قسوة القلب.. داء الروح الذي كشفه الوباء
لا يختلف اثنان اليوم على كون فيروس كورونا المستجد من أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، فحتى منتصف مايو 2020، لقي أكثر من 290 ألف شخص حول العالم مصرعهم بالوباء.
وبينما قيادات العالم في توجس وترقب مما قد تجلبه الأيام القادمة؛ تجد كثيراً من شبابنا غارقين في لهو وسخرية وغفلة أمام هذا الابتلاء الربّاني، فلا هم يشعرون بعظم الامتحان و قرب الموت، ولا هم يفرّون إلى الله ليكشف الغمة. فما توصيف هذه الحال؟ وما الذي أدى بنا إليها؟
الوباء يمتحننا فهل ننجح؟
أخبرنا الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم كثيراً من أحوال الأمم السابقة لنتعظ بحالهم ونتجنب أخطائهم. ومن تلك الأحوال أنه سبحانه أرسل إلى أقوامٍ غابرةٍ ابتعدت عن سبيل الرشد أنواعاً من الابتلاء، من ضيق عيشٍ وفقرٍ وأمراضٍ، لعلهم تحت وطأة الشدة يفيقوا من غفلتهم ويتضرعوا إلى الله مولاهم، ويتذللوا له ويدعوه وحده أن يرفع عنهم البلاء بقلوبٍ مخلصة فيكون البلاء منحةٍ لهم إن ردهم لدينهم [1,2]. قال تعالى:{ولقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]
لكنّ هؤلاء الأقوام لم ينتفعوا بهذه الفرص كما ينبغي. لم يلجؤوا إلى الله ولم يرجعوا عن عنادهم، ولم ترد الشدة إليهم وعيهم ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم مايقعون فيه. ذلك لأن قلوبهم تحجرت فلم تعد الشدة تردها إلى الله ، وماتت فلم تعد الشدة تثير فيها الإحساس [1,2]. قال سبحانه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 43]
فالقرآن يخبرنا أنّ من لا يدفعه البلاء للفرار إلى الله إنما هو مريضٌ بقسوة القلب، وأن هذا المرض خطرٌ عظيم أشدّ من البلاء نفسه بكثير، إذ أنه يهدد الروح الباقية لا الجسد الفاني. ففي الآية التالية تظهر عاقبة من لم يعتبر بالمحنة:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: [44-45] إنه الاستدراج الذي يتبعه أخذٌ قوي شديد من الله سبحانه على حين غرة ولهو، أعاذنا الله وإياكم.
فالآيات السابقة ترشدنا أن نتعامل مع البلاء باعتباره تذكرة ودفعةً تردّنا لدرب الحق، لا أن نتجاهل آيات الله فيه ونواجهه بالسخرية والغفلة. وفيروس كورونا المستجد هو نوعٌ من المحن التي أرسلها الله لنا كما أرسل إلى من قبلنا من عجيب الآيات ليعتبروا ويتذكروا. قال تعالى: {ولَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] لكن آل فرعون لم يتعظوا كما نعلم، فخسروا بذلك دنياهم وآخرتهم.
فهذا الذي يسميه الغرب عدواً هو في حقيقته آية من آيات الله أرسلها على عباده، وسيكشفها إذا شاء بأمره، ولكن المهم هو حالنا نحن أمامها. هل ستردنا إلى الله أم ستظهر حقيقة مرضٍ في قلوبنا؟
إن مواجهة البلاء والأزمات بالنكات والتذمر واللهو لا تدل على صلاح القلب، فهذه الأساليب وإن بدت في ظاهرها طرقاً بريئة لتنفيس مشاعر سلبية متعلقة بالحجر، فهي في حقيقتها حيلٌ من الشيطان ليمنعنا عن التأمل في حقيقة الامتحان، فهو يقنعنا أننا نتسلى عن الهموم بينما تنبت الغفلة في قلوبنا وتورثنا تهاوناً بآيات الله سبحانه. ومن حيل الشيطان التي لحظتها في كثير ممن أحسبهم على خير أنه أوهمهم أن إيمانهم بالله وتوكلهم عليه تجاوز بهم الخوف من الموت فصار الوباء بالنسبة لهم أمراً عادياً، وهذه خدعةٌ خطيرة في ذاتها، فالمؤمن كلما زاد قرباً من الله ازداد خشية منه سبحانه، ولا تناقض بين الرجاء والخوف [3]. ولما كان كيد الشيطان ضعيفاً عاد سبب نجاحه في حيله إلى قسوة في قلوبنا التي لم تعد الشدة تدفعها لصدق اللجوء لمولاها.
ولذا أدعوكم ونفسي للتأمل في حقيقة القسوة لنصل إلى مسبباتها وطرق علاجها.
قسوة القلب وخطورتها
قال القرطبي: القسوة هي الصلابة والشدة واليبس والقلب القاسي هو الذي لا يعي الخير ولا يفعله [4]، وقيل: القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه [5]، أوتصلبه ونبوته عن اتباع الحق [6]. وروي عن مالك بن دينار قوله: “ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب “[4].
وقد تتبعتُ مفردة القسوة في القرآن الكريم فوجدت التحذير والتخويف والذمّ مرتبطين بها دوماً. من ذلك قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلالٍ مبين} [ الزمر: 22] فالله عزّ وجل يتوعد بالعذاب الشديد لأصحاب القلوب المتصلبة التي لا تلين بالذكرى [1]. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قلبٍ لا يخشع ومن عين لا تدمع [صححه الألباني].
وقسوة القلب سبب لفساد النفس وخسرانها، إذ أن القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود التي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما شاء فكلها تحت سلطانه وقهره تكتسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله. فهو ملكها وهي المنفذة لأمره، ولا يستقيم لها شيءٌ من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته [7]. ولذا كانت العناية بحال القلب من ضرورات الدين، وقد قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: إن أشرف ما في الإنسان قلبه فهو العالم بالله العامل له الساعي إليه. ومن عرف قلبه عرف ربه، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم ونفوسهم، فمعرفة القلب وصفاته أصل الدين وأساس طريق السالكين [8]. وفي رواية النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَلَا وَإِنَّ في الجسد مضغةٌ إذا صلحت صلح الجسد كله، وَإِذَا فسدت فسد الجسد كله، أَلَا وهي القلب” [متفق عليه].
والقلب هو الذي ينظر الله إليه من العبد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” [صحيح مسلم].
و حبذا لو وجدنا في البلاء الذي نمر به فرصةً لنتبصر في أنفسنا ونقيّم قلوبنا، أقاسيةٌ هي أم لينة؟ هل تدفعها المحن إلى اللجوء إلى الله؟ أم أنها تهرب من الموعظة نحو الملهيات والمشتتات؟ هل تضحك أمام الآية أم تخشع؟ فالأوان لتصحيح المسار لم يفت، وباب التوبة مفتوحٌ طالما في العمر بقية.
الأسباب والعلاج
معرفة أسباب قسوة القلب طريقٌ لمعالجتها وإغلاق أبوابها، وقد وصف علماء الأمة أسباباً عديدة للقسوة: أهمها الشرك بالله بكافة صوره وأشكاله كاعتقاد النفع والضرر في غيره سبحانه، والرياء والتحاكم إلى غير شريعته، وابتغاء غير وجهه بالعمل. ومنها كثرة المعاصي والذنوب بجملتها، فإن تراكمها يولد غطاءً على القلب يفسده ويقسيه [4]، قال سبحانه وتعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14].
وفي هذا المعنى قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ويورثك الذلَّ إدمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيرٌ لنفسك عصيانها
ومن أسباب قسوة القلب نقض العهود والمواثيق [4]، كما قال سبحانه: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} [المائدة:13]
ومنها كثرة الكلام بغير ذكر الله وكثرة الضحك وكثرة الأكل و كثرة النوم فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل [4, 9].
وآخرها كثرة الخلطة، وفي ذلك قال ابن القيم رحمه الله: أما ما تؤثره كثرة الخلطة: فتملأ القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، وتوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما، وضعفا، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم. فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟ [9]
ومن أبرز ما نلاحظ في هذه الأسباب كون معظمها من المباحات، كالطعام والنوم والخلطة بالناس، لكن المبالغة فيها تفسد القلب وتقسيه وتشغله عن ذكر الله والتقرب إليه. فالأكل باعتدال يقوي الجسد على طاعة الله، أما الإسراف فيه فيضعف الروح ويثقل الجسد عما خلق له ويورث كثيراً من الأسقام.
أما عن معالجة قسوة القلب فهي تبدأ بصدق الالتجاء إلى الله وطلب الهداية منه وإعانته على الخشوع والتذلل إليه والانتفاع بآياته، فذلك كله لا يكون إلا بتوفيق الله عزّ وجلّ وفضلِه، ومن ثمّ بمراقبة النفس وإبعادها عن أسباب القسوة السابق ذكرها. ولا شكّ أن ذلك يتطلب جهداً وإخلاصاً لله تعالى في القول والفعل.
ومن سبل تليين القلب كثرة ذكر الله وتلاوة القرآن وتدبر معانيه [4]، قال تبارك وتعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23]
ومنها كذلك كثرة ذكر الموت وزيارة القبور والإحسان لليتامى والمساكين، فعن أب هريرة رضي عن أَبِي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له: “إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم” [أخرجه أحمد وصححه الألباني].
هذا غيضٌ من فيض في معاني إصلاح القلب ومعالجته. أدعوكم لمراجعة المصادر أدناه للاستزادة، أعاننا الله وإياكم على الانتفاع بما علمنا، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
المصادر
- ابن كثير. تفسير القرآن العظيم
- سيد قطب. في ظلال القرآن
- ابن الجوزي. تلبيس اإبليس
- ابن رجب الحنبلي. ذم قسوة القلب
- ابن منظور. لسان العرب
- العز بن عبد السلام. شجرة المعارف
- ابن القيم. إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان
- ابن قدامة المقدسي. مختصر منهاج القاصدين
- ابن القيم. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!