مارينا تبسم.. حين تحوّل المسجد إلى متحف

image_print

“لا تحتاج المساجد إلى مآذن”، هكذا تقول المعمارية مارينا تبسم التي حصلت قبل مدة على جائزة الآغا خان للعمارة، وبرأيها فإن المسجد الذي لا يحتوي في الواقع على مئذنة ولا قبة تقليدية، يقدّم تفسيرًا معاصرًا للمساحة الدينية ويتخلى عن جميع رموز التعريف التقليدية.

لا أنوي في هذا المقال التوسع في الاستنكار على عدم وجود المئذنة أو القباب فقد تحدثنا عنها في مقال “جامع سانجقلار، هل تحقق عمارته طفرة روحانيةوبالرغم من أنها ليست وحيًا من الله أو أمرًا ثابتًا في الدين حقًّا إلا أنّها جزءٌ من الهوية الجمعيّة للمسلمين على مرّ تاريخهم، وعلى أي حال فإن هذا المقال بصدد مناقشة إشكالية التركيز على الضوء والظلال في مسجد بيت الرؤوف وتحوّله بالتالي إلى شيء أشبه بالمتحف من كونه مسجدًا لعبادة الله.

لأبتدئ بسؤال: هل هو مسجد حقاً؟ وهل يستوفي الشروط التي تؤهله ليُسمى مسجداً، صالحاً لصلاة المسلمين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله؟

بالرغم من القبة والمئذنة غير موجودتان في المسجد إلا أن هذا ليس الانتقاد الأساس، إنما السؤال: هل الصلاة موجهة لله تعالى وحده في هذا المبنى؟

تبيّن لنا عمارة هذا المبنى تشابهًا كبيرًا مع نمط عمارة كثير من معابد أخرى معاصرة، حيث تتفق هذه المعابد في استلهام نمط تصميم خاص.

لننظر لمبنى ومعبد كنيسة الموحدة في روتشستر للمعماري لويس كان، والذي أيضاً كان يركز على الضوء والظل في عمارته؟ ما نقاط التشابه وإلى ماذا تشير؟ لماذا المعمارية مارينا تبسم تستلهم الكثير من أنماط المعماري لويس كان، من مختلف تصاميمه كما سنرى..

أوجه التشابه في النمط بين تصاميم المعمارية مارينا تبسم والمعماري لويس كان

بالحديث عن هذه الكنيسة والمعبد، يقول لويس كان -مستخدمًا كنيسة الموحدين الأولى في روتشستر مثالًا- “إن المبنى العظيم -في رأيي- يجب أن يبدأ بما لا يمكن قياسه، ويجب أن يمر بوسائل قابلة للقياس عند تصميمه وفي النهاية يجب أن يكون غير قابل للقياس، ما لا يقاس هو الروح النفسية”

أشار لويس كان إلى أن “الشيء الأساسي، في الكنيسة هي الطقوس الشخصية، وأنها ليست طقوسًا محددة، ومن هذا تحصل على الشكل” (1).

بناء على هذا فقد منحت كنيسة الموحدين الأولى عند اكتمال تصميمها “هالة غير قابلة للقياس” من خلال الديكورات الداخلية المضاءة بنور الشمس مما أدى إلى مزيّة خاصة أخرى، كما يقول أحد النقاد المعماريين الذي وصف مبنى الكنيسة بالآتي:

“الضوء الذي يتسرب في التفكير من خلال هذه المكعبات التي تضرب بالجدران وتضيء بشكل منتشر يخلق منطقة كبيرة، تثير هذه المنطقة الشعور بالاحتواء المطلق بطريقة ما، فالضوء يجعل الغرفة تبدو وكأن كل شيء غامض وبعيد ومساميٌّ ومنفصل يفتقرُ إلى الإضاءة المباشرة، بدلاً من ذلك هناك ضوء منتشر نشأ من الزوايا والأشكال المترابطة.” (2).

سنركز على (المسامات) فهي كلمة مهمة جدا في هذا النقد، لنرى هل هي موجودة في تصميم مسجد بيت الرؤوف؟  ما المعنى منها وإلى ماذا تشير؟

كما أن استلهام تصميم بيت الرؤوف لم يكن مأخوذاً فقط من هذه الكنيسة، بل أيضاً من تصاميم أخرى للمعماري لويس كان، سنرى ترجمتها وتجلياتها كما جسّدتها المعمارية مارينا تبسم.

في الاقتباس التالي، نجد معلومات عن خلفية لويس كان:

“في عام 1967، تلقى لويس كان عرضًا لتصميم كنيس يهودي في القدس، وكان الغرض من الشكل هو إثارة مشاعر الرهبة التي تتناسب مع وظيفة المبنى، التي كان لها تأثيرات عميقة عليه، كتوجهه لتجنّب الزخرفة ودمج المربّعات والدوائر والأشكال الهندسية البسيطة الأخرى التي تم تحقيقها في الخرسانة اللامعة، أعمال لويس كان وصفها كثيرون بأنها روحية أو صوفية.” (3)

اقترح لويس كان هيكلًا داخل الهيكل، بحيث تكون الأبراج حاويةً تنغرس داخل الأعمدة، شأنُها شأن المسامّ والتجاويف لتأكيد التداخل بين ما هو داخل المبنى وما هو خارجه وفقًا لستيفن ك.بيترسون، وتُعرف ظاهرة مساحات الجيب داخل البناء أو الهيكل باسم Poche Architectural. وقد عُرِض نموذج لويس كان في متحف إسرائيل وبقي التصميم على الورق، (4) إلا أن هذه الظاهرة من النسيج والتداخل في التصميم سنذكرها آخر هذا المقال.

أما في مسجد بيت الرؤوف، نرى أن الضوء يلعب دورًا رئيسيًا في بثّ الجو الروحي، بشكل مرقط فوق قاعة الصلاة ومن خلال شق عمودي في الحائط يشير إلى اتجاه القبلة للصلاة. كما يتحرّك الضوء والريح خلال النهار بأشكال مختلفة بهدف جعل المبنى أشبه بالكائن الحي الذي يتنفس ويستجيب للتغيّرات الخارجية.

دمج المربع والدائرة، هل ترمز للروحانية العقلانية؟

التوافق بين نمط مسجد بيت الرؤوف وفلسفة المعماري تاداو أندو
عند دراسة فلسفة المعماري الياباني تاداو أندو في تصميم مساحة التأمل في فرنسا، نرى أن التصميم “مساحة مجردة توحي بالوحدة والحرية الروحية، وأن الطبيعة لها دور رئيسي في هذا العمل. لقد استخدم أندو العمارة وسيطًا بين البيئة الطبيعية والإنسان، بهدف إيجاد اللقاء المباشر بينهما، فالضوء والماء والهواء ضروريان لأفكار تاداو أندو، وذلك لغاية استحضار العالم الطبيعي.” إذ إن منطقة التأمل هذه ستغدو رمزًا للسلام ومكانًا يمكن للزوار الشعور فيه بالوحدة والاندماج مع العالم. (5)

صور مختلفة لمساحة التأمل في فرنسا للمعماري تاداو أندو

صور مختلفة لمساحة التأمل في فرنسا للمعماري تاداو أندو

أما بالنسبة للضوء، فنرى أنه يمكن عبور مساحة التأمل دون الحاجة إلى فتح أي أبواب؛ حيث تؤكد العتبة الفاصلة بين الضوء والظل على مرورٍ رمزي في هندسة وفلسفة تاداو أندو، وهذا الاستخدام الخفي للضوء مهم جداً بالنسبة لتاداو أندو، فهو يرتبط بالروحانية المواتية لمكان التأمل. (6)

هذه النقاط بمجملها نراها جليّةً واضحةً في تصميم مسجد بيت الرؤوف، ويظهر ذلك في هذا الفيديو:

التصميم المسامي المجوف (التداخل بين الداخل والخارج) في مسجد بيت الرؤوف
نرى في المبنى الكثير من التلاعب بين الأضداد (النور والظل، الداخل والخارج، الفراغ والكتلة)… وكأن المبنى مُجوَّف ويجعل الوجود مثل النسيج… فلا يعرف المصلي أهو في الداخل أم الخارج، أم أنه في العتمة أم النور أم الظل.. ومن هنا نحتاج أن نعرف هل يوجد أبعاد وآثار لهذا التصميم؟

البعد الباطني المحتمل لفكرة التصميم المسامي والنسيج بين التضاد
في فلسفات الباطنيين أفكار كثيرة عن أهمية التضاد حيث يصبح الداخل هو الخارج والجزئي هو الكلي والكلي يصبح الجزئي وهكذا.. ويمثّلون للتضاد بمرحلة البرزخ، ويعتبرون منطقة البرزخ هي المكان الذي فيه العلم اللدني، من خلال الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم وتفسير معناها باطنياً، كما في قوله تعالى: (مَرَجَ البَحرَينِ يَلتقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) [الرحمن، 19،20]. وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) [الكهف، 60]، حتى إن ابن عربي يقول: إن “علم الوجود ضياؤه وظلامه نورٌ يمازجه كيان ظلام”.

وهنا ما زلنا نتساءل، هل يوجد توافق؟

ختاماً
في المبنى المدعو (مسجد بيت الرؤوف) الذي أصبح أقرب للمتحف من المسجد، يدخل ساحة الصلاة الرجال والنساء دون الحاجة للتستر اللائق بالمسجد، ودون وجود مكان مخصص للنساء دون الرجال. كل هذا نضعه جانباً ونسأل أنفسنا، لمن الصلاة في هذا المبنى؟ الآن لقد وصلنا الى معضلة، مَن سيُعبَد داخل هذا المسجد؟ هل نعبد النور أم التضاد من نور وظل؟ هل نتقرب للبرزخ؟ أم هل ستُعبَد الشمس؟ أم ربما نخلو ونتأمل بأنفسنا؟

مصلون في مسجد بيت الرؤوف

مصلون في مسجد بيت الرؤوف

المعمارية نفسها تساعدنا وتختصر لنا الطريق، ففي مقابلة معها عام 2018 تقول:

“يجلب هذا المبنى شعورًا هائلًا بالروحانية، هذا للتواصل مع كل ما تريد الاتصال به. التواصل مع الله.. والتواصل مع الطبيعة، والتواصل مع الشمس، كيفما تريد أن تفهمها، المهم أن هذا الاتصال موجود”. (8)

وهنا نقول: شكرا جزيلا لك يا أستاذتنا المعمارية، على هذا التوضيح.


الهوامش:

  1. https://cutt.ly/sh6otTI
  2. المرجع السابق نفسه
  3. https://cutt.ly/mh6osL9
  4. https://cutt.ly/lh6ojPy
  5. https://cutt.ly/dh6ocsX
  6. https://cutt.ly/zh6omG6
  7. https://cutt.ly/ah6oRUN
  8. https://cutt.ly/Yh6oOyq

مصادر الصور:

https://cutt.ly/Mh6atH5

https://cutt.ly/7h6aaKD

https://cutt.ly/bh6ahb4

https://cutt.ly/Ih6o52F

https://cutt.ly/Ch6pyhe

https://cutt.ly/ch6paQW

https://cutt.ly/jh6ph8D

https://cutt.ly/sh6aPBb

 

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد