ماذا خسر شباب المسلمين بعزوفهم عن القراءة؟!
يقول ابن القيم رحمه الله: “نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل” [الوابل الصيب، 82]، والباطل ليس طريقا واحدا يُسلك، ولكن طرق ومساحات ومدارات شتى، لا يُعرف لها أول من آخر. فإن لم تكن على طريق الحق، فحتما أنت على طريقٍ للباطل. وطريق الحق دائمًا وأبدًا يبدأ بـ{اقْرَأْ} بكل ما لها من معـنى، وفي كل مرحلة من الطريق لا بد من {اقْرَأْ}، ستواجهها بشكل أو بآخر، لذا كانت الأمر الأول وبها بدأ الوحي. أمّة يبتدئُ بناؤها بهذا الأمر، تكون أنجع طريقة لهدمها تجهيلها، وأقصر طريق لأمة جاهلة، شباب لا يقرأون. ولواقع الحال الذي يبصره كل أحد، سنناقش نقاطا رئيسية، في محاولة لتبيين ما خسره الشباب خاصة، وما خسرته الأمة بتخليها عن القراءة.
القراءة كنافذة على العالم ولغة اتصال معه
قبل ظهور الإعلام المرئي والتكنولوجيا، مَثّلت المكتبات والمسارح والفنون بأنواعها قنوات الاتصال مع العالم، لحاضر الشعوب وماضيها، ولمن أراد الاطلاع على العلوم والآداب والتاريخ عموما.
كان إنشاء المكتبات والمطابع مع كل حركة نهضة في مختلف الأقطار ركنا جوهريا، وسلّما لآفاق الوعي والارتقاء بالشعوب. ومع انتشار الإعلام المرئي، ومن بعده ظهور التواصل الاجتماعي ومنصاته، حيث انحسرت القراءة شيئا فشيئا، وأخذت تتضاءل أعداد القراء، حتى إنه ليصعب إيجاد قارئٍ حقيقي في وقتنا هذا.
لقد وحلّ بديلا عن القراءة، نشرات الأخبار والمقاطع المرئية والترفيهية، وألعاب الفيديو وغيرها، وكل يوم تزيد البلوى بإنتاج تطبيقات تحث الإنسان على زيادة سرعته في كل شيء لمواكبة كل تطور، وتسرق من وقته أكثره، فلا يبقى له من الوقت ما يصرفه في أساسيات حياته فضلا عن استثماره في قراءة ونحوها، وتُدخِله في عالم من الوهم بالتكنولوجيا التي تعمل ضده لا لصالحه في أحيانٍ كثيرة.
وبالنظر إلى مدخلات تلك المنصات، تجد المتابع لها لا يرى إلا ما يُبَث خصيصًا ليُوهِم المشاهِد بواقع غير حقيقي، أو جوانب أقرب إلى المثالية منها إلى الواقع، فلا يرى العالم على حقيقته، أو يرى صورًا مكذوبة لا تمت للواقع بِصِلة، وهنا يدخل في دوامة من التصورات المشوّهة عما يدور حوله، ويحكي كل طرف حكايته كما يحب ووفقا لأيدولوجيته، وتملأ الأكاذيب الشاشة. وبدل أن يَعمَد الشاب إلى الكتب الرصينة، وإلى كتب التأريخ لينهل منها ما يُعينه على إقامة وعي صحيح، يسلم نفسه لشاشة تعج بروايات كل الأطراف، فيمسي بلا رؤية لواقعه، أو رؤية مشوشة تضره أكثر مما تنفعه.
القراءة مفتاحًا للعلم وأساسًا للثقافة
أبقت الحضارات القديمة على جزء كبير من أمجادها عن طريق حفظه بالكتابة والتدوين، ولولا ما عُثر عليه من مخطوطات ومجلدات لغابت عنا للأبد حِقبٌ كاملة من التاريخ. ولولا المراجع والكتب في مختلف العلوم والفنون وتتابعها وبناء بعضها على بعضها، لما تمّت العلوم التي نعرفها اليوم ولما تشعبت ولا صارت بهذا الشكل الذي نراه، وبالأحرى ما كانت لتقوم حضارة من الأساس. فالكتاب هو مبدأ كل علم، وكل أدوات العلم والتثقيف على تنوعها تأثيرها محدود وضعيف بجانب الكتاب، والتحصيل من القراءة أكبر في المجموع من تحصيل الأدوات الأخرى، وهذا لا ينفي الفائدة الحاصلة من ورائها. فالفهم في أعمق مستوياته يتأتى بالقراءة، والفارق كبير جدا بين المكتوب وبين ما هو مرئي ومسموع، فالمشاهَد والمسموع في أحسن حالاته سيكون عرضا أو تبسيطا للمقروء الذي هو في الأصل بين دَفات الكتب، وكثيرا ما يمتنع التحصيل من غير المقروء إلا بتدوينه (إلا إذا كان مما يحتاج تطبيقا عمليا فقط)، إذ يكتب على الصفحات لتعاوده بالقراءة إذا نويت إمساكه.
أما ما عدا ذلك فإما أنه لضعفه لا يَعلَق بوعي متلقيه إلا أقل القليل، أو لا يلبث حتى يذهب كما أتى ولو طال بقاؤه زمنا. ولا مانع من التلقي من مصادر أخرى لجماليات فيها أو تبسيط أو ميّزات ثانوية لكن سيبقى الكتاب هو الأصل، ولا يُتصور تحقيق علم بغير تدوين كتاب أو البحث في كتاب أو البدء بقراءة كتاب.
على غير الكتاب لا تقوم ثقافة، فمن أين تأتي بمثقف لا يقرأ؟! أما اليوم فتجد كثيرين ممن يسمون أنفسهم قُرّاءً لا يعمدون إلى كتب أصيلة لقراءتها، وإنما لملخصات كتب ومقاطع مرئية لا تكاد تسمن ولا تغني من جوع، بل من أسوأ آثارها وهم المعرفة الناتج عن المرور السريع على كل فكرة، دون تقليبها واستكشاف إن كانت تستحق تمحيصا أم يكفيها مرور سريع، والثقافة الجوفاء التي تروج دائما لكل ما هو شائع وسريع الإنتشار ويلاقي قبولا عند الجمهور، فيصنع عندهم ثقافة مضطربة ومتهالكة.
القراءة جزءًا من الهوية
إذا كان القرآن الكريم وآياته جزء من هوية كل مسلم، فقطعًا إن كلمة {اقْرَأْ} ستكون من صميم هوية المسلم، وإذا أراد هذا المسلم أن يعلَمَ عن دينه أمرًا صَغُر أو كَبُر، فعنده من الكتب بحورٌ يمكن إفناء عمره فيها. وإذا أراد لمَنْطِقِه لغة سليمة مصقولة فعنده من كتب التراث والأدب ما يكفي حاجته ويزيد. وعند إغفال كتب التراث والأدب، وما يلحقهما ويخدمهما، تُفقَد غاية كبرى من غايات القراءة، ألا وهي الاصطباغ بصبغة هذا الدين ولغته، من خلال قراءة كتبه وأدبياته، بما تمثله من مشارب للدين وأصول للغة. فهذه الكتب هي أصل كبير، ومن ورائها كل ما يخدم علما دنيويا ويحققه، وفي كلّ خير، أما فقدان القراءة ككل ففقدان للغة، وفقدان اللغة فقدان الهوية.
وحينما تعود القراءة شغلا شاغلا في حياة الشباب، فهنيئا للأمة بعودة روحها من جديد.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!