كيف يُصنَع الإنسان على عين الله؟

image_print

قدر الله عز وجل للمخلوقات أقدارها، ووضع لها رزقها في عالم الغيب قبل أن تولد، وعلم كل ما يحيط بها قبل أن تُخلَق، ومنحهم القدرة على الهداية والغواية، فجعلهم مخيرين باختيار الطريق الأمثل ليصلوا لتلك الأقدار، وليصلوا لتلك الأرزاق، كما وضع لهم شرعًا ومنهاجًا، وبيّن لهم الطريق الأمثل، وأمرهم بالسير عليه، فإن هم فعلوا ذلك، فكأنهم صنعوا أنفسهم كما أراد الله وأمر، وهم في ذلك مخيّرون لا مسيّرون، فإما أن يختاروا ما يرضي الله، وإما أن يختاروا طرقًا أخرى، وهم على طرفي الأمر لن ينالوا إلا ما علمه الله لهم.

التفضيل والتكريم وحمل الأمانة

من فضل الله على البشر أن كرّمهم على سائر المخلوقات، وقدر لهم أن يستعمروا هذه الأرض، وأنه وضع لهم منهاجًا ليسيروا عليه، يكونون به أسياد هذه الأرض، فينالوا رضى الله بذلك، ولأنها أمانة ثقيلة، فقد حملت للإنسان بما أعطاه الله من القدرة على إعمال العقل، وإذكاء الروح، وقد قبلها الإنسان، فحريٌّ بنا أن نستكمل طريقنا ونحن ندرك عِظم هذه الأمانة وثقلها وضروراتها ومحظوراتها، فنؤديها كما أمرنا ربنا، ولا نحيد عنها، فنكون كمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

إن الإنسان من أقوى مخلوقات الله في هذا الوجود، وهذا القوة لا بد لها من ميزان يضبطها، وهو حسن الصلة بالله تعالى، وقد كرّمه الله منذ نشأته، بأن جعل الملائكة تسجد -في امتحان إلهي لها- لأبي البشر، آدم عليه السلام، إلا أن طغيان الجهل بين بعض الناس، وما سوّله الشيطان وأتباعه، دفع كثيرًا منهم ليستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتركوا ما يمنحهم رضى ربهم وذهبوا إلى طرق توهن أرواحهم وتُسخِط ربهم عليهم، فتراهم -بالرغم من ذلك- يبحثون عن قوة بديلة يعبدونها، سواء كانت مادية أو معنوية، فالإنسان بحاجة لانتماء وأمان نفسي، ومن لم يجد أمانه في عبادة الله، تراه يتوهم أمانه في عبادة المال أو الذات أو الأفكار المنحرفة.. إلخ.

البعد عن الله.. بين الظاهر والباطن

قد يتوهم كثيرون أن البعد عن الله ذو مقاييس ظاهرية فقط، إلا أن الأمر يتعدى ذلك إلى البعد الباطني أيضًا، فالبعد الظاهريّ نراه في عبادة ما دون الله والولاء له والسمع والطاعة لذلك المعبود مما خلقه الله أو اخترعه البشر من الآلهة أو الأسماء التي سمّوها، كعبادة الشيطان أو عبادة البقر أو الشمس أو الكواكب أو مختلف الأصنام أو حتى عبادة الإلحاد، وهذا كله من جحود الإنسان لربه، وجحوده ضرورة الخضوع لمن بيده أمره كله.

كيف يستسيغ الإنسان أن يعبد غير الله في أرضه وتحت سمائه وسمعه الكريم وبصره العظيم، {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون} [النحل: 73]

أما البعد الباطنيّ فله أنواع وأبعاد كثيرة، مثل أن يعبد الإنسان الله في جوارحه، فيؤدي بعض شعائر الإسلام، ويقر بأن الله هو الخالق، لكنه في كثير من أحواله يسير في طرق أخرى غير طريق الله.

مثل هؤلاء ترى ظاهرهم مع الله وباطنهم مع هواهم، مع المال أو السلطان أو الأبناء أو اتباع الشهوات، وحين يتبع الإنسان ما يتراءى له من الشهوات فإنه ينحدر بها بمستواه إلى ما دون المستوى الذي أراده الله له، ويصبح بمنزلة الأنعام أو أضل، { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] وقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44]

والخشية الحقيقية، أنه عندما يسلك الإنسان هذا المسلك، فإنه يبعِد قلبه عن تلقي نور الوحي، ويستغرق في طريق الضلالة، فلا يفتح قلبه للهداية، وهكذا يزيد يومًا بعد يوم في غيه وطغيانه، ويزيد الله في امتحانه بأن يزيد له في طريق الباطل.

التربية بالابتلاء والفتن

طرق التربية العملية كثيرة، ولعلها أكثر تأثيرًا في الناس ودفعًا للفهم من المقولات النظرية، فالناس حين يرون التجربة أمامهم عمليا أو يمرون بها تتغيّر دواخلهم أكثر من تلقّيهم لها بالكلام النظري.

من هنا فإن الصناعة على عين الله تتحقق بالعملي أكثر من النظري، وهي من أهم النعم التي ينعم الله بها على عبده، فما أجلّ أن يربي الله عز وجل عبده الذي يحبه بالابتلاء والاختبار والعسر بعد اليسر، وعرضه على الفتن ليعلم حقيقة إيمانه، ثم ينعم عليه بأن يكون معه في هديه وتثبيته وإنزال نعم المعاني عليه كل وقت وحي، ثم يدبر له فيصرف عنه الشر الذي حسبه خيرًا، ويرزقه الخير الذي حسبه شرا، ويأخذه من أحضان الغفلة إلى معيته وكنفه عزوجل.

وقد تجد نفسك -أيها الإنسان- تتساءل لمَ الدرب موحشٌ؟

لا يحزِنك خلوّ الطريق من الرفاق، فإن الغالبية لا تسير في طلبه، وانظر إلى الأنبياء من قبل، سلكوا طرقهم مع أعداد قليلة من المؤمنين، نوح عليه السلام حين ظلمه قومه، وموسى عليه السلام حين خرج من بلدته خائفًا يترقب، ويوسف عليه السلام حين فُتِن بالكثير من الامتحانات، ومحمد ﷺ حين ظل يدعو الله العدد من السنين ومن يستجيب له قلة بين قومهم.

لتصبح عبدًا ربانيًّا

الصناعة والتربية وجهان لعملة واحدة كلمتان مترادفتان وهما أهم ما يكوّن الإنسان في هذه الحياة، أما ترى أن هناك كثيرًا ممن يمتلك علمًا بلا أخلاق، وآخرين ممن يمتلك فهمًا بلا تربية، أترى أحدهم ينتفع بعلمه عند ربه؟ لقد باعوا قصور الأخرة بأكوام قش الدنيا.

عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، وقال: اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل”

أما الإنسان إن صحت صح تربيته في الله، وصُنِع على عينه كما قال لنبيه موسى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] فإن آنذاك سيصح فهمه لحقيقة الأمور كلها، سواء ما كان من متاع الدنيا الزائل أو منزل الآخرة الباقي، وهكذا يغدو الإنسان عبدًا ربانيًّا.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد