لستُ في صيام.. كيف أرضى عن نفسي وأغتنم الأيام المعدودات؟

image_print

يشق على الكثير من الفتيات المرور بفترة العذر الشرعي وما يرافقها من حكم الامتناع عن الصلاة والصيام في شهر رمضان، فهنّ كأي مسلمٍ يُرِدْنَ الصيام واغتنام الوقت في الشهر الكريم بالصلاة والعبادات، وقد يُلجِئُ ذلك إحداهن لدواء كثير الأعراض الجانبية يؤخر فترة الحيض، وإن لم تفعل فإنها تحزن في ذاك الوقت وتخجل من فِطرها وذاتِها فيه.

إلى جانب ذلك تمرّ كثيرٌ من الأمهات الحوامل أو المرضعات اللواتي يخفن على أنفسهن أو أطفالهن بفترات صعبة من التناقض الفكري في رمضان؛ إذ لا يتقبّلن فكرة الفِطْر في الشهر، ولا تحتمل أجسادهنّ الموهنة الصيام في الوقت ذاته.

بينما أسباب ما تقدّم غالبًا ما تعود لفهم مغلوط عن دين الله أو عادات مجتمعيّة تفرَض على الفتاة ما لم يأمر به الله، وتدعوها لبغض ذاتها أو التظاهر بما ليست عليه، فإن نتائج هذه النماذج تشمل كثيراً من الإناث وتفضي بهنّ لمشاعر صعبة ومشكلة لا يفصحن عنها وتعكّر عليهنّ صفو الشهر الكريم، فأردت أن أفرد هذا المقال لتفنيد تلك الإشكالات، وتوجيه بعض الوصايا المتعلقة بها.

 أحبّي ضعفكِ

من المهمّ أن نبدأ نقاشنا لهذه الأفكار بتقديمٍ عن قبول النفس التي وضعها الله سبحانه بين جنبينا، وحمد الله على نعمه علينا فيها وبها، فنحن وإن لم نختر ماذا نكون ومتى وأين، فإننا هنا منعّمون بقدر لا نحصيه من النعم في نفسنا وحدها، فهذه النفس هي الوحيدة التي سنسأل عن عملها ونجاتها وسنفلح إن زكيناها، وهي وحدها التي سنأتي الله بها حين نكون أفراداً متخلّين عن الأصحاب والقرابات.

أوجّه الخطاب هنا للفتيات وأقول لكل منهن: أحبي أنوثتك واحمدي الله على نعمة أن وهبك إياها، احمديه على هذه النفس التي تحتاج عناية خاصة في أوقات تعب شهري طبيعيّ وجبلّي، لا تلومي نفسك لأنك لست المرأة الخيالية الخارقة التي تستطيع القيام بكل شيء في كلّ حين، فالإنسان خلق ضعيفاً وهذا يشمل الرجال والنساء، وإن كان ضعفك أكبر واوضح فاحمدي المولى على شريعةٍ تراعي ذلك وتأمر بمراعاتك فيه، ثم تأجُرك على إذعانك وصبرك ورضاك به.

ولننظر لحال عائشة رضي الله تعالى عنها حين مرّت بذات الحزن التي تشعر به الفتاة حين تجبر على ترك عبادة محببة لقلبها، فهي رضي الله عنها كانت خارجة للحج مع حبيبها صلى الله عليه وسلم، محتملة لمشقة السفر، ومشتاقة لتأدية المناسك ومشاركة المسلمين بها حين منعها الحيض من ذلك كله، فجعلت رضي الله عنها وأرضاها تبكي على أثره.

هناك دخل عليها رسول الله وخفف عنها الحزن بقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يضيرك، إنما أنتِ امرأٌةٌ من بنات آدم، كتب الله عليكِ ما كتب عليهنّ، فكوني في حجّتك، فعسى الله أن يرزقكيها) [أخرجه البخاري]. بهذه البساطة والتسليم لأمر الله تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل القضية، فخفف عن زوجه حزنها وعلمها كيفية التعامل مع حالتها الطبيعية التي لا شأن لها بها، ولا ينبغي أن تلوم نفسها عليها.

وهذا يشبه من كانت حاملاً أو مرضعاً لا تستطيع الصوم لخوفٍ على نفسها أو طفلها، فلتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة وشيءٍ من الدلجة) [أخرجه البخاري]. كتب الدكتور مصطفى البغا في شرح الحديث: لن يكلّف أحد نفسه من العبادة في الدين فوق طاقته إلا رده الدين إلى اليسر والاعتدال، فالزموا التوسّط في الأعمال واقتربوا من فعل الأكمل إن لم تستطيعوه.[i]

فسبحان الله الرحيم بعباده الذي يقبلنا كما نحن بضعفنا وفقرنا وقلة ما لدينا، وله الحمد أنه الأعلم بنا من نفوسنا فلا يكلفنا إلا وسعنا، وما جعل علينا في الدين من حرج، فلتطمئن نفسكِ أختي، ولتعلمي أنكِ أَمَةٌ لرب كريم يقبل منك أقل العمل المخلص لوجهه، وهوّني عليكِ حين لا تستطيعين الصوم وتجبرين على الفطر ومخالفة ما اعتدته من العمل المحبب طوال عمرك، بل استمتعي بمنّة الله عليكِ في أمومتك وصبرك على مشاقّها، واحتسبي رضاك وامتثالك في الصيام أو الفطر لوجه مولاكِ جل وعلا، واستشيري أهل العلم في الفقه والطب، وانظري في حال جسدك وقدراته، ثم ارضي بحكم الله عليكِ وابتلائه لكِ بغض النظر عما يقوله عوامّ مَن حولك أو يدعونك إليه، واذكري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) [أخرجه البخاري].

رضيتُ وأذعنت، ثمّ ماذا؟

أما إذا اطمأنت النفس وأسلمت لما كتب الله عليها، فإن السؤال الذي يتبع هو: كيف أغتنم هذه الأيام المعدودات؟ وهل هناك طريقة تمكنني من عدم تضييعها في اتباع النفس الأمارة بالسوء أو مجالس اللغو القاتلة للوقت والعمر؟

وهذا سؤال أساسي، خصوصاً أنّ ما سبق ليس دعوة للركون أو تسهيلاً لتضييع الأوقات أو الكسل عن الاجتهاد في الشهر الفضيل، فأبواب الخير والطرق إلى الله واسعة كثيرة، لا تقف عند الصيام والتراويح، إنما تتعداها أولاً لأعمال القلوب من الإخلاص والتوكل والتفكر والخوف والرجاء والشكر والتقوى والإنابة وغيرها مما لا يشترط حالاً أو مكاناً، والتي كانت عناية السلف بها كبيرة تظهر في كثرة مؤلفاتهم فيها وتوجههم إليها لأن صلاحها لا يتعلق بصلاح الظاهر، إنما هو متعلق بما بين العبد وربه لا يعلمه أحد من الخلق ولا يطلع عليه، وهو الذي يعتمد عليه حال أعمال الجوارح ومرتبتها عند الله جلّ وعلا. قال ابن القيم -رحمه الله-: “أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فمواتٌ، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح”.[ii]

كما أن من أبواب الخير المفتوحة قراءة تفسير القرآن وعلومه، وكذلك تلاوته دون مس المصحف -إن كانت الفتاة ممن يأخذ بجواز التلاوة-، إضافة إلى حضور دروس التفسير والتدبر اقتداءً بعناية رسول الله والسلف الصالح بالقرآن في رمضان واشتغالهم به، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان مرتين.[iii]

إضافة لذلك فإن من الضروري توسيع مفهوم العبادة إلى ما وراء النُسُك المجرّدة والوقوف على سجادة الصلاة فقط، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علّمنا أن التبسم في وجه أخينا المسلم صدقة، وأن الأعمال بالنيات التي بها يصير العمل العادي عبادة، والله تبارك وتعالى أشار في كتابه الكريم مراراً إلى فضيلة الإحسان إلى الخلق وأجر المحسنين في عملهم مع الله ومع الناس، ومن ذلك المساهمة في تفطير صائم، وإغاثة ملهوف، ونصح لمسلمٍ، ونشر علمٍ نافعٍ وطلبه وإعانة الغير عليه، إضافة إلى الرفق بالصغار وملاعبتهم، وإعانة الكبار ومؤانستهم، وعيادة المريض وصلة الرحم والإحسان للجار وحتى نثر البذور أو الخبز الجاف للطيور التي فيها للمسلم أجر كبير بإذن الله تعالى.

وبذلك يظهر أن فترة العذر الشرعي أو عدم قدرة الأنثى على الصيام في رمضان للحمل أو الرضاعة لا ينبغي أن يحول بينها وبين الاجتهاد في العبادات وتزكية النفس والاستكثار من الخيرات خلال أيام الشهر الكريم الذي إن بلغته هذا العام فقد لا تبلغ غيره، وسبحان الله الكريم الرحيم الذي خلق في نفوسنا ضعفاً لتلجأ إليه وتذكر حاجتها له، ثم رزقنا شريعةً تقدّر هذا الضعف وتوافقه، وله الحمد أن وسّع لنا أبواب الخير في رمضان وفي كل الشهور.[iv]


[i] د. مصطفى ديب البغا. مختصر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح. مركز اليمامة للنشر والتوزيع. ص18.

[ii] ابن القيم الجوزية رحمه الله. بديع الفوائد. 3/224.

وللمزيد في موضوع أعمال القلوب انظر سلسلة محاضرات للشيخ محمد صالح المنجد بعنوان “أعمال القلوب” على موقع طريق الإسلام.

https://ar.islamway.net/collection/2049/%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%88%D8%A8

وكتاب مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله المتوفر بنسخ مختصرة وكاملة على الشابكة، وللشيخ أحمد السيد سلسلة محاضرات في قراءة الكتاب والتعليق عليه بعنوان “مقاصد مدارج السالكين” على يوتيوب.

https://www.youtube.com/playlist?list=PLZmiPrHYOIsTKo0QAbQ8OOL2DP8wKhjgm

[iii] من السلاسل النافعة في هذا الباب بإذن الله:

“سلسلة اللطائف القرآنية” للشيخ بسام جرار على يوتيوب. https://www.youtube.com/watch?v=GD4iGRjjTQY&list=PLswqnlv8rl0sH9pv8AlpVN2PxQcSejS2_

و “دورة مفاتح التدبر” للمهندس فاضل سليمان على يوتيوب.

https://www.youtube.com/playlist?list=PLukAHj56HNKbD2R2ZroUhu7g-mK1S6CrW

ومن الكتب النافعة في هذا الباب:

كتاب أول مرة أتدبر القرآن للشيخ فهد سالم الكندري. https://ar.islamway.net/book/29544/%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D8%AA%D8%AF%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86

وكتاب رقائق القرآن للشيخ إبراهيم السكران. https://waqfeya.net/book.php?bid=9885

[iv] استفدت في بعض معاني المقال من محاضرة بعنوان “ورمضان إلى رمضان” لنورة سوبرة وأسماء الجغبير عبر مركز مكاني.

ومن محاضرتين للدكتور محمد حسونة بعنوان “رمضان 1442” عبر مركز مكاني.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد