لا خوف ولا حزن

image_print

كثيراً ما تشدّني ثنائية الخوف والحزن الواردة خاصةً في آيات المواساة القرآنية وآيات التبشير بالنعيم والفضل، إلى الوقوف للتفكير في جوهر هذين الشعورين ومدى امتدادهما في أرض النفس الإنسانية، ولملاحظة أنهما بشكلٍ ما مصطلحان شاملان للكثير من التفاصيل الشعورية الأخرى، تلك التي ستتلاشى بمجرد غياب كليهما.

الحزن والخوف؛ صراع الماضي والمستقبل

إن تأملنا في اتجاه نظر الإنسان حال شقائه نجده مكبّلاً ينظرُ إلى اتجاهَين متعاكسين، أو طريقين متقابلَين، مشغولاً بأحدهما أو كليهما عن موقعه الحالي وموضع قدمه في لحظته تلك.

إنه صراع الماضي أو المستقبل، أو كليهما وهو الأصعب والأكثر تعباً؛ إذ إنَّ أحدنا في هذه الدنيا إمّا موثَقٌ بتجربةٍ أو ذكرى أو حادثةٍ مَضَت يجاهد نفسه على تجاوزها، أو مشغولٌ بآتٍ مجهول، يريده كما يتمنى، أو يرجو أن يخلو ذلكَ الآتي من أمرٍ يخشاه أو يكرهه.

وإذا ما أردنا ترجمةَ هذا الصراع والاشتغال بالماضي أو المستقبل شعوريّا،ً لكانت الترجمة الأنسب والأصدق والأبلغ هي تلك التي استخدمها ربُّ العباد الأدرى بأحوال القلوب؛ إنه الشقاء بين “الحزن والخوف”، الشعوران اللّذان يصفانِ حال الإنسان هذا بدقّة كبيرة.

الحزن تحت العدسة المكبّرة

لا بأس بأن نسلك طريق الحزن في هذا المقالِ لبعض الوقت، محاولين فهمَ معالمه وتضاريسه حتّى نتذكّرها جيّداً إن رأيناها في لحظةٍ قادمة فندرك أنّنا هنا، في درب الحزن وعالمه. درجتُ مع السالكين في كتابِ ابن قيم الجوزيّة ووجدتُ فيه لطائف وتفسيراتٍ عميقة لمفهوم الحزن حين تطرّق له كمنزلةٍ من منازل (إياك نعبد وإياك نستعين).

لقد علّق في بداية الفصل بجملةٍ لخّصَت منزلة الحزن ببراعة “وليست من المنازل المطلوبة، ولا المأمور بنزولها، وإن كان لابدّ للساك من نزولها ولم يأتِ “الحزن” إلّا منهيّاً عنه أو منفيّاً” [1] وأظنّنا ميّزنا مواطن النهي والنفي حين ذكرنا الآيات التي ذكر فيها ربّ العزة هذا الشعور، لقد نُهِيَ عنه في آيات المواساة الحانية، ونُفِيَ تواجده عند الحديث عن النعيم وفضله تعالى على عباده المؤمنين.

أمّا عن كونه ليس مطلوباً ولا مقصوداً فذاكَ لما فيه من الضعف، وتشجيع الشيطانِ عليه ليقطع سير الإنسان إلى الله، ونستشهد على ذلك بدعائه ﷺ: (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن) [أخرجه البخاري]، وإنَّ الإنسان ليعتريه ذلك في حزنه على أمرين، فكما قيل “الحزن: توجّعٌ لفائت، وتأسّف على ممتنع” فنجدنا نحزن إمّا على شيء رزقناه ثمّ فقدناه بأمر الله وحكمته فنبقى في حسرةٍ على ذلك الفوات، أو حزينين على امتناع رزقٍ معيّن منعنا الله إيّاه وله الأمر من قبلُ ومن بعد،هو المعطي المانع، لنبقى في تأسّفٍ على ذلك المنع مغفّلين عن اغتنام رزق اللحظة التي نملك.

وأمّا قوله: وإن كان لا بدّ للسائل من نزولها، فذاكَ لأن الابتلاء هو دأب هذه الحياة الدنيا، التي تستقيم حيناً وتعوجّ أحياناً. ويظهر هذا في حديث أهل الجنّة حين يحمدون الله قائلين: {..الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} ]فاطر:34[ ويستدلّ بهذا على مرورهم بشتّى أنواع الحزن والابتلاء وأشكاله، ولكنّه حزنٌ بلّغَهم الجنّة بصبرهم عليه، ولجوئهم إلى الله طلباً للسلوان والقوّة والأجر، لا سلوك طريقٍ خاسرٍ بالجزع والاعتراض والنكوص والعياذ بالله.

الخوف تحت العدسة المكبّرة

في الجهة الأخرى، في طريقٍ إلى المستقبل، وقربٍ أكثر إلى معانيه وأسباره، نجده أنَّ الخوف حين ورد وحده في السياق القرآنيّ ورد بصيغة الأمر والحثّ عليه، ولكن شرطَ أن يكونَ في الحديث عن جنابِ الله، لذلك نجد أنَّ أكثر الآيات التي كانت تصف المؤمنين كانت تذكر خوفهم من الله جلَّ وعلا وخشيتهم منه {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} ]المؤمنون: 57[ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}] المؤمنون:60[ إنّه الخوف الذي يعتري الإنسان عند فهم مقام الله وعظمته، وإدراك عذابه لمن يعصيه فتجده يكثر من الطاعات والقربات طمعاً في قرب الله وعفوه، ومن ألطف ما قرأت في هذا الصدد ما قيل: “كلُّ ما تخافه تهرب منه، إلّا الله حين تخافه تهرب إليه”.

ومن المواضع التي أستحضر نهي الله فيها عن الخوف أو ذكره منفيّاً، نهيه تعالى عن الخوف من الناس وخشيه الله تعالى وحده فهو الذي بيده زمام أمر الإنسان والناس الذين يخافهم {..فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ..} ]المائدة:44[ {..وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ..} ]المائدة:54[، فلا يخاف الإنسان رزقاً بيد إنسانٍ آخر، ولا يخاف بطشاً، ولا أذىً، بل حسبه الله فينطق بالحقِّ قويّاً صادحاً دون وجل.

القرآن والذي يحتوي ثنائية الحزن والخوف في آيات المواساة القرآنية وآيات التبشير بالنعيم والفضل

وأستحضر موضعاً آخر فيه لطيفةٌ جميلة {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ]الإسراء:31[ حيث كان النهي هنا ليست عن الخوف من المجهول فحسب، بل من الوساوس التي نتخيّلها قادمةً من المجهول، والتوقعات التشاؤميّة، والقياساتُ والتنبّؤات، إذ إنها كلها من الخوف المنهيّ عنه، وهي من الأمور التي ينبغي تحويل الخوف منها إلى ثقةٍ بالله عزّ وجلّ.

في هذا السياق يتجلّى التوكّل مهيباً منقذاً للمشهد، التوكّل الذي نستطيع وصفه هنا بأنه تجاوز الخوف إلى الاطمئنان، وتجاوز القلق إلى الرضا حين يؤمن الإنسان بأنّ له ملكاً جليلاً في عليائه إليه يصرف الأمر كله، هو حسبه وكافيه ونعم الوكيل.

وحين نعود إلى وصف أهل الجنة (لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)، لأنّ المَخوفَ ذهب، فقد نجّاهم الله من العذاب وأسبغ عليهم رضاه، ولا حزنَ لأنّ كلَّ الأسى كان حلُّه الجنة، وتحقّقه الجنة فلا تحرمنا اللهمّ أمنها ونعيمها، اجعلنا اللهمّ من أهلها، ممّن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.


الهوامش

[1] مدارج السالكين، ابن القيم الجوزي، المجلد الأول، ص505 ، دار الكتاب العربي -1972

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد