مدخل حول قضية تشكُّل الوعي

image_print

تُشير كلمة الوعي في معهودِ الاستخدام العربي إلى معانٍ تدُلُّ على ضَمِّ الشيء؛ كالحِفْظِ والفَهْم والقَبُول والإدراك التَّام ونحو ذلك، بينما يُشير معناها في المعهود الفِكْري والثَّقافي إلى معانٍ متعدِّدة.

مصطلح الوعي بين اللغة وتطور الدلالة

حيث إنَّ كلمة الوعي قد أخذتْ حظَّها من التطَوُّر الدِّلالي، فأصبح لهذه الكلمة مدلولات مختلفة بحسب الحقل التي هي فيه، والمعنى الذي أُريده هنا، هو ما يُشير إليه أ.د. عبد الكريم بكَّار في كتابه: “تجديد الوعي” بقوله: “إنَّ الوعي محصِّلة عمليات ذهنية وشعورية مُعَقَّدة، فالتفكير وحده لا ينفرد بتشكيل الوعي، فهناك الحَدْسُ، والخيال، والأحاسيس، والمشاعر، والإرادة، والضَّمير، وهناك المبادئ والقيم ومرتكزات الفطرة، وحوادث الحياة، والنُّظُم الاجتماعية، والظُّروف التي تكتنف حياة المرء. وهذا الخليط الهائل من مكوِّنات الوعي يعمل على نحو مُعَقَّدٍ جدًا، ويُسْهمُ كل مكوِّنٍ بنسبة تختلف من شخصٍ إلى شخصٍ آخر، مما يجعل لكل شخصٍ نوعًا من الوعي يختلف عن وعي الآخرين”.

هذا النص يوضح لنا أن الوعي حال يشترك في تكوينه عدَّة مُكَوِّنات متضافرة، كما أنَّه هو المرتكز الأساسي الذي يحكم تصرُّفات الإنسان التفكيرية، والسلوكيّة، والتعامليّة، وإذا ما أردنا أن نُقَرِّبَ مدلول الوعي لأذهاننا، علينا أن نبحث وراء ما نُطْلِقُ عليه وعيًا، فإنَّنا في كثيرٍ من الأحيان قد نَصِفُ بعض الأشخاص بأنَّهم “واعون”، ونقصد بذلك: سلامة إدراكهم، وسداد فهمهم، وجودة نباهتهم، التي جعلتهم في حالة من اليقظة والتَّبَصُّر تُمَكِّنهم من إدراك الوقائع والحقائق والمستجدات والمؤَثِّرات، والتعامل معها بشكل أكثر كفاءة.

إننا في الحقيقة لا نتعامل مع الوعي من حيث هو هو، أي: لا نُطْلِق وَصْفَ الوعي ونُريد به مدح مُكَوِّنَاته، ومدى جودة تأثير كُل مُكوِّن في إنضاج وعي مَن وصفناه بالوعي، وإنَّما نتعامل معه من حيث إفرازاته وما يدُلُّ عليه من مؤشراتٍ ملحوظة.

 

عبد الكريم بكَّار

من الطفولة إلى الرشد.. رحلة الوعي

إنَّ رحلة الوعي تبدأ منذ مراحل مُبِكِّرة من حياتنا، بل تبدأ قبل أن نُوْجَد في هذه الحياة، وذلك إذا ما اعتبرنا مدى صلابة تأثير البيئة في تشَكُّل وعينا وإنضاجه، فإنَّه من الملاحظ تمامًا أنَّ وعي الوالدين -ومَن يقوم مقامهما من الـمُرَبِّين-، والبيئة التي يُوجِدَانها لأبنائهما، وما يُحيط بتلك البيئة المُهيَّأة، والنُّظُم الاجتماعية التي تحكم عادةً، والعقل المجتمعي السائد؛ هي من أوائل المكوِّنات التي تُحَدِّد الخطوط الأولى والعريضة لسَيْر وعينا، شيئًا فشيئًا يدخل وعينا إلى مراحل متقَدِّمةٍ من التعقيد والتركيب، حيث تبدأ هذه النَّفس بما أودع الله تعالى فيها من خُلُقٍ وطِبَاع بالتفاعل مع الواقع الخارجي، فتنشَأ لدينا الإرادة والشَّهوة (الرَّغبة)، والعِبْرَة والخبرة، وطُرُق العيش والكَسْب، وأمور متعدِّدة تعود على تكوين وعينا بالأثر الكبير الملموس، وقد يكون تأثير كل مُكَوِّنٍ من هذه المكوِّنات مخْتَلِفًا بين شخص وآخر، وفَرْقُ نِسَبِ التأثير له ارتباطٌ بأسباب أخرى، إلا أنَّ المقصود: أنَّ الفَرْقَ في تأثير هذه المكوِّنات على النَّاس -بل وجود بعضها من عدمها- هو ما يُوْجِدُ اختلافهم الظاهر في درجات الوعي والإدراك، ومدى امتياز بعضهم عن بعض في جودة التفكير، وسلامة الفَهم، وتماسُكِ المنطْقِ، ومعيارية المحاكمة العقلية، وحُسْنِ رَدَّاتِ الفعل..

وهذا يعني أنَّه من الأمور اللَّازمِ إدراكها: ضرورة توفير ما يستطيع الإنسان توفيره من أسباب الوعي والإدراك، بِدْءًا بنفسه، ثُمَّ لأهله، ثُمَّ لمُجتمعه، ليُحَقِّق له وعيه هذا: انكشاف الحقيقة والصواب، ويُبْعِده عن الزَّيْفِ والعِماية والخِداع، فيغدو تفكيره رشيدًا، وسُلوكه مُتَّزِنًا، وفهمه لما حوله سديدًا، وردود أفعاله حكيمةً منضبطة.

وعينا في زمن العولمة

ونحن إذا تساءَلنا اليوم، ما هي الأمور التي تُشَكِّل وعينا وتؤثِّرُ فيه؟ وهذا في الحقيقة سؤال في غاية الأهمية، لا سيَّما ونحن في عصر العولمة، العصر الذي تماهت فيه هوية أُمَّة الإسلام بهويات الأُمم الأخرى، وانتقلت إلينا كثيرٌ من الأسباب التي أثَّرت في تشكيل وعينا كما ينبغي، فالمسلم -بلا شك- يمتلك أكبر مُقوِّمَات الوعي، وهو: الوعي الإيماني الذي يُشكِّل مرتكز الوعي وأساسه، والذي يُبْنَى عليه غيره، وليس حديثنا هنا عن مُقوِّمَات الوعي المسلم، فهذه القضية حقُّها أن تُفْرَد بالكتابة، لكن نُشير إشارة تُصَحِّحُ قولنا: بأنَّ المسلم يمتلك أكبر مُقوِّمَات الوعي، لننتقل إلى المقصود من هذا المقال.

فنقول: إنَّنا إذا تأمَّلنا فيما يبحَثُ عنه المفَكِّرون والفلاسفة، فإنَّنا سنجد أنَّهم يبحثون عن الحقائق وراء مجموعة من الأسئلة المركزية، والتي يُعتبر إدراك جوابها مُلِحًّا وضروريًّا للغاية، فمن أهم تلك الأسئلة: الأسئلة الوجودية، وهي التي تتعلَّق بالسؤال حول حقيقة الوجود (المبدأ والمصير)، وحقيقة الهوية (من أنا)؟، وحقيقة الغاية (لماذا نحن هنا)؟، وغيرها من الأسئلة الضرورية التي يمتلكُ المسلم إجابتها الإجابة الوافية الشافية فيما أنزله الله في وحيه.

إن حقيقة الوجود (الكون) قائمة على أنَّه مخلوق مكانًا وزمانًا، وأنَّ له خالقًا خَلَقَه، ولم يَخْلُقْه الله تعالى لا عبثًا ولا لهوًا ولا لعبًا، بل خَلَقَه لغاية وحكمة بالغة، وأنَّنا إليه راجعون، وأنَّ وراء هذه الحياة حياة أخرى.

وحقيقة الهوية: أنَّنا بشرٌ مخلوقون، عابدون لله تعالى ومكَلَّفون من قِبله، خلقَنَا فأحسن خَلْقَنا، وقدَّر مقاديرنا، وكتب آجالنا وأرزاقنا، ونحن في الختام إليه صائرون.

وحقيقة الغاية: أنَّنا خُلِقنا للعبادة والابتلاء (الاختبار).

فهذه الحقائق الضرورية مُبَيَّنة للمسلم في وحي ربِّه غاية البيان، إلى جانب حقائق أخرى لا تقِلُّ عنها أهمية، وهذا يُؤكِّد أنَّ لدى المسلم وعيٌ إيمانيٌّ يُوصله إلى الحقائق في صُلْبِ القضايا الملحَّة والتي يَضِلُّ فيها كثيرٌ من النَّاس، سواءً كانوا من المتَّبعين للشرائع السابقة كاليهود والنَّصَارى فإنَّ ما وقع في دينهم من التبديل والتحريف أفقدهم البلوغ للحقائق الإيمانية بالقَدْر الذي عند المسلمين، فقلَّ وعيهم الإيماني بتلك الحقائق، فاليهود قومٌ غَضِبَ الله عليهم، والنَّصَارى قومٌ ضلّوا بعد إذ جاءهم العلم والوحي، أو كانوا من المتنَكِّرين للدِّين كالملاحدة ونحوهم، فهؤلاء جميعًا فاقدون لهداية الله وإرشاده، وكان الحظُّ الأوفر في تمام الحقائق إنَّما هو للمسلمين.

من هنا فإننا نقول: إنَّ المسلمَ يمتلكُ أكبر مُقوِّمَات الوعي المتكامل؛ لأنَّ الوعي الإيماني هو الأصل الذي يكشف للإنسان الحقائق الوجودية، فيَبْنِي عليها كل شؤون وعيه، ويُفَرِّعها على ذلك الأصل، الذي هو في ذات الوقت: وعيٌ مستقل ومعيار حاكم، وحينها تنكشف كثيرٌ من الأمور الحياتية الجزئية، ويصل المسلم فيها إلى تمام الوعي والرَّشاد، لينعم بحياة الحقيقة في هذه الدُّنيا.

والمقصود: أنَّ الأصل الذي ينبغي أن يُشَكِّل وعينا لابُدَّ وأن يستند فيه المسلم إلى الوحي، بحيث يكون الوعي الإيماني هو أحد مكوِّنات تشكُّل وعي المسلم الأساسية، فإنَّه الكاشف له عن تفاصيل شأنه حقيقةً، وما يحتاج إليه في هذه الحياة: اعتقادًا وإيمانًا، فِكْرًا ورشَادًا، سلوكًا وتعاملًا، معيارًا وتحاكمًا، وأنَّه في الحال الذي نبتعد فيه عن الوحي أو (الوعي الإيماني) في بناء وعينا وتشكُّله سنبتعد بقَدْر ذاك البُعد -أو أكثر- عن أن يكون وعينا مُحَصِّلًا للحقائق بصورتها الهادية إلى الحق والصواب.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد