كيف نواجه الخوف في الواقع السريالي؟
تعني رَباطة الجأش الاستقرار والثبات وتمالك النَّفس في وجه الانفعالات، وبذلك يقصَد بها هدوء النَّفس وثبات القلب، بمعنى سيطرة الشَّخص التامّة على قواه العقلية أو قدراته الحسِّيَّة أو مشاعره أو سلوكه وتصرّفاته، وتحمّل الظواهر التي قد تتسبب في فقدان الآخرين لاتزانهم العقلي، فرابط الجأْش هو الثابت عند الشدائد.

عمل فني- غرف النقط واللانهاية للفنانة يايوي كوساما
بكل تأكيد فقد أعلت الفلسفات والأديان الوثنية وغير الوثنية من قيمة رباطة الجأش، إلا أن هذا المصطلح نفسه قد يُفسّر بانعدام الشعور والبلادة في بعض الأحيان، ولذلك سنفصل في معناه عند العقائد المختلفة.
فضل رباطة الجأش عند العقائد المختلفة
يعرّف مصطلح رباطة الجأش في الهندوسية (समत्व) (بالإنجليزية: Samatva) في الفصل الثاني – الفقرة 48 من البهاغافاد غيتا النص المترجم التالي: “قم بأداء ما عليك من اعمال باتزان، وهذا الاتزان يسمى يوغا” وفي الفلسفة الرواقية التي بحثت أخلاق النفس، تعدّ رباطة الجأش مفهومًا مركزيًّا، أما في المسيحية، فقد عرِّفت رباطة الجأش بأنها “اتساق العقل، فلا يكون مبتهجًا ولا مكتئبًا”، وفي الفلسفة المسيحية تعتبر رباطة الجأش ضرورية لتنفيذ الفضائل اللاهوتية كالمسالمة، والرضا، والاعتدال، والإحسان. كما يسلط العديد من المفكرين اليهود الضوء على أهمية رباطة الجأش كأساس ضروري للتطور الأخلاقي والروحي، وتحظى فضيلة رباطة الجأش باهتمام خاص في كتابات الحاخامات.

لقطة غير واضحة ودائمة التّغيّر
رباطة الجأش في الإسلام
نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]. حيث توضح هذه الآية المشاعر العاطفية وردة الفعل القوية عند الإنسان والتي لا تهدأ إلا عند الاستسلام التام لله والحصول على المعونة من الله.
إن المسلم الحقيقي يدرك أن كل شيء يحدث فإن الله يريده لغاية ما أي أنه معنيٌّ بالحدوث على الوجه الذي يحدث عليه، وكل ذلك ينبع من حكمة الله.
إلى جانب ذلك فإن الثبات يأتي من الله، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74} فالإسلام يربط الاستسلام لله بالاطمئنان لحكمته من ناحية وطلب توفيقه ومعونته من ناحية أخرى.
هل ردة فعل الإنسان نقص في الإيمان؟
بحكم انفتاح العالم وضرورة التواصل مع مختلف الأطياف من الناس، نحتاج أن نتعلم عدم الانفعال إلى جانب الحفاظ على التوازن العقلي لدينا، ويسمى هذا الأمر اليوم بدبلوماسية الأخلاق البروتوكولية.

صورة تعبيرية عن التواصل مع الناس
لقد ركزت الكثير من شواهد القرآن والسنة على أهمية اللطف في انتقاء الكلمات والأفعال مع من حولنا، واللطف لا يعني عدم الغضب أو الشدة، بل هو بمفهومه الشامل يعني البراعة في الفعل ورد الفعل، لمعرفة كيفية الرد بالشكل المناسب للسياق وليكون ذو وزن وأثر بارز. وهذا يوضّح حجم المسؤولية علينا في كل كلمة أو نظرة أو ابتسامة تصدر منا، حتى في أبسط المواقف وحتى مع الأطفال والكبار.
عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أنه قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدٌ فى بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما أردت أن تعطيه؟، قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة) [أخرجه أبو داود في السنن]، حيث يوضّح هذا الحديث أهمية اللطف في كل شيء، وكيف أن المرأة كانت ستُكتب عليها كذبة إن كانت يدها فارغة، فنرى عواقب كثيرة وكبيرة فقط بسبب فعل بسيط.
ردود الفعل في القرآن الكريم
نص القرآن على حوادث مختلفة يظهر فيها رد الفعل العاطفي، وهذا يؤكد أن الإسلام لا يمنع تلقائية ردود الفعل بناء على أنه دين متكامل لا جمود فيه، ونرى أن رباطة الجأش في الإسلام لا تتعارض مع مشاعر لدى الإنسان وحاجته للتعبير عنها، فالإسلام يعني الحياة وعيش كل لحظة برضا الله لأعمق حد، مع ضوابط حتى لا يكون على حساب الآخرين، فنرى في القرآن موسى عليه السلام يطمئن لله بعد الخوف، رغم أنه يرى عصيّ السحرة تتحول لأفاعٍ مخيفة، لكن الله طمأنه وطلب منه أن يربط به ثقته، وكذلك نرى أن ما طمأن سيدنا ابراهيم هو معرفة أن الملائكة مرسلين من عند الله، فلا يذهب الخوف إلا عند الاطمئنان بالله.
ويمكن أن نمثّل لذلك بالنماذج الآتية:
- الغضب في قصة موسى عليه السلام: حيث قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150].
- الضحك في قصة سليمان عليه السلام: إذ يقول تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل 19].
- الخوف في قصة إبراهيم عليه السلام، وذكرها الله تعالى في قوله: {فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ} [هود : 70]. فقد أحسّ في نفسه منهم خيفة وأضمرها، إلا أن الملائكة واجهته بالإفصاح عن وجهتها والتأكيد على أنهم ملائكةٌ مرسلون في مهمة إلهية.
- قصة ملكة سبأ: يوضح الله لنا ردة ملكة سبأ بقوله: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] فقد كانت ردة فعل المرأة واضحًا، لقد حسبت نفسها تدخل في جدول من الماء فكشفت ملابسها لئلا تتبلّل، وهكذا جاءها التنويه بأن ما تراه ليس على النحو الذي ظنّته.
- الخوف في قصة سيدنا موسى عليه السلام: حيث قال تعالى: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (القصص 31)، وقال تعالى: (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ) (طه 21)
لقد جاء في سنة رسول الله ما يؤكّد فطرية المشاعر، لكنها وجّهت كذلك لضبطها ، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) [متفق عليه] وبنفس الوقت ينهى -عليه السلام- عن كثرة الضحك فيقول: (وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ) [أخرجه أحمد في المسند، والترمذي في السنن] ويمكن أن نستنبط من الشواهد السابقة أن ضبط ردّات الفعل لا يعني إنكار الفطرة في وجودها، وإنما إدارتها بحسن تدبيرها وضبطها بالقدر الذي يقلل من جلب الضرر لنا ولغيرنا.

العبث بأبعاد الانسان والتمويه بين الحقيقي والمرسوم
الخوف المهجّن
تبني السريالية حضورها على خوف الإنسان بل إنها تجلبه إليه لتؤثر على وعيه من خلاله، وعندما نرى تكرار السريالية في كل مناحي حياة الإنسان، نسأل: من الذي سيطمئن الإنسان ويقول له: “لا تخف”؟ من الذي سيقول للإنسان حين يمسك الأداة أو الآلة الخطأ التي تتغير “خذها ولا تخف، سنعيدها سيرتها الأولى”؟ ماذا نقول عن الثقة، بمن؟ هل نولي ثقتنا بالفنان والمصمم والمهندس؟ هل أصبحنا نأخذ الأوامر والحقيقة من الفنان، لأنه أعلم منا ويعرف بواطن الأمور ونحن العوام الجهّال الذين لا يعرفون إلا الظاهر؟

عمل فني- تلوين وتمويه الأشياء على غير حقيقتها
وهل يؤثّر ذلك على الوعي وناصية الإنسان، وعلى قدرته في التمييز بين الأمور واتخاذ القرارات؟
من الجيد الاطلاع على أمثلة من الفن السريالي حتى نكون على دراية بوجود الخداع والتناقض في حياتنا، بالتوازي من ذلك فلعله يجدر إصدار فتوى تلزمنا بغض البصر وتحريم إطالة النظر لهذه السريالية، لما لها من أثر بالغ في ترسيخ مفهوم التناقض في الأذهان وجعل التناقض هو الحقيقة المطلقة، وللمحافظة –أيضًا- على الفطرة السليمة والنفور مما هو مخيف وقبيح.
إن بذل الجهد العقلي الكبير على سفاسف الأمور يجعل ذهننا دائماً في حالة إرهاق، وهذا يؤكد خطورة السريالية، يقول علي عزت بيجوفيتش “البحث عن المصائب ليس شجاعة وإنما غباء.. الشجاعة هي الاستعداد لمواجهة المصائب التي لا مهرب منها برباطة جأش”.

ظل متعرج نتج من عنصر مستقيم الشكل، العبرة بالسياق وليس بالفعل الموضوعي لوحد
فنّ سريالي معاصر، العبث والتمويه بأبعاد المادة، تحويل الإنسان من جسم ثلاثي الأبعاد الى رسمة ثنائية الأبعاد.
ناصيتي بيدك
الدُّعاءُ هو العِبادةُ، وهو يُعبِّرُ عن امتلاءِ قَلْبِ المؤمنِ بالثِّقةِ في اللهِ سُبحانه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه الشهير (اللَّهُمَّ إنِّي عبْدُك، وابنُ عبْدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدك..)، وهنا نشير إلى أننا في كثير من الأحيان يمكننا أن نردد دعاءً دون فهم معناه تماماً، إلا أننا ندرك في لحظة فارقة عمق المعنى ونلمس أهميته.
عند كثرة رؤية الخداع والكذب، يجب أخذ اجراءات احترازية، فكلما زادت الثقة بالله، صار تأثير السريالية علينا أقلّ وأصعب، لدرجة أن تكون الثقة بالله أكبر من تأثير ما نراه بأعيننا، وهذا –بالتأكيد- يأتي مع التحرّي والبحث وبذل الجهد في إدراك الحقائق.
قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف : 18]، ومع انتشار السريالية ورؤية خلط الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال، ما لنا إلا أن نقوي ثقتنا بالله للمحافظة على وعينا وحتى يلهمنا الصبر. قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم : 60].
مصادر الصور:
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!