عندما كان قدوتي “غيفارا”

image_print

لعلها الأنسب لبداية المقال، إنها تلك الآية التي تهز الكيان كلما استذكرتها وتوقفت عندها: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}:[الحج :46]. لأبدأ من تلك الحادثة التي جعلتني أعيد النظر في سيرة الثوريّ “غيفارا”، ذات يوم بينما أنا جالسة بين الحضور في إحدى المحاضرات، رفعت يدي لطرح سؤال تبادر إلى ذهني، قلت -وأنا أحمل كتاب “أحلامي لا تعرف حدودًا” الذي يلخّص حياة الثوري غيفارا- لماذا لا يكتبون عن الرسول صلى الله عليه وسلم (في تلك اللحظة استثقلت الصلاة عليه) كما يكتبون عن تشي غيفارا؟ أريد أن أقرأ كتابًا يتحدث عن سيرته بموضوعيّة كبيرة كهذا الكتاب، فقد مللت من العاطفة التي تشوب كل ما له علاقة في حياتنا الإيمانية واليومية.

أتدري ما المضحك المبكي في الأمر؟ لقد كنت في ذلك السؤال، وفي تلك الأيام أكثر الناس عاطفة، وكان انحيازي لتوجهات كثيرة واضحًا جدّا، وهنا مكمن الخلل!.

على طريق الضياع والرجوع

 أود هنا أن أخط للقارئ أول قاعدة في فهم إلحاد بعض الشباب: كلما زاد تمجيد المرء للعقلانية، وارتفع صراخه بضرورة التفكير منطقيًّا، فاعلم أنه قد انحرف في تفكيره وضاع في متاهة التخبط وعشوائية اللاعقلانية.

أّمّا القاعدة الثانية، فهي أن كثيرًا ممن يميل عن طريق الإيمان لأي سبب كان، لا يريد البحث عن إجابات مطمْئنةٍ، بقدر ما يتلذذ بشهوة الظهور وتسليط الأضواء على نفسه ولو كان ذلك مضرًّا له في الحقيقة.

وهكذا كنتُ، حيث ظننتُ نفسي لمدة طويلة، أنني أذكى من غيري بطرح تساؤلات كهذه وسط المحاضرات!

نظرت إليّ الدكتورة في حنوّ ثم قالت: “توجد العديد من المؤلفات الموضوعية يا وفاء لكنك لم تصادفيها فقط، ولأكن صريحة معك لا يمكن لمن تعلق قلبه بحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب عنه دون تدخّل شيء من العاطفة”

وهنا أودّ أن أخطّ للقارئ ملمحًا مهمًّا في طريق تحوّلي: وهو أنني في رحلة انتكاس فطرتي لم أجد يومًا من هو أشفق عليّ وأرحم بي من نفسي كأصحاب الدعوة الرّبانية وأهل الدعوة إلى الخير، فلم يكن هناك مقابل لإصغائهم لي، لم يعرضوا عليّ الالتحاق بدورات باهظة الثمن ولا شراء أحد الكتب الأغلى مبيعًا.

في تلك الفترة واجهت شبهات كثيرة وبحثت عن إجاباتها في المكان الخطأ، فقد تجنبت المواقع الإسلامية لاقتناعي بأن معلوماتها عاطفية، ومنحازة وهذا غريب حقًّا، ألسنا نأخذ المعلومات العلمية من المواقع الخاصة بها، والمعلومات الطبية من مصادر الطب، وهكذا فإن القضية لا تتعلّق بالفهم بقدر ما تتعلّق بالغشاء الذي ران على قلبي فأعمى بصيرتي.

أصبحت أميل أكثر إلى متابعة من يدعون بأصحاب الفكر التنويري أمثال محمد شحرور، وصاحب اليسار الإسلامي حسن حنفي وصالون علمانيون، إذ لم أكن شخصًا يريد إعلان العداوة على الدين، لكنني نصبت شراع البحث في المستنقع الخطأ لجهلٍ في نفسي.

بالكاد أستطيع نسيان قهقهة أحدهم عندما قلت في أحد المحاضرات في تردد: “أشعر بأن الله غير موجود وفي نفس الوقت خائفة مما قد أجده بعد وفاتي!” ردّ عليَّ باستهزاء قائلًا: “غريب! كيف تخافين العقاب وأنت تشكين في وجود الله!”

في ذلك اليوم قررت أن أثبت على مسار التشكيك، فلم أعد أخشى طرح الأسئلة ورمي الشبهات بل وجدت متعة في ذلك خاصة عند طرحها على طرف لا يحمل الزاد العلمي الكافي للرد، وهنا صرتُ أكثر ميلًا لصحبة الفئات المتمردة من ملحدين ونسويات وكل ما له صلة بالمتعة والسخط على الحياة والمجتمع وحقيقة الوجود.

محمد شحرور

العودة إلى دفء الإيمان

كانت أيامًا قاسية، لقد عشت تلك الفترة حالةً من الشك في ديني ومعتقداتي، وغلبت عليّ السوداوية التي لا مثيل لها في مختلف أمور حياتي، خاصة بعد اهتمامي بمطالعة معظم ما وُضع على رف الأدب الروسي وتيار العدمية الذي جعلني أكنّ ضغينة لجميع أشكال الحياة. أليس هذا الرّائج؟ حالة العمق واللامبالاة!

 كرهت كل مظاهر البهجة وسادت عليّ تلك النظرة التي مفادها أن الحياة مأساة أجبرنا على عيش أدوارها حتى النهاية سواء أحببنا ذلك أم كرهنا ولنا أن ننهيها متى شئنا!

هل ألوم ذلك الشاب على استهزائه بسؤالي؟ بالطبع لا! فلطالما كان التلاوُم طبع الجبناء.

وإذا لخّصت أسباب اضطراب بوصلة إيماني، لوجدتها تقف عند ثلاثة أسباب: الغفلة عن تدبر أسماء الله عز وجل و صفاته، واتباع تريندات الشبهات الفكرية الرائجة دون وعي، الخضوع للإسقاطات النفسية، فتجدني أسقط تجاربي لشخصية على حقائق كبرى، وفوق كل ذلك يمكن أن ألخص هذه الأسباب في كلمتين: (الجهل والهوى).

يسّر الله لي الاهتداء لبعض المواقع التي غسلت موادها عن قلبي ران خبائث الشك، وكان أهل الدعوة سندًا لي يقفون معي في تفكيك الشبهات وردّها..

لقد كان أهم ما تعلّمته أن الدين ليس شيئًا ثانويًّا في حياة الإنسان، بل هو جوهرها ومبدأ القيمة فيها، إلا أننا نغفل عن ذلك ونبتعد عن فهم الدين وأصوله، ونلاحق مشاهير الشبهات لنأخذ عنهم وساوس الشيطان.

 ما حدث قد حدث، ولكن على المرء أن يحسن الإصغاء ويفهم الطرف المقابل قبل أي رد، في المقابل فإنه يجب على الباحث عن الحق ألّا يجعل أخطاء الغير وجهلهم سببا في تجاوز البحث عن الحقائق الكبرى وترك السعي نحو سبيل الحق.

والآن يا قارئ هذه السطور.. دعني أهمس في أذنك كلمات:

بالرغم من رياح الشك التي هاجمتني، إلا أنه لم يغب عن قلبي يوماً حقيقة أن لي خالقًا أعظم من كل ما يحيط بي مهما حاولت التنكّر لذلك، بل كنت أقول في سرّي كل ليلة قبل النوم: “يا من خلقتني أعلم أنك موجود فسخّر لي سُبل معرفتك والوصول إليك” وحاشاه أن يردّ دعائي فهو خالقي ومولاي عزّ وجلّ.

اللهم أرنا الحق حقاًّ ورازقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد