كيف تمجد هوليود قضاياها؟.. الهولوكوست نموذجا

image_print

لم تعد السينما متنفسًا لضغوط الحياة ومكانًا لقضاء عطلة آخر الأسبوع أو مكانًا لكسر روتين الحياة فحسب، فصناعة الأفلام تتصدر اليوم الصناعات العالمية التي تدرّ مرابح خيالية تجنيها إمبراطوريات السينما العالمية[1]، فهي اليوم تجارة رابحة رائجة تخدم كل متطلبات السوق، وتتنافس الشركات المصنعة للحصول على المراكز الأولى في المسابقات والمهرجانات العالمية التي تقام بأجواء طقوسية مهيبة تتابعها أنظار العالم.

تقدّم السينما اليوم كل ما يخطر على بال المشاهد، فأيًا كان اهتمامك وانتماؤك لا بدّ أن تجد بين زحمة الأفلام ما يعجبك، وهي في وصولها إلى المنازل تقدم مزية جديدة لمحبي المشاهَد أكثر من المقروء.

لعلّ أكثر مواضيع السينما التي لاقت اهتمامًا واسعًا، تلك التي تناولت القضايا التاريخية والسير الذاتية، وهي في صنعتها هذه تهدف إما لتوثيق ما جرى أو فرض نظرية تتبناها جهة ما، أو تصبّ في مصلحة الأقوى الذي يتحكم بكبرى شركات صناعة الأفلام، وهي إذ توجّه فكر المشاهد لتبني قضية ما، فإنها تستخدم كل قدراتها الإبداعية للتأثير الدقيق والبطيء في أفكار المشاهد جيلًا بعد جيل.

لم تشهد السينما العالمية احتفاء بقضية ما كتلك التي تناولت المحرقة “الهولوكوست”، سواء تلك التي تعرّضت لها في طي حديثها عن الحرب العالمية الثانية، أو الأفلام التي تناولت شخصية هتلر، أو التي صُنعت خصيصًا لتخليد أحداث المحرقة.

اللافت للنظر أن نسبة كبيرة من هذه الأفلام قدمتها ألمانيا في ضوء ما عُرف بالمسؤولية التاريخية الألمانية عن الهولوكوست وترسيخ عقدة الذنب الأوروبية، وهي تتلاقى في هذه النقطة مع الأفلام الأمريكية التي تحدثت عن تاريخ العبيد في أمريكا وترسيخ عقدة الذنب الأمركية، ونسبة كبيرة من هذه الأفلام أنتجتها أمريكا، في حين أنتجت إسرائيل أقل من عشرة أفلام!

استطاعت تلك الأفلام رسم صورة متكاملة، فالقصص والمشاهد صارت مكررة بأكثر من فيلم، وهي تقدم لك القضية بأي صورة أحببت، فإن كنت من كارهي المشاهد الفجة التي تصوّر القتل والتعذيب المروّع فهي قدمت لك فيلم “الحياة جميلة Life Is Beautiful” الذي تناول المحرقة بأسلوب الكوميديا سوداء، حيث نال هذا الفيلم ما يزيد على 40 جائزة وسمّي بفيلم الجوائز [2]، أما إن كان لديك الفضول في الاطلاع على حياة الناس العاديين فقد قدمت لك فيلم “عازف البيانو The Pianist” الذي نال أيضا 33 جائزة [3]، ولم يفت تلك الأفلام أن تمثل لك الجانب الآخر لمشاركين في المحرقة فقدمت أفلامًا لمشاركين فيها بصورة ما كالجنود المجبرين على الحراسة.

ولا يملك المشاهد المجرّد من الحقائق السابقة واللاحقة على وقوع الهولوكوست عند مشاهدته لفيلم “قائمة شندلر Schindlers List” والذي نال 34 جائزة [4]، لا يملك إلا أن يتعاطف مع أحداث الفيلم والتي نجح في تصوير معاناتهم أيّما نجاح، فالمشاهد المجرّد يمكن أن يرى أن هذا الشعب الذي طال عذابه لا بُدّ أنّه يستحق الحصول على وطن!

يتحدث الفيلم عن مسيحي ألماني نافذ يمتلك مصنعًا للأدوات المنزلية، ينجح في إقناع السلطات بتشغيل اليهود في المعامل كقوّة بشريّة بدلًا من تصفيتهم، فيشغل 1200 عامل في مصنعه مجنبًا بذلك هذا العدد من موت محقق، ويسرد الفيلم أحداثًا سوداوية بالأبيض والأسود ويصوّرها تصويرًا فجًا محاكيًا بذلك الأحداث المروعة التي ارتكبتها النازية الألمانية والتي تتشابه في كثير من صورها مع “النازية الأسدية” في سوريا.

يعتبر الفيلم تخليدًا لذكرى المحرقة بالدرجة الأولى وتخليدًا لأوسكار شنلدر، في نهاية الفيلم ربما فات المخرج والكاتب وأبطال الفيلم والمنتج، ولربما يفوت المشاهد إن لم يتخذ موقفًا من قضيته، فاتهم جميعا أن أوسكار دُعي بعد ذلك إلى مدينة القدس لزرع شجرة في أحد أحيائها، أوسكار الذي مات في ألمانيا نقلت جثته إلى القدس، فاتهم جميعًا أن يخبرونا كيف وصل أوسكار الى القدس؟ كيف وصل اليهود إلى القدس؟ هكذا يختتم الفيلم بصورة لقبر أوسكار وحوله ناجين من المحرقة يزورون قبره في “وطنهم” فلسطين، لكن كيف وصلوا إلى القدس وأين أهل القدس؟ فهذا ما تورّع الفيلم عن ذكره لئلا يمسّ بذلك أي تشكيك للأيقونة “الهولوكوست”.

الهولوكوست بأعين الكتّاب الغربيين
تعرضت قضية الهولوكوست لحملة كبيرة من التشكيك بوقوعها بالأعداد والصورة التي أظهرتها السينما والكتب، إذ تشير بعض التقارير لاستحالة مقتل الملايين في أفران الغاز، وشكك البعض بوجود أفران الغاز أصلًا، وقاد هذا الإنكار بول راسنييه (1967)[5] إذ يعتبر كتابه “دراما اليهود الأوروبيين Le drame des Juifs européens ” من الوثائق الهامّة التي تناولت قضية المحرقة وفنّدت الأقاويل حولها.

صحيح أن ما كتبه راسنييه لم يكن الأول في إنكار المحرقة فقد سبقه الكاتب الأمريكي فرانسيز باركر يوكي في كتابه “الحكم المطلق”، إلا أن راسنييه بصفته أحد نزلاء المعسكرات النازية لاقى تشكيكه ضجة كبيرة، وزاد الطين بلة حين وصف أعمال التعذيب التي مارسها الألمان بأنها لا تقل بشاعة عن تلك التي مارستها القوات الفرنسية إبان احتلالها للجزائر حيث كان راسنييه جندي في الجيش الفرنسي[6].

ويعتبر الكاتب والمؤرخ الأمريكي هاري بازنز (1968) عرّاب أفكار راسنييه الذي ترجم أعماله إلى الإنكليزية.

أما الأستاذ الجامعي والمفكر الجريء روبرت فوركسيون[7] (2018) فقد كلّفه إنكارها إعفاءه من منصبه الجامعي في كلية الآداب في فرنسا بتهمة معاداة السامية، وتعرض للضرب من قبل مجموعة من منظمة “أبناء ذكرى اليهود”، كذلك تعرض روجيه غارودي (2012) للمحاكمة بسبب تشكيكه في أعداد ضحايا الهولوكوست في كتابه “الأساطير المؤسسة لإسرائيل”.

من الهولوكوست إلى إسرائيل
لم تكن تنتهي أحداث الحرب العالمية الثانية حتى أُعلن عن قيام “دولة إسرائيل” عام 1948، هذا التلاحم الزماني يفرض نظرية منطقية تربط أحداث المحرقة بقيام إسرائيل، تقول النظرية أن المحرقة أمرٌ مدبّر من قبل الصهيونية التي تلاقت مصالحها مع مصالح النازية ونجحت في نصب فزّاعة لليهود وللعالم اسمها “أفران الغاز” دفعت بها تجاه اليهود لتبقيهم في حالة خوف دائم من عدو يفوق إجرامه الخيال، ليندفعوا مهرولين إلى أحضان بريطانيا لحل مشكلة اليهود الناجين من المحرقة، مهيّأة بذلك جوًا مناسبًا يمهد لتقبل اليهود الفارين من جحيم النازية أولًا، وتقبل العالم أخيرًا لفكرة وطن قومي لليهود في بقعة ما، وتم استثمار معاناتهم بشكل سياسي وربطه بقضية دينية “أرض الميعاد” يضمنون بها ولاء الناس لهم دائمًا، وهي سياسة دأبت عليها سياسات الدول الكبرى، في صناعة فزّاعات تعرّض شعوبها لها بين الحين والحين، ضامنة بذلك رجوعهم إلى حظيرة الطاعة وتفضيلهم لقاداتهم على أي سيناريو آخر، ويزيد الأمر تعقيدًا إن لُفّ المستهدَف والمستهدِف بهالة دينية.

من دفع ثمن الهولوكوست
في مغازلة فاضحة بين إسرائيل وألمانيا أثنى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هتلر قائلًا أنّ هتلر لم يكن يريد قتل اليهود وليست له مصلحة بذلك لولا نصيحة أمين الحسيني مفتي القدس، الذي زار هتلر وأقنعه بضرورة إحراق اليهود وكبح شرّهم، الأمر الذي اعتبره الإسرائيليون نكتة ساذجة تُبرئ هتلر بصورة ما، حيث وصف توم سيغيف المؤرخ الإسرائيلي تصريح نتنياهو بالحكاية الخيالية وفنّد هذا الادّعاء. [8]

بات واضحًا أننا نعيش في عصر تحكمه المشاعر الآنيّة، نذرف الدموع أمام شاشاتنا على كبريات الأحداث التي تمسّنا وجودًا وامتدادًا “فلسطين، بغداد، الموصل، حلب، حمص”، ثم نعود إلى دائرة عيشنا وندور ضمن دائرة مغلقة، فالكتابة والتوثيق إن لم تقدما حلولًا لنا نحن المقيّدين، فإنها قد تكون وثائق بيد أجيال قادمة تُبقيهم على دراية بما ضاع منهم فيسعون ربما لاستعادته.

لا يمكن للقضايا الإنسانية الكبيرة أن تُترك لمطلبها بلا استغلال يحوّلها من قضايا عادلة إلى مطايا وأسواق يروّج فيها كلٌ لبضاعته، وسواء اتفقنا مع هذا الترويج أو اختلفنا معه فإن ما يعنينا من كل هذه الفوضى ووسط أصوات الباعة المتداخلة، أن تستفيد تلك القضايا الإنسانية من “تجارة القضايا” لو صحّت التسمية، فهناك أعمال فردية أو مؤسساتية محمودة لكنها بالكاد تُسمع أو تتاح لها حرية حركة يسيرة، وهي إذ تحاول ترميم ما يمكن ترميمه فإنها رغم كلّ جهودها إنما تجمّل القبح أو تخدع أبصارنا أو تؤخر انهيارنا.

ليس مرفوضا على سبيل المثال أن تقام مؤتمرات لتنظيم منهاج دراسيّ موحد للطلاب المهجّرين من أوطانهم، يعرض في هذه المؤتمرات كلٌ بضاعته، لكنه مرفوض تمامًا أن تتحول تلك المؤتمرات إلى مهرجانات سنوية تجتمع فيها النخب الثقافية وتنفض عن عبث يزيد إلى تلك القضايا عبئًا بدل أن ينزع عنها واحدًا، ويبقى الطالب الذي لأجله عقد المؤتمر بلا مدرسة أو يدرس منهاجًا ذمّه المؤتمرون.

سرد القضايا الكبرى يُعرض للتزييف الذي يخدم طرفًا ما، لكن مع وجود النقّاد والمراقبين يستطيع المعنيّ بتاريخ ما اليوم أن يصوّب أخطاء السينما، وبالتالي ينزع عن الحقيقة قشور التدليس، فرغم كل الانتقادات التي وجّهت إلى المسلسل الأمريكي “جذور Roots” واتّهام كاتبه أليكس هيلي  بتزوير بعض الحقائق فقد نجح المسلسل بتوثيق تلك الحقبة السوداء بحق أمريكا عن تجارة العبيد الأفارقة، ورغم كل الانتقادات الموجهة إلى التلاعب بأرقام الضحايا اليهود فإن السينما ما زالت تنتج أفلاما عنها كلّ عام وتعيد الرواية نفسها من غير أن تسلط الضوء على الأقوام الذين ذاقوا نار النازية أيضًا، مثل الغجر، جماعة شهود يهوه، الشواذ، المعاقين..، لكن كمّ الضخ من الأفلام المدلسة للواقع يصعّب عملية النقّاد، ويبدو أن تصحيح تلك المعلومات سيغدو بعد جيلٍ أو جيلين؛ ماضٍ يتيم لا يعرفه إلا قليل، فهذه الجمعية العامة للأمم المتحدة تصدر عام 2005 قرارًا “برفض أي إنكار للمحرقة كحدث تاريخي سواء بشكل جزئي أو كلّي”، متبنية بذلك الرواية اليهودية بقضها وقضيضها، وهو القرار المعمول به في فرنسا، النمسا، سويسرا، إيطاليا، بلجيكا، بولندا، النمسا، المجر، وألمانيا، والتهمة حاضرة دائمًا “معاداة الساميّة”.

لماذا تستمر الدعاية للهولوكوست
تمت محاكمة المسؤولين عن المحرقة، وما زالت ألمانيا تدفع تعويضات لليهود المتضررين من المحرقة منذ عام 1952م في اتفاقية لوكسمبورغ، وتبعتها اتفاقية أخرى في العام ذاته، وآخر اتفاقية تعويض قدمتها ألمانيا كانت عام 2012 شملت 80 ألف يهودي ثلثهم في إسرائيل[9]. وسواء يحق لإسرائيل أن تأخذ القسم الأكبر من تلك التعويضات -باعتبارها لم تكن أصلًا- أو لا يحق لها، فإننا نذكر ما كان لا ما يجب أن يكون. والواقع أن إسرائيل استخدمت تلك التعويضات لتوطين اليهود في إسرائيل، ورغم أن الأمر لاقى ردود فعل رافضة لتحويل قضيتهم إلى قضية سياسية، فالتعويضات الألمانية تبقى “تعويض ما لا يعوّض”، حيث بلغ حجم التعويضات المادية التي قدّمتها ألمانيا منذ عام 1952 إلى يومنا قرابة 70 مليار دولار [10].

ورغم كل ما جرى فإن الدعاية للهولوكوست ما زالت قائمة، يديرها اليوم من لم يكن مكترثًا بقضيتهم بالأمس، فأمريكا التي يوجّه لها اليهود تهمة التخلي عنهم، هي نفسها تنتج أكبر الأفلام عنهم.

يقول جوزيف مسعد الأستاذ المساعد في قسم السياسة وتاريخ الفكر الحديث في جامعة كولومبيا في تعقيب له على كتاب بيتر نوفيك “المحرقة في الحياة الأمريكية”: “مصلحة أمريكا من تبني مشروع الوعي بالمحرقة هو الاستفادة من توظيفها، بأن ما فعلته أمريكا بالأفارقة أو سكان أمريكا الأصليين لا يقارن بما فعله الألمان”. أضف إلى ذلك الأرباح الخيالية التي تجنيها هوليود، البقرة الذهبية لأمريكا، من أفلام المحرقة.

قضايانا العربيّة اليوم مادة دسمة لصناعة الأفلام ولا تحتاج لا لتزوير ولا تعديل، نحتاج إلى من ينقلها كما هي، نكاد اليوم نصرخ في المعنيّين قائلين: “أنتم أيضًا تاجروا بقضايانا” إن كان هذا يوثّقها، وإن توثيقها لأضعف الإنسانيّة.


الهوامش

[1] http://cutt.us/gE0Np دراسة عن تكلفة إنتاج الأفلام والمرابح التي تجنيها الشركات المنتجة

[2] http://cutt.us/XriS

[3] http://cutt.us/3jPyi

[4] http://cutt.us/IhSOA

[5] كاتب وناشط سياسي فرنسي ولد في فرنسا1906م

[6] الإرهاب الفكري أشكاله وممارساته، جلال الدين محمد صالح، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، ط1، ص 45.

[7] حوار مترجم معه يوضّح فيه أسباب تشكيكه بالهولوكست http://cutt.us/uamuz

[8] http://cutt.us/ksKfx

[9] http://cutt.us/l7q3X

[10] http://cutt.us/aCLD7

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد