“لازم المذهب”.. هل يجوز التكفير بالتأويل؟
لازم القول هو ما يترتب على القول بشيء ما من أمور تترتب عليه، وصاحب القول أو الرأي إما أن يلتزم لازم قوله أو يسكت عنه، فإن التزمه فلا خلاف في أنه يُحاسب عليه ويُعد مذهباً له، لكن العلماء اختلفوا فيما لو سكت عن لوازم قوله.
وكان لهذا الاختلاف وقْع خطير على الفكر الكلامي الإسلامي، حيث كان بعض العلماء يكفّر أو يفسّق أو يبدّع البعض الآخر على لازم قوله دون أن يكون الآخر قد التزم هذا القول، ودون أن يحقق مدى لزوم ذلك اللازم، وقد نبه كثير من العلماء على خطورة التكفير بما يُؤول إليه الكلام، ومنهم ابن حزم الظاهري الذي قال: “وأما من كفّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه؛ فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ فر من الكفر…”.
وقال ابن رشد: “ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرّحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر، وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم”.
مذاهب العلماء في لازم المذهب
تتنوع مذاهب العلماء في اعتبار أن لازم المذهب مذهب، وهي تتلخص في ثلاثة مذاهب نوجزها كما يلي:
المذهب الأول: وهو رأي الأغلبية، حيث يرون عدم اعتباره مذهباً وعدم التعويل عليه في إطلاق الإحكام ونقل الأقوال، ودون التفريق بين القريب والبعيد.
قال ابن الوزير اليماني: “إن التكفير بالإلزام، ومآل المذهب رأي محض، لم يرد به السمع لا تواتراً، ولا إجماعاً، والفرض أن أدلة التكفير والتفسيق لا تكون إلا سمعية؛ فانهدّت القاعدة، وبقي التكفير به على غير أساس”.
وعلى هذا القول أكثر المتكلمين والمحدثين، ومنهم ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، ونعمان الآلوسي، والشاطبي في الاعتصام ونقله عن شيوخه.
المذهب الثاني: التفريق بين اللازم القريب (البيّن) واللازم البعيد (الخفي)؛ فاعتُبر الأول قولا لصاحبه والثاني ليس قولاً، وهو قول طائفة من المالكية، كمحمد بن عرفة الدسوقي المالكي.

الطاهر بن عاشور
المذهب الثالث: اعتبار لازم المذهب مذهباً، وهو قول الطاهر بن عاشور في تفسيره حيث قال: “وفي هذه الآية دليل على أن لازم القول يعتبر قولاً، وأن لازم المذهب مذهب”، واستدل بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، ومحل الشاهد أن الكفار أنكروا البعث والجزاء؛ فكان من لوازمه اعتبار خلق السموات والأرض من الباطل، مع أن الله قد ذكر ذلك؛ فقال: {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وحاسبهم عليه؛ فلو لم يكن لازم المذهب مذهب لما اعتبره الله وحاسبهم عليه، حسب رأي ابن عاشور.
المناقشة والترجيح
يبدو أن القول الثالث وهو أن لازم المذهب مذهب؛ هو قول شاذ لِما يترتب عليه من النتائج الخطيرة؛ إذ يلزم منه تكفير الفِرق الإسلامية لبعضها لأدنى لازم من لوازم الأقوال، وهو منهج خطير إذ كفّر البعضُ المعتزلة لقولهم إن المعدوم شيء لأن لازم قولهم هذا أن العالم قديم، وكفّر آخرون بعض الحنابلة ممن قالوا إن آيات الصفات تُحمل على حقيقتها بالنسبة إلى الله لأن لازم هذا القول التجسيم والتشبيه لله بخلقه.
وكذلك فإن بعض العلماء لم يحتاطوا في تكفير المسلمين؛ وألفوا في ذلك كتباً، فقد كفّر البعض القائلين بإنكار الجوهر الفرد؛ لأنه يعتقد أن لازم ذلك نفي مقدورية الله على إحصاء أجزاء العالم وعلمه بكمية أجزائه، مع أن الخلاف حول إثبات الجوهر الفرد مشهور.
وأما ما استدل فيه ابن عاشور على أن لازم المذهب مذهب من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فهو استدلال ضعيف؛ لأن الكفار كانوا يعتقدون ويقولون بأن خلق السموات والأرض من الباطل، ودليل ذلك أن الله أسند ذلك إليهم، وأما الظن فهو تكذيب من الله لهم.
ونستطيع أن نقول أيضا إن هذا القول قياسٌ للغائب على الشاهد، فالإنسان ضعيف ليس له إلا الظاهر؛ فهو لا يعلم ما في صدر صاحب القول ومدى تبنيه للوازمه إلا إذا صرح بذلك هو، أما الله فله العلم الكامل؛ فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؛ فلعله عَلِم أنهم تبنوا هذا القول.
والخلاصة أن القول بأن “لازم المذهب مذهب” فيه هدم للفكر الإسلامي من أساسه؛ ولذلك فهو قول شاذ مخالف لرأي جمهور الأمة.
وأما مذهب التفصيل الذي اعتبر أن اللازم القريب مذهب، وأن اللازم البعيد ليس بمذهب؛ ففيه إشكال قد يُستغل في إطلاق أحكام في غير محلها، وهو كيفية معرفة اللازم القريب من البعيد أو الضابط الذي يضبط القرب والبعد، وكيف يمكننا أن نعرف أن هذا اللازم قريب أم بعيد.
وسبب هذا التساؤل أننا وجدنا بعض العلماء قد اختلفوا في اعتبار لازم من اللوازم قريباً أو بعيداً، وإلا لو كان هناك ضابط معين للتفريق بينهما لم يختلف العلماء، وأرى أن مذهب التفصيل قولاً فضفاضاً لا ينضبط، بل قد يستغله أي شخص ويعتبر أن لازم قول من الأقوال قريب، وهو في الحقيقة بعيد كل البعد، وربما لم يخطر في بال صاحبه أصلا.
ولذلك أرجّح أن لازم المذهب ليس مذهبا مطلقا إلا إن سُئل صاحبه عنه والتزمه، أو صرح هو بالتزامه؛ فيكون مذهبا له، وهذا كما سبق هو قول الأكثرين من العلماء من المتكلمين والمحدثين، وهذا أسلم وأقرب إلى روح أهل العلم في التثبت في نقل القول، وأعتق لرقاب ودماء المسلمين من التكفير. وقد قال الصنعاني “ولهذا تقرر عند المحققين أن لازم المذهب ليس بمذهب”.
أهم المراجع:
الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، دار الجيل، بيروت، ط: الثَّانية، 1416هـ، 1996م، تحقيق: محمَّد إبراهيم نصر، وعبد الرَّحمن عميرة.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، ط: الرابعة، 1395ه، 1975م.
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، مؤسَّسة الرِّسالة، ط: الثَّالثة، 1415ه، 1994م، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.
إجابة السائل شرح بغية الآمل، الصنعاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: الأولى، 1986، تحقيق: القاضي حسين بن أحمد السياغي وحسن محمد مقبولي الأهدل.
التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، 1997م.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!