كيف نرتقي بالحوار.. بين الدفاع عن الفكرة والانتصار للذات؟

image_print

كثيرًا ما نخوض في النقاشات العلمية والسياسية أو الثقافية، سواء في المؤسسات التعليمية أو المنتديات الثقافية أو في المواقع التواصلية، بغية إيصال ما نتبناه من فكر متراكم إلى من يحاورنا، وهذه النقاشات الحوارية الفكرية التي تسعى إلى التغير والتقدم نحو الأمام، إن اقتفينا تاريخ الأمم والشعوب سوف نجد أنها كانت اللبنة الأساس في نهضتها.

وبالعودة إلى المذاهب الفكرية التي كانت سبب من أسباب نهضة الغرب يتبين لنا مدى أهمية التفكير والفكرة وكيف ساهم هذا الحوار الفكري بين أعلام الفكر الغربي في بعث أمة بمفاهيم مشتركة كانت السبب في ما وصلت إليه من تقدم، ومن جهة أخرى حين نتحدث عن الحضارة الإسلامية فلا بد أن نشير إلى مسألة مهمة ألا وهي أن الحوار الفكري ساهم بشكل كبير في نهضتها سواء حوار المسلمين مع بعضهم أو حواراتهم مع غيرهم.

الدعوة والحوار في قِيَم الإسلام..

لقد كانت للرسول ﷺ عدة حوارات مع مشركي قريش ومن بينها حواره مع عتبة بن ربيعة حينما أتى يساوم الرسول ﷺ على ترك الإسلام، ومن حواراته ﷺ أيضا ما جرى في لقائه مع حبر من أحبار اليهود جاء يسأل الرسول ﷺ عن مسائل غيبية والرسول ﷺ يجيب والحديث رواه أبو أسماء الرحبي.

ومن الصحابة حوار ابن عباس رضي الله عنه مع الخوارج، ومن الفرق التي اشتهرت بالنقاشات الفكرية في الساحة الإسلامية، المعتزلة والأشاعرة ومدرسة أهل الحديث وقد كانت لهم عدة مناظرات لازالت مدونة بين صفحات التاريخ.

إن الحوار الفكري إذًا هو أشبه ما يكون بـ الدينامو أو الماكينة الحياتية عند كل الشعوب والمجتمعات، وهذا الحوار الفكري يختلف على حسب المنطقة الجغرافية، ففي (الدول المتدنية علميًّا وتقنيًّا وروحيًّا) أو (دول العالم الثالث) -كما يحب غيرنا تسميتها- نلاحظ عقم هذا الحوار ومحدوديته بين مختلف أتباع الفرق والمذاهب، وهذا الذي نسميه حوارًا إن أمعنا النظر يجب أن نسميه صراع فكري لا حوار فكري، صراع بين إنسان أصم وآخر أبكم لا يريد أحدهما أن يسمع الأخر فضلا عن أن يفهمه للانتقال من حال إلى حال.

ما هو الحوار؟

يعرّف عبد القادر الشيخلي الحوار بـ”أن يتناول الحديثَ طرفان أو أكثر عن طريق السؤال والجواب، بشرط وحدة الموضوع أو الهدف، فيتبادلان النقاش حول أمر معين، وقد يصلان إلى نتيجة، وقد لا يقنع أحدهما الآخر، ولكن السامع يأخذ العبرة ويكوِّن لنفسه موقفًا”، ويعرّف الحوار في موضع آخر بأنه: “عملية تبادل الأفكار والآراء بين محاورين اثنين أو أكثر لغرض بيان حقيقة مؤكدة أو رأي معين، قد يتقبله الآخر وقد يرفضه”.

وبناء على ذلك يمكن أن نصف الحوار بأنه عملية تبادل المعلومات على مستوى الفرد أو الجماعة بغية إيصال أفكار معينة للأخر مع الحفاظ على بعض الأخلاقيات التي تجعل من الشخص المحاور في حالة تسمح له بالنقاش أو تحليل ما يعرض له من الطرف الآخر.

هل نبحث عن القاسم المشترك؟

هو سؤال غالبًا ما يعرض لذهني كلما حضرت لحوار بين طرفين يتحاوران حول فكرة معينة أحدهما يخالف الأخر في توجهاته الفكرية، ذلك أن غالبية الحوارات القائمة بين أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية لا تسعى إلى الإصلاح أو الوحدة والجمع بين الأدلة، بل همها من الحوار إثبات من يتفوق على الآخر؟ من يهيمن على الساحة؟ ومن هنا فإن حمولات عديدة من الأفكار تجعل الحوار فاشلا منذ بدايته.
هل الإصلاح إذا يقبل الحوارات الأحادية القطب؟ الجواب لا.

المعرفة بهذا سوف تقود بلا شك أتباع الفرق الإسلامية إلى البحث عن القواسم المشتركة التي تجمع شرقها بغربها جنوبها بشمالها، وإن بحثنا عن هذه القواسم سوف نخلص إلى تساؤل مهم ألا وهو: إن كانت كل هذه القواسم مشتركة بين أتباع هذه الفرق، فما الداعي للفرقة الواقعة بين المسلمين؟

إن تجاهل أتباع هذه الفرق التي تخوض حوارًا فكريًّا وعقديًّا وفقهيًّا للقواسم المشتركة، أدَّى إلى استمرار الصراع وتفاقمه، تجاهل أدى إلى صراع مميت نخر جسد الأمة، ساهم فيه الجميع لكن بنسب متفاوت، وفي وقت كان الإسلام الذي نتصارع تحت رايته يدعونا إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، يقول تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، أصبحنا لا نتجادل ولا نتحاور إلا بإذكاء الصراع والفرقة وربما يميل البعض لإعداد المكائد والمصائد لبعضنا البعض.

أوليس الحوار هو ذلك الحديث الذي يجمع بين طرفين، يجمعهما اختلاف في رأي معين يحاول أحدهما إقناع الآخر بصحة فكرته أو معتقده، لمَ لا نستحضر في هذا الحوار قول الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصّلت: 34]، انظر إلى أثر هذا الخلق (الدفع بالتي هي أحسن) في الحفاظ على الألفة بين طرفين يختلفان في الرأي، فهل لنا أن نطالب بحوار قائم على الإصلاح لا الصراع.

لماذا نركز على الأشخاص بدلًا من الفكرة؟

في الكثير من الأحيان تحدث نقاشات وحوارات بين مجموعة من أفراد العائلة أو بين أتباع مذهب معين أو فرقة معينة أو بين مجموعة من الأشخاص في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي خضم هذا الحوار تحدث نوع من الفوضى بين الأطراف التي تجري الحوار، وذلك بسبب انتقال الحوار من حوار فكرة إلى صراع أفراد يبحث كل واحد منهما عن نقائص الأخر لإظهارها، فيظهر لنا كلمات على سبيل المثال، هل نسيت حالك كيف كنت؟ من أنت لتقول هذا؟ لا تمتلك أسلوبًا جيدًا في الحجج؟ أنت إنسان رجعي؟ انظر إلى نفسك هل مثلك يتحدث عن هذا؟ أنت من أساسًا حتى تتحدث معي بنبرة استعلاء.. وهكذا!

إذا بحثنا عن القاسم المشترك بين هذه الأقوال سوف نجد أن البحث عن النقائص والعيوب عند المتحاور هي السمة الأساس في كل هذه الأقوال، وهذا الأمر له أسباب عدة من أبرزها:

الحديث من غير علم: ففي العديد من المناسبات حينما يخوض الإنسان حوارًا ما، من غير أن تكون لديه معرفة جيدة بالموضوع الذي يتحاور حوله، تقوده قوة دليل الشخص الذي يحاوره إلى الخروج عن نص الموضوع ومن الرد بالدليل إلى الرد على الشخص نفسه في محاولة للتقليل من أثر الإحراج جراء الهزيمة التي تعرض لها.

الفكرة المسبقة: في بعض الحوارات تكون التمثلات التي يحملها أحد الطرفين عن الأخر سببًا في انتقال الحوار من حوار في الفكرة إلى حوار في الشخصنة، ومن أجل تقريب ذلك نعرض المثال التالي: في حوار دائر بين شاب وفتاة حول قضية من قضايا المرأة، نجد أن انطلاق الشاب من فكرة أن الفتاة تحمل فكرًا نسويا وفق قراءته السابقة لها أو سماعه شيء يدل على انتمائها، يؤدي إلى تحويل الحوار من منطلق سلمي يبحث عن إقناع الطرف الأخر بصواب وقوة الفكرة التي يتبناها، إلى حمل الحوار على الأسلوب العدائي الذي يلامس شخص الفتاة لا فكرها، وكذلك العكس صحيح.

التقليد أو التعصب: يؤدي التقليد غالبًا إلى وصول المحاور للنفق الضيق، ذلك أن المقلد غالبا ما يقع في فخ عدم قدرته على الاستدلال على الدليل أو الفكرة التي طرحها، إذ إنه ينتقل من قال شيخي، فإن قيل له وما دليل شيخك على المسألة لجم فمه فلا يقوى على الحديث بعد، الشيء الذي يجعل منه إنسانًا ذا طبيعة عدائية تبحث عن أي نقيصة في الطرف الآخر ليحفظ بالتذكير بها ماء وجهه.

الغرور: هناك من يرى العار في قول: “لا أعلم”، ولا يرضى بالأخذ من غيره، ولا يحب الإنصات والاستماع للذي يقابله، مغرور إلى حد حب الظهور، الإنسان المغرور مولوع بانتقاد الآخر ولا يرضى بالهزيمة أمام غيره، يبدأ الحوار من فوق لتحت، لديه طبيعة شبيهة بطبع إبليس المتكبّر، ومن له هذا الطبع إما أن يقصم ظهر من يحاوره حينما تكون حجته أقوى من حجة محاوِره، وإما أن يغوص في البحث عن نقائصه.

هل يمكن أن نجري حوارًا هادئًا معتدلًا؟

حتى يكون الحوار بين الطرفين حوارًا معتدلًا ومنتِجًا على مستوى الفرد والجماعة ويساهم في التطور وتقديم الإضافة يجب أن ينبني أولا على مجموعة من الأصول، وعلى افتراض أن الأطراف التي تجري الحوار تجمعها كلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” نرى أن أهم هذه الأصول هي:

الأصل الأول: أن الحاكم المعرفي الذي يحتكمان إليه عند انقطاع التواصل بينهما هو القرآن الكريم والسنة النبوية، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

الأصل الثاني: المحاورة بعلم، ففي الكثير من الحوارات ينشأ الصراع والسجال من خلال غياب المصطلحات العلمية بين الأطراف المتحاورة، والذي يميز الحديث بالوسائل والمصطلحات العلمية، تقليل الخلاف وسوء الفهم بينهم، ذلك أن من أسباب سوء الفهم بين المتحاورين عدم قدرتهم على التعبير بما يجول في أذهانهم بالتالي تحمل أقواله على غير مرادها.

الأصل الثالث: الاستقامة وجاءت في أكثر من موضع من مواضع القرآن الكريم، قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5]، يقول فخر الدين الرازي في تفسيره لهذه الآية: “إن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان والحق هو الوسط. ويتأكد ذلك بقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]، وذلك الوسط هو العدل والصواب. فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمنا مهتديا، أما بعد حصول هذه الحالة، فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية، وفي الأعمال الغضبية، وفي كيفية إنفاق المال. فالمؤمن يطلب من الله أن يهديه إلى الصراط المستقيم، الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق، وفي كل الأعمال”.

الأصل الرابع: الإخلاص في النية، حرص الأطراف المتحاورة على حصول النفع وطلبه للمصلحة العامة لا لمصلحة شخصية دنيوية.. وهذا يأتي من بوابة الإخلاص لله سبحانه وتعالى في القول والعمل، وأن يكون قصده وهمه الأول والأخير جلب المنفعة ودفع المفسدة عن الأمة، فهذا التجرد عن الذات والابتعاد عن حب الظهور ومغالبة الآخر به تحصل الفائدة.

الأصل الخامس: الإنصات بإمعان، إذ لا يمكن أن يجرى الحوار بآذان صماء لا تريد أن تسمع أو تفهم حجج الطرف الآخر فما بالك بفهمها فهما صحيحا. إن سماع الحجج ومحاولة فهم ما يريد الطرف الآخر إيصاله بكلامه من الأشياء التي تعين على الخروج بنتيجة مثمرة من الحوار، أما كثرة الحديث والكلام من غير سماع أو إنصات يولد حوارًا عقيمًا نتيجته تفاقم المشكلة والصراع إضافة إلى ضياع الوقت.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد