عن تقزيم الاحتفال بالحب!

image_print

كل عام عندما أرى احتفال ما يسمى لدى البعض بعيد الحب أشعر باستغراب شديد، وتثور في ذهني مجموعة من التساؤلات حول إصرارهم على الاحتفال بهذا اليوم على سبيل الحصر، باعتباره عيدًا للحب.

تكلم الكثير من الأفاضل حول مدى مشروعية الاحتفال بهذا اليوم، ومنهم من تكلم أيضا حول المرجعية الغريبة عن مجتمعنا لفكرة هذا اليوم بالتحديد، ولكني هنا أتكلم من زاوية أخرى، وهي الأسئلة التي أسألها لنفسي كلما ثار الجدل حول هذا الموضوع.

وهم الاختزال

هل يمكننا حصر الاحتفال بالحب في يوم ما بعينه، وهل يمكننا حصر الاحتفال به عن طريق ارتداء نوع معين من الألوان، أو إهداء نوع معين من الهدايا؟ أليس هذا تقزيمًا للحب؟

أليس الحب أعمق وأهم من أن يختزل في يوم واحد، أو في لون واحد، أو في نمط واحد من الهدايا، وأساليب التعبير النمطية التي –للغرابة- لا أعرف كيف لا يشعر الناس بالملل منها؟.

إن الحب شيءٌ سامٍ، لا يخالط عملا إلا خرج كأجمل ما يكون، ولا ألمًا إلا هان كأنه لم يكُن، فالحب أساس من أسس الوجود، فإن اختفى من الأرض فذاك مؤشِّر خطيرٌ إلى أنها في أيامها الأخيرة، فالساعة ستقوم على شرار الخلق الذين لا يملكون في قلوبهم ذرَّة من إيمان أو خير أو حب.

إن الله -سبحانه وتعالى- عندما أراد إدخال الأنس على قلب سيدنا آدم في الجنة رزقه بأمنا حواء لتؤنسه في الجنة رغم ما فيها من نعيم، وعندما أراد -جل شأنه- عمارة الأرض أسكن السيدة حواء في قلب سيدنا آدم، وألّف بينهما بالمودة والرحمة، فكان ذلك دستور اقتران الرجل بالمرأة أبد الدهر، فواجها سويًّا مشاق الأرض ومشاكلها، فكان الحب من معينات الله لهما في هذه الحياة، وسببا في  إعمار الأرض، أحد أهم أعمدة ازدهار الحضارات، ومقياس تقدم الأمم أو تخلُّفها.

فالنظام الأسري الذي هو من أهم أسباب تماسك الحضارات أو تخلفها لا نجاح له بغير المودّة الصافية والحبّ الناضج بين الزوج وزوجته، وحبهم لأبنائهم الذين يبادلونهم حبا بحب لا يموت بموتهم بل يُورَّث كابرا عن كابر، ذلك الحب الذي يكون نواة الأسرة التي تعتمد عليها أي حضارة تريد لنفسها الاستمرار والازدهار في مواجهة الحياة.

حين يغدو الحب مكافأة أخرويّة!

الحب شعار أهل الجنة، فبه استحقوا دخولها، وهو المكافأة الكبرى التي سيتمتعون بظلالها في جنان الخلد، ولم لا يكون ذلك، والله قد أدخلهم الجنة لأنهم أحبوه جل جلاله، وأكرمهم بها لأنه يحبهم، فلم يتركهم وحدهم دون إرشاد، فأرسل إليهم رجالا منهم، فعلّموهم الشرع والوحي الذي استمدوه ممن أرسلهم -سبحانه-، ولأنهم جسدوا لهم معاني الحب في صور حيّة، أصبحت نموذجهم الأسمى في الحب، فأصبحوا نجوما ترشد كل من أراد السير في درب الحب.

 إن كل من يقرأ سيرة سيدنا محمد ﷺ بقلب حاضر، لا يملك إلا أن يغسل قلبه بدمع الحب والشوق للقاء هذا الرجل الذي لم يسمح للدنيا بكل أحوالها من خير وشر أن تدنّس قلبه.

فهو الرجل الذي خاض المعارك الضارية دون أن يكره أعداءه لذواتهم، فلم يخض تلك المعارك إلا بدافع ورجاء أن يستخرج من نفوسهم الإيمان بالله -جل وعلا- ، وإلا فكيف تفسر انبهار أشدهم ضراوة بشخصه بمجرد اهتداؤهم لتلك الحقيقة، وما عليك إلا أن تنظر لمآل شخصية مثل عكرمة بن أبي جهل -الذي صرف الجزء الأكبر من حياته في كراهية سيدنا محمد ﷺ ومحاربة دعوته، بل إنه قد ورث هذه الكراهية كما يتبين لك من اسم والده- لتشعر بحقيقة قولي.

وهو ﷺ الرجل الذي وقعت الدنيا تحت أقدامه، فأشاح بوجهه عنها وأعطى منها لمن يعرف أنها قد ترقق قلبه، حتى قالوا عنه إنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

اجعل الحبَّ عظيمًا

إن من أدق المشكلات التي نعاني منها في هذا الإطار هي تسطيح عاطفة الحب وتقزيمها، حتى إننا أصبحنا نريد حصرها في نماذج مؤطرة، فبات الخروج عنها خروجًا عن الحب في نظر مَن رُبِّيَ على تلك النماذج التي تحاول حبس أهم عاطفة على الأرض في أُطرٍ ضيقة لا تستطيع هي والعشرات منها أن تسعه، بل إن عدم الفهم الكامل لعاطفة الحب وما تعنيه، هو السبب الأساسي في الانهيار السريع الذي تتعرض لها مجتمعاتنا، وما عليك إلا أن تلقي نظرة سريعة على أي محكمة خاصة بشؤون الأسرة لتعلم مدى هذا الانهيار!

حلّ هذه المشكلة أن نضع الحب في مكانته الحقيقية التي تليق به، وفهم حقيقة أن الصورة الساذجة التي يصدرها الإعلام لا تمثّل حقيقة الحب، بل إن التضحية والصبر وتحمل المشاق أجزاء لا تنفك عن الحب، وهي الجوانب التي تم إغفالها عند تربية الشباب، فتصيبهم صدمة عندما يجدون أن الواقع مختلف عن الصورة التي تربوا عليها فيظنوا أنهم لم يجدوا الحب الحقيقي، فتضيع أعمارهم وأسرهم التي أنشأوها في بحثهم عن سراب الحب الذي لم يعرفوا حقيقته يومًا.

أسأل الله أن يرزقنا جميعا بحب يصل بنا إلى سعادة الدنيا والآخرة.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد