غزل الفقهاء المسلمين

image_print

الصورة النمطية التي يُنظر فيها إلى العالِم المسلم هي صورة الجدية، وتناول الأمور بشكل رسمي، فلم يعتد المسلمون وغيرهم من عالِم الشريعة أن يتناول في حياته أموراً ربما يعتقد أنها من اللهو وإضاعة الوقت! إلا أن المتأمل لحال العلماء الربانيين يلحظ جيداً ذلك الجانب الآخر في حياته، بعيداً عن الفقه وتشعباته، وعلم الكلام ومقالاته، وبعيداً عن الوعظ والإرشاد، والترغيب والترهيب، بل هي الحياة الشخصية للعالم المسلم بما فيها من أدب وشعر ولهو وغيره.

والنقطة التي أود تسليط الضوء عليها في هذا المقال هي: موقف العلماء المسلمين من شعر الغزل خاصة، لما فيه من خصوصية في النفوس، وتأثير على الروح، لا سيما وأن غالبهم قد عايش البيئة العربية التي اتخذت من الشعر صناعة لها، وأقاموا له الأندية والأسواق الأدبية، بل كان عندهم ما يعرف بالنسيب، وهو أن يبدأ الشاعر قصيدته بمطلع غزلي يتغزل فيه بمحبوبته، حقيقة كانت أو وهماً، ولن أتكلم عن حال العرب مع شعر الغزل قبل الإسلام لكثرة ما كتب عنه، ولكنني أتكلم عن شعر الغزل في صدر الإسلام، وموقف علماء المسلمين منه عبر العصور، وهذا موضوع لم يُطرَق كثيراً.

ولا يشك عاقل في تلك الحالة النفسية التي يشعر بها الإنسان إذا قيل له: إن العالم الفلاني يمتهن شعر الغزل ويتغزل بالنساء. فهذه الحالة النفسية تتمثل بنوع من الشبهة التي ترتسم في مخيلته، ومن استغراب وتساؤل حول كون هذا العالم أصابه العشق والحب، واكتوى بناره، حتى أصبح العالِم المسلم الذي يقتحم هذا المجال من الفن والأدب والشعر موضع شبهة عند العوام وطلبة العلم، ولا يسلم من الغمز واللمز، إلا أننا سنحاول البحث عن حقيقة هذا الأمر، وسنجلي الصورة كما عرفها العلماء الربانيون، وكما أخذوها من الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولذلك قال الشيخ علي الطنطاوي: “قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين وقد سقط إليه عدد من مجلة الرسالة، فيه مقالة لي في الحب: ما لك والحب؟ وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب أو يعرضوا للغزل، إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزه الله نبيه عن الشعر، وترفّع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرح الشافعي أنه يزري بهم، ولو لا ذلك كان أشعر من لبيد…” [انظر: من غزل الفقهاء، ص: 5].

الغزل في عهد النبوة والخلفاء
لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم الشعر، ولم يتخذه صنعة، وقد نزهه الله عن أن يكون شاعراً، ونفى عنه الشعر وصنعته في القرآن الكريم، فقال: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}، وقد حمل ذلك بعض الفقهاء على محمل أن الشعر قبيح، ولذلك نزه الله نبيه عنه.

إلا أن المتأمل للآيات الكريمة التي تكلمت عن الشعر يجد أن الله تعالى نفى عنه الشعر لا لقبحه وإنما في مقابلة التهمة التي اتهم المشركون بها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اتهموه بأنه شاعر، وأنه هو من قال القرآن الكريم، لينفوا بذلك أنه كلام رب العالمين، قال تعالى: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر} [الأنبياء، 5]، وقال: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور، 30].

ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع للشعر، وكان يستدل به، بل استمع لكعب بن زهير وهو يلقي شعر الغزل بين يديه، ولم ينكر عليه فعله، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفجر ثم جلس، فجاءه كعب فسلم عليه وألقى قصيدة طويلة فيها مدح للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان مطلعها غزلي بحت، فقال فيها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ         متيَّم إثرها لم يُفْدَ مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا          إلا أغنُّ غضيضُ الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة             لا يشتكى قصر منها ولا طول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت               كأنه منهل بالراح معلول

وهذا غزل صريح، فيه ما فيه من التشبيه، ثم يسترسل كعب بنسيبه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يسمع وينصت، ولم ينهره أو يسكته، بل كان مهتماً فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول له: لو قلت كذا وكذا، فدل ذلك على أنه كان ينصت.

ولا يحتج محتج بأن هذه القصة ضعيفة ولم تثبت فأكثر المحدثين على ثبوتها، بل بعض الفقهاء ألف كتباً في صحتها، كالشيخ إسماعيل الأنصاري الذي كتب “القول المستجاد في صحة قصيدة بانت سعاد”، وكذلك الدكتور سعود الفنيسان كتب “توثيق قصيدة بانت سعاد في المتن والإسناد”.

وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يتمثل بشعر الغزل، وأن ابن عباس كان يجلس مع عمر بن أبي ربيعة، وهو شاعر الغزل المعروف والمشهور به، فكان يسمع منه، ويروي للناس شعره، ويتمثل به.

الغزل عند العلماء المسلمين
والأمثلة على ذلك كثيرة، وهي تبين موقف علماء من الأمة من هذه القضية بشكل قاطع، وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي في كتابه “من غزل الفقهاء” أمثلة على ذلك، فنقل عن الحسن البصري أنه كان يتمثل في مجالسه بقول الشاعر:

اليوم عندك دلها وحديثها                وغداً لغيرك كفها والمعصم

وانظر كيف يتكلم الحسن البصري عن دلالها، وحديثها، ولم يجد حرجاً في ذلك.

كما نقل عن سعيد بن المسيب أته سمع مغنياً يغني:

تضوَّع مسكاً بطن نعمان إن مشت            به زينب في نسوة خفرات

فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ سماعه، ثم راح يعارض هذا البيت بأبيات رائعة، فقال فيها:

وليست كأخرى أوسعت جيب درعها        وأبدت بنان الكف للجمرات

وعالت فتات المسك وخفاً مرجلا          على مثل بدر لاح في الظلمات

وقامت تراءى يوم جمع فأفتنت              برؤيتها من راح من عرفات

ومن الفقهاء الشعراء عروة بن أذينة، وهو فقيه محدث وشيخ الإمام مالك رحمه الله، وقد نقل عنه الكثير من شعر الغزل، ومنه:

إن التي زعمت فؤادك ملها            خلقت هواك كما خلقت هوى لها

فبك الذي زعمت بها وكلاكما            يبدي لصاحبه الصبابة كلها

وهي قصيدة طويلة، من عيون قصائد الغزل العربي، ولما سمعها أبو السائب المخزومي حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل، وكأنه لما سمعها أكل وشرب، فاكتفى بها واستغنى عنهما.

وكان إمام المدينة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود شاعراً متغزلاً، وهو من الفقهاء السبعة للمدينة المنورة، وكان يقول شعر الغزل، ومنه:

شققت القلب ثم ذررت فيه             هواك فليم فالتام الفطور

تغلغل حب عشمة في فؤادي           فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب            ولا حزن ولم يبلغ سرور

وكان ابن المسيب إذا لقي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقول له: أأنت الفقيه الشاعر؟ فيقول: لابد للمصدور من أن ينفث، فلا ينكر عليه ابن المسيب.

ومن شعره أيضاً:

كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم        ولامك أقوام ولومهم ظلم

ونمَّ عليك الكاشحون وقبلهم             عليك الهوى قم نم لو نفع النم

وزادك إغراء بها طول بخلها          عليك وأبلى لحم أعظمك الهم

فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة       على إثر هند أو كمن سقي السم

ألا من لنفس لا تموت فينقضي          شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

ومن الفقهاء الشعراء الغزليين أبي السعادات أسعد بن يحيى السنجاري، وهو من فقهاء الشافعية، ومن شعره الغزلي:

وهواك ما خطر السلو بباله           ولأنت أعلم في الغرام بحاله

ومتى وشى واش إليك بأنه             سال هواك فذاك من عذاله

ومنهم أيضاً الشيخ الشهرزوري الصوفي، ومن غزله:

فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفة              عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري

وغابت شموس الوصل عني وأظلمت         مسالكه حتى تحيرت في أمري

ومنهم الإمام ظهير الدين الأهوازي، ومن شعره:

وإني لأبدي في هواك تجلدا              وفي القلب مني لوعة وغليل

فلا تحسبن أني سلوت فربما             ترى صحة بالمرء وهو عليل

ومنهم إمام الصوفية في زمانه أبو القاسم القشيري، وهو فقيه كبير، ومفسر ومحدث، فقال:

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا              ورأيت كيف تكرر التوديعا

لعلمت أن من الدموع محدثاً           وعلمت أن من الحديث دموعا

ومن شعره:

ومن كان في طول الهوى ذاق لذة           فإني من ليلي لها غير ذائق

وأكبر شيء نلته من وصالها               أماني لم تصدق كخطفة بارق

وكذلك القاضي عبد الوهاب المالكي، وهو فقيه مالكي مشهور، وكان من شعره وغزله:

ونائمة قبَّلتها فتنبهت                       وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد

فقلت لها إني فديتك غاصب               وما حكموا في غاصب بسوى الرد

خذيها وكفّي عن أثيم ظلامة              وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد

فقالت قصاصاً يشهد العقل أنه           على كبد الجاني ألذ من الشهد

فباتت يميني وهي هميان خصرها      وباتت يساري وهي واسطة العقد

فقالت ألم تخبر بأنك زاهد؟               فقلت: بلى، ما زلت أزهد في الزهد

وأما القاضي الجرجاني علي بن عبد العزيز، الفقيه الشافعي، فمن غزله:

ما لي ومالك يا فراق                 أبداً رحيل وانطلاق

 يا نفس موتي بعدهم                 فكذا يكون الاشتياق

ومنهم أيضاً المؤرخ والفقيه الكبير ابن خلكان، ومن شعره:

أنا والله هالك               آيس من سلامتي

أو أرى القامة التي         قد أقامت قيامتي

وأما الفقيه الظاهري محمد بن داود الظاهري فقد كان يتغزل ويقول:

أنزه في روض المحاسن مقلتي             وأمنع نفسي أن تنال محرما

وأحمد من ثق�� الهوى ما لو أنه              يصب على الصخر الأصم تهدما

ومن فقهاء الشافعية الإمام أبي الفضل الحصكفي، ومن شعره:

أشكو إلى الله من نارين واحدة              في وجنتيه وأخرى منه في كبدي

ومن سقامين سقم قد أحل دمي              من الجفون وسقم حل في جسدي

وبذلك نرى أن العلماء المسلمين عاشوا حياتهم بكل جوانبها، ودل ذلك على أن شعر الغزل من المباحات، ما دام صاحبه قد اجتنب المحرمات، وهذا ما نقله الشيخ الطنطاوي رحمه الله، وهناك غيرهم الكثير، إلا أن المقام ليس للتطويل، بل للتدليل.

مؤلفات المسلمين في الغزل
لم يهمل العلماء المسلمون شعر الغزل بل كانوا يهتمون كثيراً بأخبار العشاق والمحبين، وأشعارهم، وأحوالهم، بل إنهم ألفوا في ذلك مؤلفات، فابن حزم كتب كتابه “طوق الحمامة” وهو في أخبار العشق والمحبين وأشعارهم، بل قد ملأه وحشاه من شعره الغزلي الذي كتبه هو، وابن حزم هو من هو في العلم والفقه، وصاحب كتاب المحلى الشهير.

وقال في خاتمته لما خاف الشبهة من متعصبيه: “وأنا أعلم أنه سينكر بعض المتعصبين علي تأليفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته، وما أحل لأحد أن يظن فيَّ غير ما قصدته، قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم” [طوق الحمامة، ص: 322].

وألف ابن القيم كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين” وهو سفر كبير فيه أخبار العشاق وأشعارهم وقصصهم، بل إنه قال: “والشفاعة للعشاق فيما يجوز من الوصال والتلاقي سنة ماضية وسعي مشكور” [انظر: روضة المحبين، ص: 518].

وألف الجاحظ رسالة في العشق والنساء، وكتب الكندي رسالته المسماة بالزهرة، وهي في الحب والعشق وما شابهه، وألف ابن أبي حجلة ديوان الصبابة، وهو فقيه حنبلي، كما ألف داود الأنطاكي كتابه “تزيين الأسواق في أخبار العشاق”، نقل فيه الكثير من شعر الغزل، وكذلك ألف محمد صديق خان وهو العالم الهندي الكبير كتابه “نشوة السكران من صبهاء تذكار الغزلان”، والشيخ علي الطنطاوي ألف رسالته “من غزل الفقهاء”.

كما تكلم الغزالي عن شعر الغزل وأباحه، فقال الغزالي في الإحياء: “فأما النسيب وهو التشبيه بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر.. والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن، وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة، فإن نزله فلينزله على من يحل له من زوجته وجاريته، فإن نزله على أجنبية فهو العاصي بالتنزيل”.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد