مشكلة علمنة العلم.. علم الاقتصاد مثالاً

image_print

من حصة علومٍ إلى فيزياء إلى فلسفة، ومن ثمَّ رياضيات وغيرها، يَمضي يوم الطالب العادي في المدرسة. يدخل مدرسٌ ويخرج آخر، ومع كل تبدُّل يغير التلميذ المتلقّي إطاراته الذهنية ويتهيأ بعقليات مختلفة متنوعة تتناسب مع استقبال كل علمٍ بما يتماشى مع حاجاته ومتطلباته.

فحصة الرياضيات محشوةٌ بالحسابات والعمليات الذهنية، بينما حصة الكيمياء تتعامل مع خصائص المواد وتفاعلاتها، كذلك فإن التاريخ يُقرأ كقصة تستدعي حفظ كثير من الأسماء والأعوام. ومن هذه الحصص هناك واحدةٌ للتربية الإسلامية، فللعلم الشرعي وقتٌ في النظام التعليمي كغيره من العلوم. وهل في ذلك كله من إشكال؟

إن الفصل بين المواد المدرسية وجعل العلم الشرعي واحداً منها إنما هو تابعٌ لتجزيء الإنسان في عالم اليوم، وقد أنتج هذا التعامل مع العلوم والنفوس تفككاً في نظرتنا للكون من حولنا، فصرنا نرى كل قضيةٍ في الإطار الذي تُطرح فيه فقط، وصار من الممكن الحديث عن أي علمٍ بشكلٍ منفصلٍ عن مدلولاته الأخلاقية، فمن السهل مثلاً أن يجد متدينٌ نفسه يخوض في حديثٍ عن التعاملات السياسيّة دون الالتفات إلى حلّها أو حرامها، أو أن تجد المسلمة نفسها تتأمل الجمال الفني في لوحة رسامٍ ما رغم ما قد تحويه من مخالفات شرعيةٍ بيّنة، إذ بات للعلم الشرعي وقته ومكانه الذي لا يجاوزه.

فالتفكك المقصود ليس تمايز العلوم عن بعضها، إنما هو فصل كل مجال دنيوي عن المرجعية الإلهية الحاكمة، بل وعن الأخلاق الإنسانية كذلك، إضافة إلى تحديد فهم العلم الواحد بلغة كتبه وخبرائه المتداولة، بحيث ينتج النظام الفكري والتعليمي المعاصر أفراداً لا ينظرون لأي معطىً بشكلٍ إجمالي، إنما بصفته مجرداً تحدده فرضيات مجاله وحدها.

وسأركز في هذا المقال على فصل الدين عن العلوم الاجتماعية الحديثة، متخذةً علم الاقتصاد مثالاً ليبرز الإشكال في هذا المفهوم ومنشؤه.

الاقتصاد يعيد تعريف الإنسان
“إن المستهلك يعيش ويتخذ قراراته في عالم من التصورات والانطباعات، بالتالي فإن قيمة المنتج المعروض الحقيقية معدومة إذا قورنت بأهمية ما قد يتوقعه المستهلك منه. من هنا كان واجباً عليك كبائع أن تفهم الميزات والحاجات التي يريدها الزبون وتقنعه بوجودها وقيمتها في منتجك”[1]، بهذه الكلمات افتُتح المقال المنشور في مجلة The Business Owner عام 2012 تحت عنوان “معايير شراء العملاء وإشاراتهم”.

المقال يتحدث عن فهم سلوك المستهلك لتحديد خطة تسويق فعالة ومربحة، لكن ما صدمني في تلك الكلمات هو البرود العجيب في التعاطي مع مفهوم خداع العميل، بل الدعوة إلى الكذب وتسويق المنتج بما قد لا يحويه.

بكل بساطة نسف الخبير الاقتصادي قيمة الصدق والأمانة في كلمات قليلة تعاطى فيها مع الإنسان على أنه مجرد مستهلك، فألغى عنه أي قيمةٍ أخرى عدا عن تلك التي يمكنه أن ينفع البائع بها إن اقتنع بمنتجه. لقد قالها الكاتب بوضوح: لا يهم ماهي بضاعتك، إنما ما يمكنك أن تقنع المستهلك أن بضاعتك تحويه. والأعجب من ذلك هو هذا المكر في ابتكار أساليب التسويق، فالخطة تبدأ بدراسة المستهلكين وفهم حاجياتهم، ثم تقوم بوصف منتجك بكل ما يبحثون عنه، ولا داعي لأن تتم مناقشة الأخلاق أو القيم في إطار ذلك كله، فهذه دراسة عن المال والنجاح مجردان عما سواهما!

إن علم الاقتصاد يعطي الإنسان تعريفاً خاصاً به، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري إن العَلمانية كفكرة في الغرب هي نزع القداسة عن العالم، أي أن تنظر للعالم وللإنسان فترى مادة[2]. وبالتالي فإن هذا الإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى يتحول في إطار العلم الاجتماعي الاقتصادي إلى مجرد مستهلك لا حقوق له إلا ما يقره قانون الدولة. فاهتمام البائع برضا الزبون أو غضبه متعلق بربحه المادي منه، كذلك فإن كلامه معه سواءً كان عن السلعة أو غيرها سيهدف ويتوجه إلى زيادة احتمالية ربحه منه. فحد التبادل الاقتصادي ليس الخير والشر المطلق الثابت، إنما ما يسمح به القانون، وما يمكن به التحايل عليه دون مساءلات.

والعجيب أن هذا الكلام ليس سرياً أو مموهاً، ولا مخصصاً للتداول في اجتماعات خاصة في الشركات الكبرى، إنما هو علمٌ متَّفق عليه يُدَرّس ويُنشر في الكتب و المجلات الأكاديمية. ففي سياق عملي على رسالة الماجستير قرأت بحثاً لخبير اقتصادي من فنلندا في الصين في محاولة لفهم معايير شراء الآباء الصينيين لحليب الأطفال. استوقفني تضمُّن البحث كلاماً متناهياً في تشييء المربين الصينيين بصفتهم مجرد زبائن جاهلين محتملين لتوسيع مجال التسويق وإدرار الربح المادي [3]. فهؤلاء الآباء القلقون على صحة أطفالهم ليسوا بنظر الخبراء الاقتصاديين إلا جيوباً مليئة يمكنها رفع الاقتصاد الفنلندي وفتح مجال جديد لتسويق منتجاته. مثال على ذلك العبارة التالية من البحث: “إن الآباء الصينيين يرون شراء حليب الأطفال استثماراً في مستقبل أبنائهم،.. ولأن معظم هؤلاء الآباء غير محترفين فإنهم بالتأكيد سيسارعون في تصديق نصائح الخبراء، كذلك فإن ردة فعلهم الغريزية ستكون ربط السعر الأعلى بالجودة الأفضل”.[3]

وفي إطار هذه المعطيات الاقتصادية تضيع أهمية إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم [متفق عليه]، وكل المسلم على المسلم حرام [رواه مسلم]، ويتحول النفع المادي إلى وثنٍ جديد يؤلهه الإنسان دون خالقه ودون ذاته حتى.[2] كتب الدكتور سامي العامري: لم يَوُل إلغاء المقدس المتجاوز للعالم إلى هدم مبدأ الوجود الموضوعي للمقدس فحسب؛ وإنما أفرز ميكانيكياً قداساتٍ جديدة من رحم الوجود المادي، وأهم هذه القداسات المنفعة المادية المحسوسة التي استحالت كياناً ذا قدسية كلية في حس الوجود العلماني، فهي القبلة التي تتجه إليها النفس بكليتها، وحولها يطوف الكائن العلماني في خشوعٍ وخضوعٍ كاملين.[4]

الاقتصاد في المجتمعات المسلمة
قد يبدو من الكلام عن علم الاقتصاد أن  إشكالاته محدودة بالمجتمعات الغربية اللادينية، لكن المؤسف أننا حين استوردنا العلوم من الغرب أخذناها دون نقد أو تمحيص، إنما بكل معطياتها وفرضياتها. فهذه العلوم التي نشأت في رحم قطيعة الفكر الغربي مع الدين في القرن الثامن والتاسع عشر لا بد وأن تحمل معها تلك القطيعة في مكنوناتها رغم مرور الوقت،[5] ويرى الشيخ أحمد السيد أن من الخطأ استيراد ودراسة هذه العلوم بشكل مطلق دون اعتبار السياق التاريخي الذي نشأت فيه، فهذا السياق حتى وإن اعتبر الدين، فهو يعده واحداً من العوامل المؤثرة في النشاطات الإنسانية فقط، لا المرجع أو المنطلق لتحديد الصواب من الخطأ في سلوكيات الأفراد والمجتمعات[5]. ولعل النظر إلى طريقة تدريس علم الاقتصاد في كليات البلاد المسلمة يوضح الإشكال. فهو يُدرَّس بأسلوب لا يختلف كثيراً عنه في بلاد الغرب. مجمل الصفوف عن الحساب والتجارة، حيث الفوائد والعقود المحرمة مفتوحة للنقاش، وقد يتم زج صف أخلاق خلالها يتعلم فيه الطالب مراعاة الأخلاقيات العامة المتفق عليها دولياً، بالتالي فإن الطالب سواء تعلم في كليات البلاد الإسلامية أو غيرها يتعبأ بعلوم لا أخلاقية، خالية من أي قيم. بينما ينبغي أن تنطلق العلوم من الوحي الإلهي وترجع إليه فما نص عليه الشرع وقبله تضمنته، وما منعه لم تناقشه ولم تورده كاحتمال أصلاً.

ورغم أن هذه الإشكالات قد لا تجول في بال كثير من المسلمين، إلا أن نتائجها واضحة في سلوكياتهم، ففي السوق مثلاً تظهر تعريفات لا علاقة للدين بها كتلك التي يطلقها الناس على التاجر أو الشاري “الشاطر”، أو “الحذق” الذي يمكنه تحصيل أكبر قدر من الربح على بضاعته أو تحصيل السلعة بأقل سعر ممكن. وفي ظل هذه الإطلاقات يتحول التاجر الأمين الذي يصدق وينصح للزبون فعلاً إلى بسيط أو ساذج، ويُعتبر الشاري الذي لا يساوم مغبوناً، رغم أنه افترض خيرية المقابل لا أكثر. كذلك نجد التركيز على الربح المادي يولد تجاهلاً لمنشأ البضائع المتوفرة في السوق، فلا يُسأل عن حكم شراء ملابس توفيرية مستوردة إن كان العاملون في تصنيعها أطفال لا يتقاضون ما يكفي لسد رمقهم، المهم فقط أننا نأخذ حاجتنا بأقل تكلفة. إضافة لذك فإن الإعلانات المنتشرة في بلاد المسلمين مليئة بالخداع والكذب وكشف العورات وغيرها من التجاوزات الشرعية، عدا عن كونها توهم الناس بأن حاجتهم لن تسد إلا بالمنتج الفلاني، وأن راحة بالهم لن توجد بدون حاجة معينة، ورغم ذلك كله فهي موجودة ومنتشرة في الشوارع والأسواق والمجلات ولا يكاد ينكرها أحد، فهي تعتبر أداة اقتصادية فعالة في تحريك عجلة الاقتصاد وزيادة ربح الشركات وعلى هذا لا ينظر لها بعين الشرع، إنما بعين الاقتصاد المختصة بها!

عواقب ونتائج
إن ناتج التفكك الذي أشير إليه ليس مجرد فصل الدين عن العلم، إنما فصل الدين عن تعاملات الإنسان وسلوكيات حياته كلها. وإن الذي نسير إليه بتخصيص مكان وزمان للشرع لن يقودنا إلى علم أخلاقي بتاتاً، فالأخلاق مجردةً عن الشرع الحاكم تفقد ثبوتها وعدلها، وتغدو نسبية بحسب الزمان والمكان والأفراد والجماعات.[6] إن الدين وشريعة الرحمن لم تنزّل لتُقرأ وتُحفظ ثم تُهمل في الحياة العملية، ولا تكون قائمة مهمات ينهيها المرء سريعاً ليرتاح من عبئها، إنما اختارها الله لتكون دستور حياة وقانوناً يسود المجتمعات. فالصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم عاشوا القرآن والسنة نهجاً لحياتهم، وتمثلوا الورع والتقوى في كل أفعالهم. روي أن أخت بشر الحافي جاءت إلى أحمد بن حنبل رحمه الله، وقالت: “إنا نغزل على سطوحنا بشعلة الملك، هل يجوز لنا الغزل في شعاعها، وقد وقع علينا المشاعل الظاهرية؟” فقال: “من أنت عافاك الله؟” قالت: “أخت بشر الحافي”، فبكى أحمد، وقال: “من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها” [7].

فالإنسان في القرآن عبدٌ لله أبداً أياً كان موقعه أو مهنته، وهو في حال ابتلاءٍ ليحسن العمل كما أمره مولاه سواء كنا في حال مبادلة تجارية أو معاهدة سياسية أو غيرها. فالتدين في جوهره قائم على فكرة الطاعة المطلقة والإيمان المطلق بكل ما يقوله الرب سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا كان التسليم لله ورسوله من أظهر بدهيات التدين [8]. وسبحان الله تبارك وتعالى القائل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.


المصادر:

[1] Costumer Purchase Criteria and Signaling, The Business Owner, May 2012, Business Insights: Global. http://bi.gale.com.ezp.slu.edu/global/article/GALE%7CA289835666/d18ae7c409a51623e13a6d1993eb04d9?u=sain44199

[2] د. عبد الوهاب المسيري، فصل الدين عن الدولة” تعريف خاطئ للعلمانية، مادة مرئية، 2018، https://www.youtube.com/watch?v=IW1lZQXwbNM

[3] Hu Chen, A Systematic Analysis of the Market Potential of Foreign Infant Powdered Milk Brands in China, Savonia University of Applied Sciences, December 2013, https://www.theseus.fi/bitstream/handle/10024/70210/thesis_CHEN%20HU.pdf;sequence=1

[4]  د. سامي العامري، العالمانية طاعون العصر كشف المصطلحات وفضح الدلالة، مركز تكوين، المملكة العربية السعودية، 2017

[5] أ. أحمد السيد، تاريخ الفكر الغربي الحديث | ٨ | الحداثة وما بعد الحداثة، مادة مرئية، 2019، https://www.youtube.com/watch?v=xSX3q9VZZkU&t=3643s

[6] د. طه عبد الرحمن، بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014

[7] الإمام ابن الجوزي، صفوة الصفوة، المكتبة العصرية، بيروت

[8] م. عبد الله بن صالح العجيري، ينبوع الغواية الفكرية، مجلة البيان، الرياض، 1434هـ

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد