علماء السلاطين وتحريف مفهوم الطاعة

image_print

لعل من أسوأ أنواع أعداء الحق هم النوع المصاب بداء العجز عن القيام بواجبه، ولكنه يريد لتلك العدوى أن تتسرب لمن حوله، فهو كحامل فيروس خطير يأبى إلا أن يعممه على الجميع.

وهذا النوع أقرب لمريض نفسي يحلل قدراته الانهزامية أكثر من بساطة الفعل الذي عليه أن يقوم به، ومن أشد ذلك النوع خطرا هو الذي يلبس ثوب الدين لعجزه ويطلق مبررات يلبسها أدلة شرعية مقطوعة من سياقها، كالعالم الموالي لنظام استبدادي من أجل مصلحة شخصية، فما إن يراك تتكلم عن تقصير النظام وظلمه حتى يخاطبك بالكلام عن وجوب طاعة ولي الأمر، فيدلس عليك حين يقول لك حقيقة ثابتة ولكنه يغفل أو يتغافل عن ما بين السطور لتلك الحقيقة، فكما هو معروف أن قطع الكلام أو المعنى من سياقه يضر به ويشوش على العوام من أمثالي الذين لا يعلمون بقية ما أُخفِيَ عليهم من الحقيقة.

فلنقم بجولة سريعة لنرى ما هو كامن وراء الحقيقة التي يرفع هؤلاء: “طاعة ولي الأمر واجبة”. طبعا نتفق على وجوبها ولكن لا نتفق على كيفيتها، فلنرجع لكيفية تطبيق الصحابة رضوان الله عليهم لها، لنجد أنه في عهد النبوة كان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون أوحي أم مشورة؟ ولما جاء الصديق رضي الله عنه قال في أول خطبة له: يا أيُّها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم.

ثم الفاروق رضي الله عنه يروى عنه أنه قال يوما في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا، فعاد مرتين، أو ثلاثا، قال بشير بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القدح، قال عمر: أنتم إذن أنتم! ومن هنا نعلم أن الطاعة لا تعني النفاق والخوف من الحاكم وإخفاء الحقائق عليه، وإعانته على نفسه، وإعانته على الظلم، وتصوير له الأشياء على غير حقيقتها، وجعله يظن أنه خُلِق ليسود هذا الشعب. بل العكس، فيروى عن معاوية رضي الله عنه بعد أن اعترض أحد الناس على كلام قاله في خطبة، فقال هو معلقا على ذلك “أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة ـ فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم”.

ففي الحديث “هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراءُ، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض”.

يقال أن عمر بن هبيرة الفزاري لما ولي على العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري وجماعة من العلماء وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم “إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟ فقال ابن هبيرة ما تقول يا حسن فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وبهذه المسلمات والمفاهيم نهضت شعوب وأمم عبر التاريخ وساد العدل وقامت الدول والحضارات عبر العالم، فالكل يعرف قوة القانون الذي تتابع رؤساء سابقين في الولايات المتحدة وحتى الرئيس الحالي والرئيس السابق في فرنسا وفي بريطانيا وسجن رئيسة كوريا الجنوبية السابقة باك غن هيه.

فهنا نعلم أن الطاعة الحقيقية هي التي تجعل المرء يراقب الحقيقة ويذكّر بها من حاد عنها أيا كان، رئيسا وزيرا والدا أخا صديقا، لتسير الناس على هدى وبصيرة من أمرها، بعيدا عن زيف المتمصلحين والمقتاتين على آلام الشعوب من أجل مكاسب شخصية، وجبنا وخوفا من بطش الحاكم.

التعليقات

تعليقات