عندما تتحول التربية إلى تجارة
“درّب طفلك كالكلاب” “train your baby like a dog” هذه البداية المؤلمة كانت عنوانًا مزعجًا لبرنامج عرض منذ سنوات على قناة بريطانية، إلا أن عرضه قد توقف بسبب الانتقادات الشديدة الموجّهة له، وقد أعادت قناة ألمانية رسمية شراءه وبدأت عرضه في عام 2021.
هذا العنوان ليس لجذب المشاهد فقط وإنما يصف محتواه بدقة، حيث تقوم مدربة البرنامج والتي هي مدربة كلاب في الواقع، بتحسين سلوك الأطفال باستخدام طرق تدريب الكلاب معتمدة مبدأ “لوحة مفاتيح” يُضغط عليه من قِبلها بعد كل فعل جيد يقوم به الطفل ثم تتم مكافأته بقطعة من الحلوى، وعندما سئلت عن كفائتها لممارسة هكذا عمل، أجابت بأنها حصلت شهادة في تدريب الكلاب سلوكيًّا، حيث إنها –أي الكلاب- تشبه في دماغها دماغ الطفل الإنسان إلى حد ما، إلى جانب قراءتها العديد من الكتب في التربية وتأليف كتب خاصة بالأطفال.
إن الأغرب من هذا كله هو وجود أهلٍ خاضوا هذه التجربة إلى جانب طبيب مختص بالعلاج النفسي يساعد المدربة من خلف شاشة الكترونية، حيث يُقيّم النتائج بحسب ما يُنقل له، ليُقرّ في النهاية بنجاح هذه الطريقة، في خطوة لا يمكن وصفها بأقل من أنها تخلٍّ عن الأمانة المهنيّة.
تحكّم الشبكات والإعلام
في مثل هكذا وضع علينا أن لا نستغرب من رؤية هكذا برامج على شاشاتنا بعد مدة، فالإعلام الفاسد لا يهمه سوى ملء جيوبه بالأموال، ويبدأ الأمر عند وجود قبول لانتشار آراء وأفكار غير المختصين، وتدخلهم في أمور التربية مع غياب المساءلة والمحاسبة بل مع تمجيد الجمهور والإعلام لهم، حيث يصلون لجمهورهم باعتمادهم أسهل وأسرع طريق هو المنصات والشبكات الالكترونية.
تقوم هذه البرامج في جزء كبير منها على الإيهام، سواء بجمال الصورة والكلام أو بأنهم غيّروا حياة كثير من الناس من خلال مشروعهم التجاري، الذي بدأ بعرض تجربة شخصية في التربية ثم ما لبث أن تحول إلى مشروع رائد، هو الذي أوجد ثورة في عالم التربية وأنقذ الطفل من براثن جهل الوالدين والأسلاف.
يستمدون شرعيتهم كلما خَفَت ضوئهم قليلا عن طريق استقطاب المختصين، الذين تفطّن بعد ذلك بعض منهم لخداع هذه المنصات فتخلى عنها بل وحذر منها، وبعضٌ آخر ممن ساندوها وسَحَرهم بريق الشهرة والمال، أو اندفعوا إليها عن حسن نية، فساهموا في تضليل الناس وكانوا تقريبا كالطبيب السابق ذكره المُصفّق لمدربة الكلاب.
ما مؤهلات مُربّي الفضاء الافتراضي؟
من الأفضل أن نسأل أنفسنا هذا السؤال عند التعرض لكل من يقدم نفسه بأي لقب يخص التربية ويعرض منصة لها، ولا مشكلة في عرض التجارب الشخصية، أو أن يساهم غير المختص بأفكار في التربية من واقع تجربته وخبرته، ولكن أن تبقى الأمور ضمن هذا النطاق لا أن تتحول لمشروع يتكلّم في كل ما يخص الطفل من صحة جسدية ونفسية وسلوكية، بل ويسعى لتنميط حلول معينة لمشاكل الطفل المعقدة التي تحتاج لأطباء متخصصين.
ينطلق هؤلاء المربون الافتراضيون من إطلاق ألقاب على أنفسهم، ثم الترويج لمشاريعهم التي لا تعتمد على خلفية علمية أو دراسية وإنما على ازدياد أعداد المتابعين كما يوضّح لنا هذا الفيديو (أم بنكهة الفاشينيستا) الذي يلخص الكثير مما يمكن أن يقال في حقهم.
سأحاول الحديث عن المفاهيم التي يحاولون تصديرها إلينا والتي تؤدي لخلل في سوية النشء والأطفال، فلا أرى مشاريعهم أقل خطرًا عن أي خطر يهدد الأمة، فأبناء اليوم هم حاضرها ومستقبلها، خاصة عندما بدأت بعض نتائج اتّباعهم أفكارهم وأساليبهم تظهر للعلَن، وبدأت الأمهات يشتكين من التشوه الذي طرأ على شخصية أطفالهم.
نظام مونتيسوري .. صنم جديدٌ في عالم التربية!
ثمة مدارس عديدة في التربية يُسوّق لها، ولكن لنتحدث أولا باختصار عن المبدأ الغالب اعتماده من قبل المنصات التربوية لجذب المشاهدين، إنه النظام الذي أسسته “ماريا مونتيسوري” وبات شهيرًا على مختلف الأصعدة في العالم، فما هو؟
يعتمد نظام ماريا مونتيسوري على الاستقلالية والحرية التامة للطفل في اختيار ما يتعلم بعيدا عن ممارسة الضغوطات التقليدية في التعليم، فالطفل والإنسان بحسب ماريا يخضع لأربع مراحل تطورية تبدأ من شهوره الأولى حتى سن الرابعة والعشرين، فإن تُرك لحريته وفطرته في حب التعلم أن يختار ما يريد فإن أفكاره ستتطور خاصة مع وجود البيئة المناسبة الداعمة له، والتي ستحقق أفضل النتائج في بناء إنسان متميز.
بالرغم من وجود أفكار مميزة في هذا النظام يستحق النظر فيها والاستفادة منها، إلا أنه قد استغِلّ من قبل كثيرين من مروجي البرامج التربوية غير المتخصصين، إلى جانب أنّ هذا النظام نفسه لا يخلو من السلبيات، ونتائج اتباعه لا تختلف كثيرًا عن نتائج اتباع الطريقة التقليدية في التعليم، كما أنه نظام لا يناسب جميع الأطفال، فبعض الأطفال يميلون لاتباع القوانين والقواعد المحددة، علاوة على أن بعض أطفال منهج “مونيتسوري” يجدون صعوبة في الانخراط بالمجتمع والالتزام بجو العمل التقليدي لاعتيادهم على الحرية التامة التي تلقّوها في صفوفهم الدرسيّة.
إلى جانب ذلك فإن مواده التعليمية ورياض الأطفال والمدارس المعنية باتباع هذا المنهج مرتفعة الثمن مقارنة برسوم المدارس التقليدية، وأهم من هذا أنها لا تتطرق لتعزيز الجانب الديني في حياة الطفل البتّة، ومن ثمّ فإنه ليس من الإنصاف وصفه بأنه النظام الأمثل في التربية، والحض على بذل الأموال لتعلّم مبادئه واتباع منهجه، طبعًا هذا إن كان ما يُطبّق حقًّا هو نظام المونتيسوري!
دسّ السمّ في العسل!
لنعد لبعض المفاهيم المحيّرة التي تعرضها برامج الفضاء الافتراضي في التربية، مثل: “الحب غير المشروط” و”تقبّل الطفل كما هو”، وهنا يجب التأكيد على أن هذا المفهوم عامّ يحتاج لتفصيل، فإن كان المقصود ألا نشترط الحب للطفل بتحقيقه أمورًا دنيوية، كأن يقال له “أحبك إذا حصّلت أعلى الدرجات الدراسية” وأن نتقبله كما هو بما فيه من ضعف ومرض ونقص لا يد له فيه، فهذا من الصواب، أما ما يرمون إليه من حب الولد وتقبُّله على شتى أحواله وإن ألحد وارتكب الكبائر والمعاصي، وتَركه في ضلاله لأنه حر في اختيار طريقه، فهذا أمر غير ممكن التحقق.
لا يمكن للمرء أن يكره فلذة كبده إلا أنه من الطبيعي أن يكره أفعالهم السيئة، فالولد العاصي أو الكافر أو العاق يجعل والديه من أشقى الناس، وحريٌّ بالوالدين نصح أبنائهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، والدعاء لهم بالهداية والصلاح، فإن أصروا على الباطل وجب نهيهم وزجرهم بحسب الفعل وشدته.
لنا في قصص القرآن عبر لا تنتهي، فعندما أصرّ وَلدُ نوح عليه السلام على بقائه مع القوم الكافرين رغم دعوة أبيه له ليرافقهم في رحلة النجاة، إلا أن إصراره قاده إلى أن يبتلعه الطوفان، عندها لجأ الوالد المكلوم لربه فكان سؤالا واعتذارًا يملأه التأدب مع الله والتسليم له، يسوق الله تعالى الموقف في القرآن: }وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ ]هود:45-47[ لقد كان جواب الله تعالى حاسمًا، “إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ” والسبب معصيته الواضحة لأبيه وربّه.
هناك معنى مشابه لهذا نلتمسه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) [أخرجه الشيخان[، فرغم أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة ابنته كان كبيرا، حتى قال فيها: (إن فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما أذاها).] أخرجه البخاري في صحيحه[ إلا أنه أعلمنا بحديثه أن حب الوالد للولد لا يعني السكوت عن الحق وقبول الخطأ والكفر والعصيان منه بل إن محاولة تصحيح أخطائه ومحاسبته مما يصبّ في مصلحته.
وإذا ما أتينا إلى أهم المبادئ التي ينادي بها مربّو الفضائيات وبرامجها الافتراضية، فإنها تتلخص بفصل الدين عن التربية بحجة صعوبة تعلم الدين والقرآن منذ الصغر، إلا أننا لا نرى منهم موقفًا من تعلم اللغات والجغرافيا والعلوم المختلفة في سنوات الطفل الأولى، بل إن هذا –بحسب تسويغاتهم- مما ينمي مداركه، وهذا لسان حالهم: دع طفلك يستمتع بطفولته وسيتعلم الصلاة عندما يكبر، ودع الفتاة ترتدي ما تشاء من الملابس الكاشفة بعمر صغير وستقرر مستقبلاً -إن أرادت- ارتداء الحجاب، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ولكن هل يعقل أن يأتي الطفل من نفسه عندما يكبر ويبدأ بالصلاة؟ فالإنسان بطبعه يعتاد ما ألفه وتربّى عليه في الصغر، ومن الصعب تغييره عند الكبر إلا أن يشاء الله، ولن يلتزم بأوامر ربه من نفسه إلا إن تشرب حب الله وعرفه منذ نعومة أظفاره وألف سماع القرآن والحشمة والآداب الإسلامية واعتاد عليها حتى أصبحت من طبعه.
إلى جانب هذا المبدأ فإنهم ينادون بمنح الأولاد الحرية المطلقة بمعناها الفاسد، فتشمل حرية الدين والمعتقد والملبس والتصرف في الجسد، وقول: إن أبناءنا أحرار فهذا يعني أن لهم أن يختاروا من أمور الدنيا ما يريدون مالم يتعارض مع الدين، وليس لنا إجبارهم على ما لا يطيقون، إلا أن الحريات الأخرى يَخُطُّ ملامحها الدين، فتشمل العبودية لله وحده واتباع شريعته، وأما الجسد والروح ملك له تعالى ماهي إلا أمانة لدينا فحرّم الله قتل النفس، والجسد جعل الله له حقًّا بحفظه وستره ولو كان لنا حرية التصرف فيهما لكانت هذه الأفعال مباحة، وهذا واجب الأهل بتبليغ أبنائهم رسالة ربهم ثم الهدى يكون من الله، وليس إعطاء الحرية المطلقة من دون تبليغ وتعريف بعظمة خالقهم وجلاله تعريفا كاملاً.
لا تنتظر مقابلًا من أطفالك
هذا مبدأ آخر من أهم المبادئ التي يغرسونها في عقول الأطفال والمشاهدين، ما عليك إلا أن تقوم –أيها الأبوين- بواجبكم تجاه الأولاد، ثم دعوهم لحياتهم الخاصة!.
هل من الصواب أن نعلم الطفل ألا يهتم بوالديه، وأن يهتم بنفسه فقط؟ وهل يوجد مقابل سيكفي حق الوالدين مع ما لاقوه من مشقة في التربية؟ وأين حقهم من أبنائهم الذي شرعه الله لهم؟ ألم يذكر الله فضل الوالدين في القرآن وفي أكثر من موضع وكرمهم ونبيه بأحاديثه حتى كان فضل البقاء معهما أولى من الجهاد:}فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{ ]الإسراء:23،24[.
إن طاعة الوالدين واجبة فيما لا معصية فيه للخالق، وعلى الأولاد بِرّهم، بل إن عقوقهم من أكبر الكبائر، ويجب عليهم مساعدة والديهم بالخدمة والمال إن لم يكونوا قادرين على هذا بأنفسهم، أو أن يستأجروا من يقوم على خدمتهم، والولد الصالح كالصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها بعد الموت.
إن كل تلك المفاهيم توصلنا للمفهوم الأخير وهو “تنميط التربية”، فنرى التركيز الغالب على قشور التربية، لكن مبادئها الحقيقية تغيب، وهي التي تركز على بناء إنسان صالح قوي وسوي لا ينصب تركيزه على نفسه فقط، وبعيدًا عن الضعف والهشاشة النفسية أمام كل عارض يطرأ عليه، بل يعلم أنه جزء من منظومة ومجتمع فيه اختلافات كثيرة له ما له وعليه ما عليه.
هذه التربية المهمّة مغيبة عن برامج التلفاز والفضاء الافتراضي، تلك التربية التي لا تحتاج إلى أموال وقصور وطعام باهظ، التي جعلت من خرج من رحم المعاناة والحروب بطلًا، ومن مريض الجسد عبقريًّا ملهِمًا مبدِعًا، وكم من معلم ومربٍ كان تأثيره بالأجيال من خلال كلامه وعلمه فقط.
إنّ من أخطر المصائب أن تتحول التربية إلى تجارة تتغير مبادئها بحسب السوق وما يطلبه الجمهور، فيُهتم ببيعها وتسويقها لجمال صورتها وكلماتها كما هو الحال مع البضاعة، إما من أجل الشهرة والإعجابات، أو من أجل المال بعيدًا عن محتواها التي تُفرغ منه، فالأولى النظر لهذه المشاريع بعين ناقدة ممحّصة ومحلّلة، وأن نتبع التحليل والنقد بالإصرار على تربية أبنائنا بما يجعلهم مليئين بالعلم والإيمان والأخلاق من الداخل والخارج، ولتكن أفضل مدرسة تربوية نتبعها تلك التي يكون أساسها شريعة ربنا وهدي نبيه.
مصادر للاستزادة:
- https://foundersguide.com/the-pros-cons-of-montessori-education/
- https://www.alfaisalmag.com/?p=16051
- https://www.aljazeera.net/blogs/2020/9/13/
- https://www.aljazeera.net/news/lifestyle/2020/3/8
<a href=”https://www.freepik.com/vectors/background”>Background vector created by vectorpouch – http://www.freepik.com</a>
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!