ما هي عوامل النهضة المنشودة؟

image_print

يدعو الإسلام إلى إقامة مجتمع فاضل تسوده الأخلاق الحسنة والمعاملات الطيبة، ويسهم المؤمن في بنائه بما يتصف به من أخلاق حميدة، وبما يؤثره مع غيره في نفوس أبنائه وأسرته، وذلك نابع من وعي الإنسان المؤمن بدوره في الحياة.

في حالة المسلمين المعاصرة، فإن المسلم الواعي مسكونٌ بهمّ النهوض الحضاريّ بمجتمعه وأمته من جديد، وتوحيد صفوف الناس من حوله للعمل بمبادئ الإسلام والاصطفاف حول شريعته، فالمجتمع عبارة عن تجمّع بشري يمتلك أفكاره ومبادئه الخاصة، وله صفاته وشخصيته التي تُمثله وتُحدد معالمه، وقد نَجد مجتمعات كثيرة زاخرة بأفرادها والمنتسبين إليها، إلا أنها فقدت الشخصية والتعاليم التي كانت سببًا في تطوره، وهذا عائد لانحلال أفكاره في ثقافة المجتمعات الغالبة.

الانفصال عن الهوية الإسلامية

هذا بكل اختصار ما نعيشه اليوم في مواجهة زحف الثقافة الغربية علينا وتقليدنا الأعمى لها، فقد أصبح الواحد منا يعيش في انفصال بين هويته الإسلامية التي يؤمن بها وبين نمط العيش الغربي الوافد عليه، بين نظام الحياة القائم المتصف بالعلمانية ونبذ الدين من مختلف القوانين المنظمة لحياة الأفراد، وبين تشريعات الدين الرباني، وهنا يَصْدق الوصف الإلهي الجلي على واقعنا حين يقول الله عز وجل: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

ولو أجلنا النظر في هذا المثل الكريم لوجدنا أطرافًا منه في حياتنا، فالمبادئ والقيم الوافدة علينا المزيّنة بعناوين الحرية وقبول الآخر، مشاكسة للقيم الإسلامية التي تبيّن الحق والباطل والحلال والحرام وما يتوافق مع الفطرة ويرفضها.

كثير من المسلمين يجدون أنفسهم مشتتين بين مختلف الدعوات والقوانين الغربية، لا يدرون ماذا يأخذون منها وماذا يتركون، ضائعون بين نمط العيش الذي يتحوّل يومًا بعد يوم إلى باطل محضٍ، وفساد مكين في مختلف القطاعات، فغدا الحرام بشتى صوره في حياتنا حرية شخصية يجب احترامها، بل وعدم نقد تعلق الآخر واتصافه بها، وكأن الانتماء للإسلام بات صورة شكلية لا أثر عملي له في واقع الحياة.

يعلم الفرد المسلم في داخله حرمة الكثير من الكبائر كالربا والزنا والخمر والميسر والغش بمختلف أشكاله كالرشوة والتزوير والسرقة بمختلف أنواعها والخيانة والظلم في الأعراض والأموال والدماء إلخ.. إلا أن كثيرًا من المسلمين رغم ذلك يُقْبلون على مختلف هذه الحرمات مدفوعين بانبهارهم بالحداثة والحياة العصرية وتقليد المجتمعات الغربية وثقافتها الغالبة، ويبحثون لها عن التفاسير والتعليلات مُحاولين إقناع غيرهم بها.

وأما المثل الثاني في نفس الآية فهو يُمثل الفرد المخلص لربه والمُتمسك بمبادئ دينه فله رُؤية واضحة في الحياة وله مصدر واحد يستمد منه قوانين الحياة فلا يزيغ عنه ويُصبح كل تركيزه في أداء رسالته التي وُكل بها ويَشعر في داخله بسلام وراحة لوضوح معالم الطريق الذي يَسلكه، وبمثل هؤلاء الأفراد يستطيع المجتمع الحفاظ على كيانه وشخصيته من الطمس والضياع، ولو هلك جيل من أجيال هذا المجتمع فإنه سيُحافظ على مبادئه ومعالمه وسيحافظ على رسالته ودوره، وسيكون الجيل الجديد ملتزمًا بتعاليم الآباء والأجداد متمسكًا بثوابته.

وسائل النهضة

أشرنا في مقالٍ سابق إلى عاملي القدوة والقرآن في بناء المجتمع، وهنا نؤكد على أن التكامل مع هذين العاملين يبتدئ بالوسائل المناسبة لذلك، بدءًا من الإعلام، الذي يزيد قوة الكلمة وتأثيرها، بل إنه صار الوسيلة المُتاحة الأهم للسيطرة على العقول وصياغة أفكارها، فما إن يجلس أحد ما أمام التلفاز إلا وتوجّه له الرسائل إما بهدف تفريغه من القناعات المسبقة أو تعزيز بعضها أو إنشاء قناعات أخرى جديدة.

جميعنا يعلم أن الإعلام سلاح ذو حدّيْن، فعندما يستغله أهل الباطل فإنهم سيَسعون لنشر أفكارهم داخل المُجتمع وفرض نفوذهم مُحاولين طمس هوية المُجتمع وتغييرها وفق أهوائهم، وإشغال أفراده بتوافه الأمور وتغييبهم عن أهم قضاياهم ومشاكلهم ومنعهم من النهوض أو مُحاولة كسر قيود الجمود والجهل والتخلف.

وفي ظل انكماش أهل الحق وانعزالهم في مزاحمة أهل الباطل إعلاميا، فإنه لن يكون لهم تأثير في واقع الحياة، ولن يستطيعوا نشر الوعي واليقظة داخل المُجتمع، ولن يقدروا على تقويم سلوك الأفراد وتغييرها، فنحن نحتاج اليوم إلى صناعة الكلمة القوية والمؤثرة على أن تكون مُستمدة من روح القرآن ومبادئه، لإظهار الحق ونشر ثقافة القرآن داخل المجتمع، ومن أجل ذلك يجب توحيد الجهود المادية والعلمية حتى نتمكّن من صناعة مادة علميّة مُؤثّرة تجذب المُستمع والمشاهد لها وتُغيّر من نفسه.

و من الوسائل المُهمة أيضًا مُحاولة إقامة مجالس قرآنية داخل كل بيت، فعلى الأب والأم تأسيس حلقات تعليمية لدراسة القرآن وتدبّره، وحتى لو ظنّا أنهما بعيدين عن تعاليمه وجاهلين بعلومه فيُمكنهما اعتماد أحد كُتب التفسير المُتاحة والإقبال على كتاب الله مع أبنائهم والسعي لتلاوة الآيات آية آية، ومُحاولة فهم المُراد منها وكيفية تطبيقها، وفي هذا حفظ للأسرة وتوطيد للعلاقات داخلها وضمان تربية قرآنية سليمة للأبناء وطَبعهم على قيمه وأخلاقياته، ولا ننسى أيضًا أهمّيّة المجالس القرآنية المنظّمة داخل المساجد أو خارجها مع الحرص على فهم الآيات التي تُتلى فليس الهدف من القرآن حفظه بلا فهم ودراية وعمل والتزام بمبادئه أو تبيين المنهج العملي لمُختلف أحكامه.

ومن الوسائل أيضًا الحرص على تكوين المُسلم القائد والمؤثر من خلال الاستعانة بخبراء ومُختصين في مجال علم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم المُهتمة بتكوين شخصية الإنسان وتربيته على المبادئ المُثلى، ويُمكن للجمعيات الناشطة داخل المجتمع التكثيف من الدورات المجانية في هذا المجال، وفتحها للعموم وإيصالها للجميع، بهدف بناء الإنسان المُسلم القادر على تحمل المسؤوليات والمُبادر بالتغيير والمُستعد لخدمة رسالته في الحياة.

المجتمع ودوره في النهضة

إذا ما توفرت عوامل القدوة وتدبر القرآن والوسيلة الملائمة، فإننا بحاجة إلى عامل أخير، إنه العلاقات الاجتماعية، فقيمة كل مُجتمع مُرتبطة بأفكاره ومبادئه وأهدافه التي يحملُها ويُؤمن بها، فما نعيشه نحن اليوم هو توفر الفكرة والمبادئ المُتمثلة في الإسلام وشريعته، ولكن هل يُوجد في مُجتمعاتنا من يأخذها بقوة ويُقيمها في واقع الحياة؟ أم أننا أصبحنا مُجتمعًا يعيش على هامش الحياة يأخذ قيمه وتصوراته في الحياة من مصادر مُتناقضة؟

إن المعادلة الناجحة لنا هي الإسلام وشريعته مع وجود فئة مؤمنة به وعاملة بأركانه ومٌلتزمة به كمنهج للحياة مع إرادة الأفراد في النهوض وتطوير مُجتمعهم مع الانسجام والتوافق والتعاون بينهم والاستعداد لبذل أقصى الجهد من أجل تحقيق هذه الغاية، وأن تكون روح الأخوة جامعة بينهم لحمل أمانة الرسالة وتحقيق مبادئها، وهذا ما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام عند بناء المجتمع بالمدينة بالمؤاخاة بين الأنصار والمُهاجرين فكانت علاقتهم متماسكة متينة، وبالتالي كان المجتمع على قلب رجل واحد من ناحية، وذو تصور واضح ومنهج واحد في الحياة من ناحية أخرى.

من جملة مُشكلاتنا اليوم انتشار الاحتقان الاجتماعي النابع عن التعصب، فكل فريق يُريد فرض رأيه على الآخر، وكلٌّ يرى نفسه الأحق بالاتباع وعلى الآخرين السماع له وتنفيذ أمره، وهذا المُجتمع المنقسم لن يكون قادرًا على تغيير مجرى التاريخ وصناعة مُستقبله، ونحن بأمس الحاجة اليوم لأن نعيش مفهوم الأخوة الإسلامية، وأن يكون هدفنا واحدًا نتشارك فيه جميعًا، وأن نكون مُنسجمين ساعين للتطور والعمل والتغيير وعلينا نبذ الدعاوي العصبية العمياء القائمة على الجنس والعرق والانتماءات الحزبية والطبقية، وألّا نقع في فخاخ أعداء الأمة الساعية لتفريقنا وتشتيتنا وإدخالنا في صراعات لا تزيدنا إلا هلاكًا وتخلّفًا، فنحن مُجتمع مُسلم ولن ننهض من جديد إلا بالعودة إلى الإسلام كمنهج كامل للحياة.

ولا ننسى أيضًا كيد أعداء الأمة الناهبين لثرواتنا والذين يتمنون استمرار حالة الركود والجمود عندنا، فهم يتبعون سياسة “فرق تسد”، فأعداؤنا يدرسون مُجتمعاتنا ويضعون الخطط اللازمة لتفتيتها، وأما نحن فما زلنا عاجزين عن التحرك للحفاظ على وحدتنا أو الدفاع عن المجتمع في وجه الانقسام والانحلال على الأقل، كما أننا مُطالبون بدراسة مُجتمعنا بطريقة علمية ووضع الاستراتيجيات المُناسبة للنهوض به وإخراجه من سجن التخلّف الذي يُلاحقنا منذ قرون.

خلاصة القول

وما نستخلصه هنا أن المجتمع يَحتوى في داخله على صفاته الذاتية التي يُمثلها أفراده الذين يقومون بتحديد شخصيته، ولا يكون ميلاد مجتمع ما إلا تلبية لنداء الفكرة التي يؤمن بها أفراده الذين اجتمعوا من أجل تحقيقها وجعلوا علة وجود مجتمعهم وغايته واستمراره قائمة على القيم والمبادئ التي اجتمعوا حولها وأنشأوا من أجلها مجتمعهم، وعندما يفقد الأفراد داخل المجتمع هذه المبادئ وتتشتت الأفكار والمفاهيم فإنهم سيدخلون مرحلة الجمود والخمول، وهذا إعلان واضح بزوال هذا المجتمع وانحلاله.

وإذا حاول أفراد المجتمع النهوض من جديد والدخول في حركة الحضارة وصناعة تاريخهم فعليهم الأخذ بعلة البقاء المُتمثلة في تحدي الواقع وتغييره ومواجهة مختلف الصعوبات المُنتظرة وتَحمّل المسؤولية وعدم الفرار منها لإعادة بناء شخصية مجتمعهم وترسيخ مبادئه، فلو كانت رغبة هذا التحدي ذات فاعلية قوية داخل نفوس الأفراد فستكون استجابتهم للتغيير والعمل والنهوض إيجابية، وفي المقابل إذا كانت القُوى التحفيزية ذات تأثير ضعيف داخل نفوس الأفراد فلن يكون هنالك تأثير على واقعهم.

Author

  • حمزة بلقروية

    خريج الكلية الوطنية للهندسة تخصص الهندسة الميكانيكية، ومدرس لمادة القرآن الكريم في المدرسة القرآنية بالقيروان، ومهتم بالفكر الإسلامي وقضاياه المعاصرة.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد