو جليًّا في وضعها الراهن الموثق في أدبيات متعددة”[6].

يبدو أن الدعوى المذكورة آنفًا تثير في النفس بعض التهكُّمِ الممزوج بالفضول والاستغراب!

كيف يحق الادعاء بهذا، وقد أنشأت حكومات المملكة السعودية أفضل شبكات الطرق والأنفاق الضخمة والجسور والتوسعات المتعددة لأرض الحرم وما حوله، إضافةً إلى الكثير من المشاريع الإعمارية لتسهيل استيعاب ملايين الحجاج كل عام دون وقوع حوادث تؤذيهم أو تعكر صفو عبادتهم أو تودي بحياة العشرات منهم.

طغيان الحداثة وثقافة الاستهلاك
“إذا كانت أولى زيارتك لإحدى المدن وكان في مدى بصرك مبنيان؛ أولهما بارتفاع 14 متراً، والآخر بارتفاع  600 متر، تعلوه أكبر ساعة في العالم وتحيط به أبراج شاهقة، فأيُّ المبنيَين تعتقد أنه يجذب انتباهك ويستحوذ على كل مجالك البصري: ناطحة السحاب أم ذلك المبنى الذي لا يتجاوز ارتفاعه 4 طوابق”[7]؟

إن المسألة التي نتوقف عندها ههنا ليست توسيع مساحة الاستيعاب للحجاج والمعتمرين في الحرمين الشريفين أو تحديث شبكة الخدمات فيهما، وإنما تغيير الحالة الثقافية للروح التي تسكن المدينتين واندثار الهوية الروحية التي تميز هذه المدن المقدسة، فلم تعد زيارة المدينة المنورة أو مكة المكرمة مظهراً من مظاهر التساوي بين المسلمين وإنما باتت خاضعة للبهرجة التجارية وطغيان الثقافة الاستهلاك والابتزاز العولمي الصارخ.

إن السؤال آنف الذكر يقال لمن يزور مكة في هذا العصر الذي طغت فيه قيم العولمة والصورة الاستهلاكية، ولذا لا عجب في أن يكون الجواب متوجهاً في الغالب بالإشارة إلى البناء الأعلى والمطل كعين مادية ناظرة تراقب كل شيءٍ منخفض عنها، وبالطبع فإن كل ذلك جارٍ على حساب الكعبة، إذ تبدو صغيرة للغاية أمام هذه الأبراج العملاقة، وبالتالي تخضع جموع المسلمين إلى صورة القيمة الدنيوية على حساب القيمة الأخروية التي تمثلها الكعبة المشرفة التي قصد زيارتها طالبًا التقرب بها إلى الله[8].

هنا ترى قلب المدينة منفصلاً عن غايته الروحية في محيط حداثيٍ يقطع صلته بالقلوب التي اتجهت إليه، فلا يؤثر ذلك بالروح العمرانية فقط، وإنما بالروح التي يملكها زوار هذه الأماكن وقاطنوها[9].

لقد كانت الدول المتعاقبة على حكم الحجاز في غاية التنبه لواقع مكة الروحي، فبخلاف ما فعلته دولة القرامطة -بقيادة أبي طاهر القرمطي- من أخذهم للحجر الأسود وإعادته بعد عشرين سنة، لم تقم هذه الدول بتغيير معالم الحرم أو إزالة أجزاء منه بل كان التعظيم والاعتناء بالآثار المتبقية من الحرم ماثلاً مدة بقائها، فلم يشهد المسجد الحرام توسعةً تذكر بعد الخليفة المقتدر بالله طيلة حكم الفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، وإنما اقتصر العمل في المسجد خلال هذه الحقبة على الترميم والإصلاح[10].

غياب الذات وحضور العولمة
يتساءل د. مشاري عبد الله النعيم: “أين هي الهوية المعمارية لهذه المدن، فعلى الرغم من أن تراثها المعماري عميق للغاية إلا أن الملمح الذي يقود لاكتشاف الهوية الخاصة بهذا التراث مفقودة”[11]، ولا يمكن إنكار أن بعضاً من آثار الماضي حاضرة إلا أنها تبدو كمن يقبع في زاوية الذاكرة أو ما يكاد يصل إلى النسيان.

إن الناظر لحال مكة المكرمة والمدينة المنورة الآن يتوقف مليًّا عند غياب المظاهر الروحية في مقابل تغوُّل الحداثة في أزقة وشوارع المدينتين، حيث تتعرضان -ومنذ وقت ليس بالقصير- إلى تحديات تغيير الوجه الثقافي بدعوى استيعاب الحجاج والزيادة السكانية المتزايدة في المدينة، لتختلف مكة في الوقت الحاضر بشكل كامل عن حالها قبل خمسين عامًا مثلاً، إذ محيت معظم المعالم العمرانية التاريخية التي ورثتها دول الخلفاء المتعاقبة في مواجهة طوفان التطوير العقاري المتباين أصلاً مع هوية المكان التاريخية ونمط التطوير المعولَم الذي يجري تنفيذه، فما أعجب أن تمحى معظم الآثار الموروثة عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، بل ما أعجب أن لا تكون لمكة والمدينة بصمتهما المعمارية (الإسلامية)، وأعجب من كل ذلك أن تكون أبنية كلٍّ منهما مستنسخة عن أبنية نيويورك أو لاس فيغاس، بل إن اللغة العربية تكاد تنمحي من اللافتات وأسماء العمارات الشاهقة، ليحل محلها أنتركونتننتال أو الميريديان  أو هيلتون، أو غيرها من الفنادق التي تتعالى على المسجد الحرام والمسجد النبوي.

ترفيه أم تطهير!

المسجد النبوي

يمكن وصف البناء المستمر الذي يغير وجه مدينتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه استغلال عمراني لفرض سيطرة نماذج “مدن الإسمنت” على القلب النابض لروح المدن الإسلامية.

كانت قوافل الحجاج تمضي شهورًا أو سنوات في سفر متواصل للوصول إلى أقدس الأماكن لأداء فريضة الحج ثم الإياب بالأجر والتطهر الروحي إلى بلادها، في رحلة مضنية جسميًّا مُغنيةٍ معنويًّا، يرى فيها الحاج تحقق التساوي بين الأغنياء والفقراء والأمراء والرعية، أما اليوم فإننا نرى “لمحو تاريخ مكة المعماري أثراً في الحج نفسه، إذ انقلب إلى رحلة سياحية ترفيهية، فلم يعد الحج تجربة روحية لا تتكرر، بل أصبح ممارسة اعتيادية -سنوية لكثيرين- يختلط فيها التسوق بممارسة الطقوس والشعائر الدينية، فمكة صورة مصغرة للعالم الإسلامي، وكل ما يحدث فيها يؤثر بعمقٍ على المسلمين في كل مكان، وها هي الآن تغرق في الحداثة، وقد أُفرغت من تاريخها، وأصبح الاستهلاك هو الهدف الأسمى من زيارتها”[12]، فلم يعد الحاج أو المعتمر يمتلك من خواطر رحلته شيئاً ذا بال مقارنةً بذكريات السكن في فندق الهيلتون، والغداء في ماكدونالدز، والتسوُّق في كارفور، مع الانبهار منقطع النظير ببرج الساعة الشهير.

فمتى تعود مكة للأرواح “قبلةً” والمدينة المنورة “منورةً”؟


الهوامش

[1] رحلتي إلى مكة، جول جرفيه كورتلمون، ترجمة: أحمد إيبش، دار الكتب الوطنية، أبو ظبي، ط1، 2013، ص69، 70.

[2] المصدر السابق، 70.

[3] المصدر السابق، 73، بتصرف.

[4] المصدر السابق، 97.

[5] تدوينة د. علي عبد الرؤوف المعنونة بـ “مكة المكرمة والوردة الحمراء والساعة العملاقة” عبر الرابط الآتي: http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/3/19/%D9%85%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%B1%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9

[6] المصدر السابق.

[7] من مكة إلى لاس فيغاس، كيف استطاعت القيم المادية التغول على الروحية، مقال منشور على هافنغتون بوست بالعربي، عبر الرابط الآتي: http://www.huffpostarabi.com/2017/09/01/story_n_17885042.html

[8] من مكة إلى لاس فيغاس: أطروحات في العمارة والقداسة،د. علي عبد الرؤوف، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط1، 2014، ص117.

[9] مقال د. مشاري عبد الله النعيم  نواة الهوية الثقافية والعمرانية على الرابط الآتي: http://www.alriyadh.com/1637000

[10] مقال: التوسعات التاريخية للحرم، موقع بوابة الحرمين، عبر الرابط الآتي: http://www.alharamain.gov.sa/index.cfm?do=cms.conarticle&contentid=5942&categoryid=1024

[11] مقال عبر الرابط الآتي: http://www.alriyadh.com/1637000

[12] مقال ضياء الدين سردر المنشور على شبكة (نون بوست): https://www.noonpost.org/content/3881

التعليقات

تعليقات