ماذا يكشف حدث السوبر بول في الولايات المتحدة من نمط الحياة الأمريكية؟
تُقام في الأحد الأول من كل شهر فبراير في الولايات المتحدة الأمريكية لعبة السوبر بول Super Bowl، وهي مباراة البطولة في دوري كرة القدم الأمريكية الوطني (NFL).
المباراة التي صادفت الأحد الفائت يحضرها عادةً ما يزيد على 100 مليون متابع أمريكي[1] وبذلك تعتبر الحدث التلفزيوني الأكثر مشاهدةً في البلاد لا لمجرد شعبية اللعبة، لكن أيضاً انتظاراً للعرض “الترفيهي” الذي يقام في منتصفها، وللإعلانات التي تظهر في أوقات الاستراحات والتي تكون الأعلى ثمناً وتكلفةً وفعاليةً في العام.
ولأنّ لهذا الحدث أهمية خاصة وشعبية كبيرة في الولايات المتحدة، وجدت أن أخصص هذا المقال للتعريف ببعض الإحصاءات والظواهر المتعلقة به وما تعنيه وتبرزه للناظر عن نمط الحياة الأمريكي والغربي بشكل عام.
استهلاك مرضي
ترتبط متابعة المباراة النهائية عند الأمريكيين بالاجتماع مع الأصدقاء وتناول كم كبير من الأطعمة والخمور أثناء متابعة المباراة وتشجيع أحد الفريقين، وقد أُجريت الكثير من الإحصاءات لرصد استهلاك الأغذية في هذا الحدث، وظهر من خلالها وجود ارتفاعٍ حادٍ في استهلاك الأطعمة الجاهزة غير الصحية (junk foods) في هذا الأحد الخاصّ، حيث يتم تناول ما يزيد على 1.4 بليون قطعة من جوانح الدجاج المقلية، وقرابة 11 مليون باوند من رقائق البطاطا، و325 مليون غالون من خمر البيرة في ليلة المباراة وحدها.
في هذا الصدد قالت شركة دومينوز إنها تبيع ما يزيد على 21 مليون قطعة بيتزا في ليلة المباراة، كما وجدت الإحصاءات أن استهلاك البرغر وصل إلى 14 بليون قطعة، واستهلاك معجنات البرتزل وصل إلى 4 مليون باوند من المطاعم والأسواق التجارية المختلفة في تلك الليلة فقط[2].
والعجيب في هذا ليس مجرد ارتباط الأطعمة غير الصحية ثقافياً بمتابعة المباراة، وإنما الاستهلاك المفرط لها أثناء المشاهدة، والآثار المرضية المعروفة لهذا الاستهلاك على جسد الفرد وحياته وعلى بيئة الكوكب كذلك، ومن ثمَّ تجاهل هذا الأثر بشكل متكرر كلّ عام بحجة أنه يومٌ واحدٌ في السنة وأن ذلك لن يضر.
فازدياد مبيعات أدوية الحرقة المعدية التي تصل إلى 20% في اليوم التالي للعبة تظهر جزءاً من آثار هذا الاستهلاك المفرط المباشرة[3]، وكذلك جراء ارتفاع استهلاك الطعام -ذي المصدر الحيواني تحديداً- الزائد عن الحاجة في البلاد أحد الأسباب الرئيسية لكونها في المرتبة الثانية عالمياً في إصدارات غاز ثنائي أوكسيد الكربون.[4]
من اللافت أن هذا الاستهلاك على كثرته يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأيام الأكثر شَرَهَاً في البلاد بعد عيد الشكر -الذي يصل استهلاك الديك الرومي فيه إلى 3 باوند لكل أمريكي!-، أما من حيث استهلاك الخمر في هذه الليلة فإنه يأتي في المرتبة الثانية بعد ليلة رأس السنة، ثم عيد القديس باتريك، في الرابع من يوليو، ثم الهالوين وخمس أعياد وطنية أخرى.[5]
ولا شك أن آثار شعبية الأطعمة غير الصحية وفرط تناولها لدى الفرد الأمريكي بشكل عام واضحةٌ جلية في مؤشرات الصحة الوطنية وإحصاءات الإصابة بالأمراض المزمنة وارتفاعها منذ التسعينات وحتى الآن، إذ إن كل اثنين من ثلاث أمريكيين اليوم يعانون من البدانة أو زيادة الوزن، في ازدياد لمعدل البدانة في البلاد من 30% عام 2000 إلى 42% عام 2018. إضافة إلى ذلك فإن واحداً من كل 10 أمريكيين بالغين كان مصاباً بسكري النوع الثاني في 2020، إضافة إلى هذه الإحصاءات فإن أمراض القلب، والسكتات الدماغية، وكثير من أنواع السرطانات، وغيرها من الأمراض المرتبطة بنمط الحياة غير الصحي تشهد تزايداً مستمراً مع الوقت. [6]
على العمل وفي الشارع
وجدَتْ دراسة نشرت في مطلع العام الحالي أن 16 مليون أمريكي قد يتغيبون عن عملهم يوم الاثنين التالي لمباراة السوبر بول Super Bowl، بينما 10 مليون آخرين ينوون التأخر بضع ساعات عن دوامهم في ذاك اليوم، ورغم عدم وضوح أسباب ذلك تماماً، فقد رجح الخبراء ارتباطها بالتعب المرافق لتناول كميات كبيرة من الطعام والخمور أثناء متابعة المباراة، إضافة إلى السَّهَر مع الأصدقاء وإقامة الحفلات في تلك الليلة.[7]
من ناحية أخرى فإن التجمّع للاحتفال باللعبة وما يرافق ذلك من شرب للخمر يُنتِج ظاهرة ارتفاع نسبة القيادة تحت تأثير الخمر إلى قرابة 22% مقارنة بالأوقات الأخرى خارج ليلة المباراة.
وقد وجدت إحصائية مخيفة أن نسبة حوادث السيارات في الساعات الأربعة التالية للمباراة ترتفع 40% للحوادث القاتلة، و46% للحوادث غير القاتلة، وتكون النسب أكثر ارتفاعاً في ولاية الفريق الخاسر. ورأى الفريق الذي نشر الدراسة أن هذا الارتفاع متعلق بشرب الخمور أثناء المتابعة، الغضب أو الفرح الشديدين لنتيجة اللعبة، والتعب الذهني والبدني بعد متابعة اللعبة الطويلة. وتطلق شرطة المرور في شتى المقاطعات تحذيرات سنوية بخصوص القيادة تحت تأثير الكحول في ليلة المباراة، وقد كانت حملتها هذه السنة بعنوان “Fans don’t let fans drive drunk”.[8]
وماذا يعنيني؟
لعلَّ القارئ بعد كل هذه الحقائق والأرقام المهولة يسأل عن السبب الذي نسوقها لأجله، ويرى أنه في قارّة بعيدة عن كل هؤلاء وممارساتهم فلا يعنيه عنهم شيء، وهذا صحيحٌ فعلاً لولا العولمة المفترسة التي يشهدها عالم اليوم، حيث غزت الثقافة الغربية ونمط الحياة الأمريكية كل بيت من خلال تلفازه وحاسوبه وطعام أهله وهواتفهم ولغتهم، فصار الطفل الصغير في قريته المتواضعة يشاهد كرتون ديزني فيضيق عليه بيته المطمئن ويحلم بالسكن في بيت ذي طوابق عدة وحديقة خلفية وكراج خاص.
أما شبابنا فقد انبهر كثيرٌ منهم بتلك الأمم ورأوا المثالية والأسوة في حياتها، بل غدت نموذج النجاح والسعادة الذي ينتهي السعي والجهد عنده، بينما الحقيقة أشمل وأوسع من اللقطات المختزلة التي وصلتهم بكثير، فكما أن في ثقافات الغرب مكونات جيدة يمكننا توظيفها، فإن فيها كثيراً من المحاذير والإشكالات التي نتجت من تقديس الإنسان وتمركزه حول متعه الدنيوية ورغباته الآنية، حتى بات يصنع أخلاقياته الخاصة ويختار قوانينه وممنوعاته.
إننا نرى في حياة الغربيين نتائج اختيار الإنسان الضعيف المستعلي بذاته منذ بداية تنحية أمر الله تبارك وتعالى وبناء مجتمعه على رفاهية جسده، فاستغنى بقدراته القليلة وعلمه المحدود عن الاستعانة بمولاه واتباع شرعه وقانونه، وكانت النتيجة التعاسة لغالب الأفراد وتحويلهم إلى آلات تعمل لتنتج ثم تستريح حين يؤذن لها بذلك، فتكون أجساداً منهكة وأرواحاً مهملة، قد تحولت إلى مستهلك لا يعقل ما يفعل ولا يوجّه نشاطه إلا لخدمة الشركات الكبرى وزيادة أرباحها وملء جيوب مديريها، وفي ذلك مصداق قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، نسأل الله أن يجعلنا من عباده الذاكرين الشاكرين.
والحق أننا لا نذم الأمريكيين كشعبٍ، ولا نهدف لبثّ بغضهم وكراهيتهم بين المسلمين، ولا ذاك هو منهج العدل الذي أمرنا ديننا الحنيف باتباعه، لكن ندعو لرؤية الثقافات والشعوب الأخرى بعين التكامل والشمولية التي ليس فيها أبيض مثالي ولا أسود قاتم، فننتفع بخيرها ونعي شرها ونحذر منه، ونرى في ضوء الوحي المنزّه عن كل خطأٍ نتاجها وما يمكن لشعوبنا أن تستفيد به منه، قال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
الهوامش
[1] Super Bowl 2021 Ratings: How Many People Will Watch Kansas City Chiefs vs. Tampa Bay Buccaneers? (ibtimes.com)
[2] Millions of Chicken Wings Eaten Super Bowl Sunday—Here’s Why | Time
Interactive: What is the climate impact of eating meat and dairy? | Carbon Brief
Super Bowl 50 food by the numbers | Fox News
[3] Millions of Chicken Wings Eaten Super Bowl Sunday—Here’s Why | Time
[4] Each Country’s Share of CO2 Emissions | Union of Concerned Scientists (ucsusa.org)
[5] 7 Thanksgiving Day Food Facts (spoonuniversity.com)
Booziest Holidays | Alcohol.org
[6] Managing Overweight and Obesity in Adults: Systematic Evidence Review from the Obesity Expert Panel | NHLBI, NIH
National Diabetes Statistics Report, 2020 | CDC
[7] 16 million employees nationwide say they plan to miss work on the day after the Super Bowl (abcactionnews.com)
[8] Car Crashes Soar After Super Bowls – CBS News
Avoid becoming a drunk driving statistic during Super Bowl 2019 (intoxalock.com)
Super Bowl Sunday | Fans Don’t Let Fans Drive Drunk | NHTSA
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!