صناعة المربي.. المهمة الأصعب والأهم!
أثرُ القراءة وضرورتها للأمة، لا بد أننا سمعنا الكثير عن هذه المقولة، ولربما توقفنا كثيرًا عند قوله تعالى: {اقرأ} [العلق: 1] ونودّ لو أنّنا من أهلها.
لابد هنا أن أذكر أنني حتى الأمس كنت أقول: ليت أجيالنا الصاعدة تقرأ، فلو أنها تعمقت في ذلك لتغير بهم حال الأمة وهذا حق لا يختلف عليه المهتمّون.
لكن التأمل في حالنا كأفراد من الأمة والناجحين منها مقارنة بالخاملين المقصرين، وحتى الناجحين من غير أمتنا يجعلنا نقف على أمر وراء القراءة أو تعلّم العلوم.
فكم من قراء نهِمين تفلّتوا؟ وكم حملة شهادات عليا لا يحسنون التفكير؟!
ذلك يقودنا إلى أن العلم وحده الذي اتسعت رقعته وتعددت مساراته وفتحت أبوابه مشرعة للجميع في زمننا هذا لا يصنع إنسانا مسؤولًا متعقّلا يدرك المعاني ويديرها في نفسه وعقله حتى يتخلق بأفضلها ويصيغ بها نفسه حتى تتربى وتتزكى وتتطهّر.
غياب المربي وأزمتنا الكبرى
إن الأزمة الكبرى التي قد تكون تسببت في كثير من الخلل هي أزمة المربّي الذي غفل عن معنى التربية الحقيقة ولم يمتلك أدواتها وكلنا ذلك الشخص إلا من رحم ربي.
تلك المهمة العظيمة والمسلك الأهم في الأمم، هي التي خرّجت أجيالًا صالحة في تاريخنا منذ عهد المربي الأول وحتى يومنا هذا، فإذا غاب المربّي أو اهتزّت وظيفته حدث الخلل في البناء التي ترقى به الأمم وتتفوّق به على غيرها.
لذلك كان السلف يرون أن من اعتمد على الكتاب وحده كثر خطؤه ويرون أن مصاحبة العلماء والفقهاء هي من تصنع العالم أو المفكر، لأنه يتربّى من أفعالهم ويأخذ من تصوراتهم، وتنقش في قلبه طريقتهم في القراءة والتعلم والسؤال والرد ومخاطبة الناس والتعامل معهم وفى قضاء الأوقات والأحوال.
وإذا كان عالم اليوم يسحب دور المربّي شيئا فشيئا ليكون التلقّي من أجهزة صماء لا تملك حسًّا ولا فهمًا لكنها تحمل أفكار الدنيا على سعتها واختلاطها وتشعبها، فإن الأهمية تزداد ليكون لدينا في مواجهة ذلك المربّي الجامد إنسان رباني يدرك قيمة الإنسان ودوره ومهمته في الحياة ويريد أن يعيده إليه.
ولا ريب أن هناك من فَقَدَ المربّي، لكن الله حفظه ورباه ووجهة الوجهة الصحيحة ووجد من خلال بحثه وقراءاته وتعلمه طريقه الذي يتزكّى به ويصبح إنسانًا على ما يحب الله ويرضى، لكن هذا النموذج ليس هو السائد، وليس هو ما يحدث في الغالب، بل الغالب الذي نرى عليه ناشئتنا أنهم أحوج ما يكونون إلى من يأخذ بأيديهم إما من الداخل إذا رزقوا آباء مربّين، وإمّا من خارجه ممّن يدركون هذه الحاجة وفرّغوا أنفسهم لها.
مهمة المربّي
إن مهمّة المربّي لا تتلخّص في تعليم بعض الآداب أو إصلاح بعض خلل السلوك فحسب، بل في إنها تصنع عقلًا مفكرًا ونفسا حريصة على التزكّي..
إنها تعلّم ذلك النشء الصغير أن يستثمر ما وهبه الله من نعم وأولها نعمة العقل، لتدفعه حين يقرأ لأن يفهم ويبحث عن غايات ما وراء اللفظ من المعنى، وتحثّه على أن يستخرج مما يحفظ من القرآن رسالة ربه إليه، فيعتاد أن يأخذ الحياة بقوة، وأن يكون على وعي بكل ما يمر من الخارج إلى عقله، فيمسك به ويتمهّل في تمريره إلى عقله حتى يدرك ما له وما عليه ويجتهد في حماية نفسه وعقله من كل ما يرِد إليه من كلامٍ وصوَرٍ وثقافات وفنون متنوعة يتلبس فيها الحق بالباطل.
والمربّي الحق ليس هو الذي يلقي –فقط- على أسماع طلّابه بين حين وآخر ما يقدر عليه من النصائح والتوجيهات والتكليفات المتعددة الجوانب، بل إنه مع ذلك صاحب رؤية يبصر بها أحوال من يربيه، منذ يكون برعمًا في بستان ناضر متعدد الألوان يسقى بماء واحد، فتراه جنديًّا في معركة اليقظة والوعي، فيقوم بمهمته في السقي والتعهد والرعاية والتدريب وإكساب المهارة والقوة، لا يترك يده حتى يضع الصغير يده على يده ويودعه للقيام بدور مماثل..
الأمر إذن يحتاج لتهيئة وإعداد وتدريب مستمر، حتى يكون المربي على قدر تلك المسؤولية الملقاة على عاتقه، فيرى بعين قلبه ما يحتاجه النشء، ويتمعّن في الحال التي هو عليها من الخلل، فيبحث في صيدليات الوعي والأمة عن العلاج، ويصنع التركيب الأقرب للنفع والوقاية والسداد، ويقدمه مشفقا راجيا أن ينفع الله به ويقبل منه.
مشكلة ضعف المربين
نشأت أجيال منا تظن أنها قد أحسنت صنعًا، وأن لديها من الوعي والفهم ما يحميها من السقوط والغفلة، فلما حان وقت الاختبار وتتابعت رياح السموم ومن قبلها طرقات الإنذار، وجدنا أنفسا في هشاشة بالغة وقلوبنا مائلة تملؤها صيحات الفزع التي لا نملك لها ردا.
بدأ الكبار يبحثون عن أسباب ضعفهم وخذلانهم وعجزهم، فإذا هي صفات وطبائع درجوا عليها ولم ينتبهوا لآثارها، فراح بعضهم يحاول ويسقط ويقوم ويجاهد مع نفسه، وسلّم آخرون لواقعهم وحالهم فلم يراجعوا أنفسهم، ولم يكلّفوها عناء المجاهدة التي لا تكاد تثمر في الكبر إلا قليلا. أما أولئك الواقفون على الثغر فهم وإن عرفوا خطر مواقعهم إلا أن أثر التخليط القابع زمانا في أوعيتهم لا يزال يندفع مرة بعد أخرى، وتظل المجاهدة المدفوعة بالصبر الجميل هي وحدها الأمل المرجو..
فصاحبها بين مد وجزر خلال رحلته لإصلاح نفسه ومن يعول، والتوفيق والهداية للخير من الله، وإنما نمنّي أنفسنا ونرجو الله، ومن ثمّ كانت الوقاية خيرًا من العلاج، وكذلك فإن إعداد النفس إعدادا أصيلا لتكون ربانا يوجه ويشير ويعلم خير من إهمالها، بل إن ذلك يضيّق دائرة الأخطاء ويحمي من آثارها التي قد تقيم في نفوس الأبناء زمنا طويلا.
ليست الأخطاء وحدها منبع الخطر في رحلة البناء والتربية وإنما الغفلة التي ترافق الإنسان، فقد تذهل النفس التي لم تأخذ بحظها من التزكية والفهم والقراءة الواعية عن الشر وعن خداع النفس، فتظن الشر خيرا، أو تظن النصرة فيما يجلب الذلة، وهكذا تتغير الوجهة دون انتباه أو إشارة فارقة.
المربون الذين تحتاجهم الأمة
إننا حين نتحدث عن المربين فإنما نعني أولئك الذين لهم أنفسا قوية تملك نفسها عند الغضب، فلا يخرجها ذلك عن هيبتها ووقارها وعن قيمها ومبادئها التي تدعو لها، ومن يقفون مع كل حدث وقفة صادقة يقرؤون ما وراءه، ويعرفون بم يتزودون له، ومن لديهم القدرة على التفاعل مع الأحداث والمواقف وإدارتها، وفقا لرؤية واضحة يسعون إليها ولفكر ثابت ينتمون إليه.
إننا في حاجة ماسة لمربين يحسنون التعامل مع الطفل من أول يوم يطأ فيه أرض الحياة، يعرفون مهمتهم ويقدرونها حق قدرها، وإن غفلوا أو سهوا قليلا عادوا وتذكروا، لأننا الآن صرنا نبحث عن معالجين ومعدّلي سلوك يصلحون ما أفسدناه في سنوات التعهد الأولى.
ولا نعني بالمربين الآباء والأمهات، بل إن الأمة في حاجة إلى طائفة كبيرة من المربيّن في كل موقع يرتاده الطفل والناشئ، فإذا فُقِد المربي الأب أو المربية الأم وَجَدَ من يأخذ بيده في المسجد أو الشارع أو المركز التعليمي أو غير ذلك
صناعة المربي أملٌ جديد
ليس الأمر بالهيّن ولكنه ليس مستحيلًا أيضًا، ثمة جهود من هنا وهناك تسهِم في تلك الصناعة وتمد المربي بما غاب عنه من أساسيات، لكن القصد أن يتحول هذا الأمر إلى مشروع أمة، وأن ينطلق مربو الأمة من نبع واحد، يروون صغار الأمة وأبناءها، فيشب النشء على غاية واحدة وإن تعددت الوسائل، ويكبرون بروح واحدة وإن اختلفت المشارب والأذواق، بل يمنحهم الاختلاف المحمود قوة وثراء وقدرة على خوض معارك الأمة وأنواء الحياة بما أُشرِبوا من معانٍ متدفقة، وبما أُنضِجوا من تجارب غنية صنعوها بأنفسهم.
إننا وإن كنا نرى واقعًا غارقا في التحديات إلا أن التعامل الجاد مع ذلك الواقع هو الذي يرسم المستقبل، فكما ألجأت تلك التحدّيات إقامة برامج تصنع محاورين وأخرى تبني اليقين الصادق وأخرى تضع البناء المنهجي لطلب العلم بالتدرّج نصب أعينها، فكذلك ينبغي على أهل التخصص والهمّ أن يتهيّؤوا ببرامج تصنع المربي وتهيئه منذ اللحظة الأولى لأداء هذا الدور بحب وهمٍّ أصيل..
نريد أن تكون الوجهة واحدة، وإن اختلفت الوسائل، وتعددت الخطط، التي تقدّر تنوّع البيئات واختلاف الشخصيات وتعدّد أنماطها واتساع محيطها الحالي، نرغب أن توضع أسس البناء وتوجَّه ما يتبقى من جدران ومداخل، وأن يأتي المربّي بعد ذلك ليفتح النوافذ ويُطلِع تلامذته وأبناءه على يراه من خير فيأخذ قبسًا ويهديه للآخرين.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!