صناعة المحتوى.. التجارة الرابحة ولكن!

“يوتيوبر، تيكتوكر، انفلونسر”، إنَّها أكثر الأجوبة التي نتلقاها، بالإضافة إلى “غيمر(Gamer)”،”فاشونيستا” و”لاعب كرة قدم” عندما نَسأل الأجيال الناشئة عن طموحها المهني حينما تكبر، فقد باتت تلك الأعمال تَقبع على رأس طموحات الأجيال المعاصرة، وأعداد الشّباب التي تعمل في صناعة المحتوى بدوامٍ كامل تتزايد عالمياً بشكل كبير، فتُشير توقّعات مؤسّسة غولدمان ساكس المصرفيّة الأشهر في الولايات المتحدة والعالم بأنّ 50 مليون شخص حول العالم يعملون في صناعة المحتوى الرقمي، أما إحصائيّة موقع Statista لعام 2022 تُشير بأن أعداد من يُطلقون على أنفسهم صانعي محتوى تَخطّت 300 مليون شخص في تِسعٍ من الأسواق العالميّة الكبرى[1]، وإن عدنا بالزّمن لما قبل عشرين عاماً من الآن، سنجد الاهتمامات المهنيّة التي تَحتل الأولويّة بالنسبة لجِيل الألفيّة تدور في فضاء المجالات الطبية والهندسية والصحية والخدمات الاجتماعية وبغض النظر عن أسباب اختيارهم لهذه المِهَنِ، لكن لا يمكن نفي وجود توجُّهٍ فَرديّ ومجتمعيّ لدى الأجيال السابقة لخدمة البشرية والوطن والمجتمع.

أنت المحتوى

يرتبط انتشار هذه الظاهرة الحديثة مِن تحوّل الاهتمام المهني والوظيفي من مجالات الخدمة المجتمعية إلى مجالات الخدمة الذاتيّة بجاذبية المال والشهرة التي يتباهى بها مشاهير العالم الافتراضي، مُضافاً إليها الأوهام التي يقدمها هؤلاء عن بساطة وسهولة الحصول على المال دون خبرة أو تعلّم أو اجتهاد بمجرد دخول عالم التواصل الاجتماعي، تقول كاثرين سارة مُؤثرة تيك توك في فيديو لها: “عندما يقوم أحد بإخباري أن عمل صناعة المحتوى ليس عملاً حقيقيّاً، ولكن! تيك توك واحد كفيلٌ بأن يُسدّد الآجار المترتّب عليّ بالكامل”[2]، فمثل هذه العبارات الواهمة، والمحتوى الترفيهي الأقرب للتفاهة والمُوجّه في أكثره إلى الأطفال واليافعين الذين يشكّلون الجمهور الأكبر للمؤثرين وصانعي المحتوى؛ أدّوا بشكل أو بآخر إلى تفاقم هذه الظاهرة، -وسأستثني من ذلك المحتوى الهادف العلمي الرصين والتثقيفي والتوعوي مع تَحفّظي على بعض مَن يُقدّم المزيَّف منها للشهرة-.

ذاك الانتقال السريع من شخص مغمورٍ متوسط الدخل إلى مشهور ثَريٍّ لَهُوَ سحر يأخذ بالألباب، وتحقيق ذلك يبدو ظاهرياً بسيط جداً، لا تحتاج إلّا إلى عدسة الكاميرا لتكون شريكةً لك في كل خطوة تخطوها.

تقول أنجلي كريستين، أستاذ مشارك في جامعة ستانفورد، وباحثة في مجال الصناعة نقلاً عن صحيفة واشنطن بوست: “الكُتَّابُ يُؤلّفون الروايات، والمُلَحِّنون يُؤلّفون الموسيقى، أما مع الانفلونسر، فأنت المحتوى. هم مهتمون بشأنهم الخاص فقط، لا يجب أن يتوقفوا عن خلق أفكارٍ جديدةٍ ليتحدثوا بها عن أنفسهم، عن آرائهم ومشاعرهم، ما يَمرُّون به، وما هي الصعوبات التي يواجهونها، هم عبارة عن شركة بعاملٍ واحد، تقدم منتجات عن نفسها”.[3]

دُمى مَاريونت والحدائق الحيوانية البشرية

 وبين كل هذا البريق تختفي معاني الجوهر والكرامة الإنسانيّة، وتَتبخّر القيمة الأخلاقية والمعنوية لِما يصنع الإنسان وما يَمتهن، وتَغرق الذّات في عالم التفاهة والفراغ، فتأخذ بصاحبها نَشوة الشهرة والمال، وتُحوّله لمَخمُورٍ يعيش في عالم افتراضيّ، غَير مُدركٍ لِما يجري له ومِن حوله، مُستمتعاً بكونه دُمية ماريونت -الدُمى المتحركة التي يتحكم بحركتها شخص عن طريق اليد أو الخيوط أو الأسلاك- يُحرّكها أشخاص آخرون ليُسَلُّوا بها جمهورهم، ولا يُهِمُّ إن كانت تلك الدُمية صُنعت لتكون مُهرِّجاً قبيحاً دَوره التفاهة والمرح، مَا يُهِمُّ أن تبقى الدُمية تتحرك، والجمهور يأتي ويُشاهد، والمال يتدفق، فقد تحول التفكير العام من السعيّ لتولّي المسؤولية الفرديّة والمجتمعية، إلى السَّعي لتحصيل اللّذة الشخصية والتَّمركز حول الذّات مهما كان الثمن؛ أي الفكر الفرداني المادي النفعيّ.

 وللجمهور المُتابع لهؤلاء المشاهير وصُنّاع التفاهة دورٌ مُهمّ في انتشار هذه الظاهرة، فهم مشتركون في المسؤولية ومساهمون في تفاقمها، فدعم المحتوى الفارغ والفاسد أخلاقياً بمشاهدته والإعجاب به، يساعد على انتشاره وزيادة شهرة أصحابه، ولنقرّب الصورة أكثر يمكننا تشبيه دور الجمهور بدور من يتجول في الحدائق الحيوانيّة البشريّة (Human Zoo) والتي وُجدت ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وكانت نتاج الدَّاروينيّة والاعتقاد بتفوق العِرقِ الأبيض بالإضافة إلى الاستعمار، فقد تمَّ عرض بعض الأعراق البشريّة في حدائق حيوانية، بهدف التسلية، وللتذكير بالتفوّق العِرقيّ للغرب، فهل يمكن إعفاء من يذهب للتنزُّه في هذه الحدائق من مسؤولية المشاركة في الجريمة؟

فليس للإنسان أن يقف أمام إنسان مثله مَوقف المُتَفَرِّج عندما تُهدر كرامته الإنسانية ويتمّ استعباده واستغلاله، كما تتضاعف المسؤولية على الفرد المسلم، لما يحمله من مسؤولية عالميّة دينيّة في الإصلاح وعمارة الأرض، والواجب عليه وعلى العالم محاربة هذه الظواهر والحَدُّ من انتشارها.

مشكلة مجتمع لا أفراد

لا يُنظَر إلى المشاكل الفرديّة باعتبارها مشاكل ثانويّة، فالمشكلة الفردية تتحوّل إلى مشكلة مجتمعيّة ثم تَتفاقم لتصبح ظاهرة تَقتحم كلّ بيت.

ولا بُدَّ لنا من التَّمعُّن في حال الأجيال النّاشئة، التي لا يتوانى المفسدون عن توجيهها بكل طريقة ممكنة لأن تَحصر اهتماماتها في ذَواتها وتَسجنها في شقِّها الجَسدي الماديّ مُجَرّدةً من الرُّوح والنَّفس والعقل، فإن كانت الحدائق البشريّة الحيوانية هي مفرزات الداروينية الحديثة، فإنّ ازدياد عُبَّاد المال والنفس والهوى، والفراغ والتفاهة هي مفرزات الحداثة الغربية وما بعد الحداثة، المُنتقل أَثرها إلى العالم والدول الإسلامية بفعل العَولمة والانفتاح في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يجب أن يَغيب عن أذهاننا أنّ هذا التطور هو نتاجٌ غربيّ وَجَب استخدامه بِحذر وتَيَقّظ، فلَمّا انبهر سابقونا بإنجازات الثورة العلمية الغربية والتطور العلمي الصناعي، وعلى الرغم مِمَّا قدمه رُوَّادُها من خدمات للبشرية لا يمكن نكرانها، لكن بانبهارهم واستسلامهم لنتاج غيرهم الحضاريّ الذي لا تُقيِّده قِيَمٌ أخلاقية ولا يَحكمه شَرعٌ إلهِيٌّ، تَحوّلوا بذلك إلى حقل تجاربٍ للغرب، يُجَرّبون فيهم أسوء منتجات العلم وأكثرها فتكاً من الصواريخ والقنابل والأسلحة، فحُرِّقت أجسادهم ودُمرت بيوتهم وقُتَّل أطفالهم، وها هي الحروب الآن تتناوب بين حروب تُفتّت الأجساد وتهدم المدن وحروب تَدُكُّ العقول وتُبدِّد الفكر السليم.

من تسلية إلى مهنة.. التحوّل الخطر

إنّ تحوّل صناعة المحتوى من ترفيه وتسلية إلى مهنة ذات مصدر دَخل، هو تحول خَطِرٌ ساهم في تبدل المفاهيم بشأن العالم الافتراضي، فإنّ صاحب مهنة صناعة المحتوى الذي تخلّى عن دراسته الجامعية وعمله التقليدي ليصنع سيرته الذاتية في عمل الإنترنت، لا يُسمح له بالتراخي أو التراجع حتّى يضمن استمرار مردوده المادي، ولانعدام القيمة الهادفة في محتواهم، وضعف ما يملكون من العلم والثقافة، مع ميل الذوق العام للترفيه، باتت حياة هؤلاء هي المحتوى المعروض، وبتنا نرى القنوات العائلية التي تتفرّع عنها قنوات لكل فردٍ من العائلة مُهمّتها عرض التفاصيل الشخصية، وقنوات تُعنى بالصحة والطب والعلم تقدم نصائحها بطريقة لا تخلو من الإسفاف والغرابة، وفيديوهات تمثيلية بَطلاتها فتيات محجبات ومنتقبات، يستعرضنَ أنفسهن وتفاصيل حياتهنَّ على الشاشات، والرجل إمّا غائب، أو حاضر معهنّ يصوّرون صلاتهم وقيامهم، ويشاركون الناس تفاصيل حياتهم الزوجية الخاصة بطابع ديني، فما الدافع لهذا الاستعراض؟ وهل يمكن أن يُصنف تحت بند المحتوى الديني أو الهادف؟ وهل الحجاب والنقاب والجلابية ومريول الطبيب يضفي للمحتوى الفارغ قيمة ومعنى؟

الخضوع لمُحَرِّكي الدُمَى

لهذه التطبيقات والعمل المرتبط بها سياساتٌ خاصة يقرِّرها أرباب العمل -الذين سأطلق عليهم مسمى “مُحَرِّكُو الدُّمَى”-، ولا يحكم قوانين العمل فيها أي جهة حكومية أو دولية أو تشريعية، والذي يبدو ربما أمراً جيداً يضمن الحرية، لكن في المقابل هو عالمٌ تحكمه قوانينه الخاصة المُرتكزة على تحصيل الشهرة والمال مقابل التفاهة وإثارة الجدل واستفزاز الجمهور، ومن يخالف القوانين التي تُحقق المصالح الشخصية لأرباب العمل، يُعاقَبُ بتقييد المحتوى والحذف والمنع، فَزَلَّةٌ واحدة أو بالأحرى أيّ مُخالفة لسياساتهم، كَفيلةٌ بأن تُنهيَ الحياة المهنيّة لصانع المحتوى بنقرة زِرّ واحدة، وإنّ الخوف من هذا العقاب حَوَّله إلى دُمية في أيديهم ورمزاً للتفاهة، شعاره الخضوع والاستسلام لهم مقابل ضمان استمرار تدفق المال إليه، بل يبالغ بعضهم ويجتهد في أن يَنفي عن نفسه تهمة وقوفه مع الحق، ويتكلّف في إظهار نفسه على الباطل تَذلُّلَاً لهم.

وبعد وضوح منهجهم المزدوج المعايير فيما يتعلق بتعاملهم مع القضايا الإسلامية والإنسانية، لا بدّ لنا من إعادة النظر في علاقتنا مع تطبيقات العالم الافتراضي، حمايةً لنا ولأبنائنا من الانضمام لركب المُستَعبدين، ومن التحول إلى دمىً لا تحمل هدفاً ولا قضية، مَحشُوَّةٍ بما اختاره لها صانعوها من الحَشوِ المُهترئ.

الأجهزة الذكية دعوات للتحريم والتغريم

تخبرنا الدكتورة آلاء نصيف مديرة مشروع مبادرة الأسرة المعرفيّة عن أمنيتها في صدور قانون يُحرّم استخدام الشاشات الالكترونية للأطفال، وأن تقوم الدولة بتشريع غرامة على الوالدين حال تقديمها لأطفالهم، والتي تعتبرهم الدكتورة آلاء أي الأطفال، رأس المال البشريّ واقتصاد الدولة فيجب حماية هذه الثروة من خطر الأجهزة الذكية عليهم.[4]

أما الدكتور جاسم المطوع فيدعونا للتفكر في الجانب الشرعي لاستخدام الأطفال للأجهزة الالكترونية، فإن كان الأهل يسمحون لأطفالهم باستخدامها دون ضابط ودون نظام لأوقات استخدام الشاشة، ودون مراقبة للمحتوى الذي يظهر لهم، وبالتالي يؤثّر سوء استخدامها على أطفالهم صحيّاً وجسديّاً بشكل سلبي، ويعيقهم عن الصلاة والدراسة، فهل يأثم الوالدان لفعلهم وتفريطهم في هذا الأمر؟[5].

في كثير من الأحيان يسمح الآباء لأبنائهم باقتناء الشاشات الذكية والهواتف المحمولة مجاراة لأقرانهم وإشغالاً للأبناء بها، وإن أصبحت الأجهزة الذكية والعالم الافتراضي أمراً مفروضاً لا يمكن الانفكاك عنه، لكن لا يُعفى الأهل بذلك من المسؤولية تجاه أبنائهم في حمايتهم من الآثار الجسيمة التي يخلفها استخدام الأجهزة الذكية نتيجة تعريضهم لمحتوى ضخمٍ؛ كثير الرداءة قليل المَنافع، ويزيد على الأضرار الظاهرة أضرار أخرى خفية؛ تشمل الانحرافات الفكرية والعقائدية، كالإلحاد والمادية والعبثية والفردانية..الخ، والغرق في عالم الأوهام واللّذات والشهوات والمحتويات الإباحية والشيطانية.

فمِمّا يُنصح به تأخير استخدام الأجهزة الذكية وخاصة الهاتف المحمول منها قدر ما أمكن حتى يصبح الطفل والفتى قادرين بأنفسهم على التمييز بين الرديء والصحيح، وذلك بعد تعليمهم طرق التعامل مع كل ما يُفرزه العالم الافتراضي، وتعليمهم مخافة الله في السر والعلن، وغضّ البصر، وتوعيتهم لخطر الشاشات، وخطر الفراغ وتضييع الأوقات، والاجتهاد في تقوية مَلكة العقل الناقد الفاحص عندهم، وتعويد سمعهم وبصرهم على الأفضل والنافع، مع عدم تخلي الأهل عن مسؤوليتهم الدائمة في التوجيه ومراقبة المحتوى، وإن سعى الأبناء لاتخاذ صناعة المحتوى عملاً لهم عندما يكبرون فلا يكن المصدر الوحيد للمال، وأن يبقى الهدف من دخول العالم الافتراضي نفع الناس ونشر الوعي والعلم لا الشهرة والمال.

ختاماً

لنعلم أبناءنا قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، لكن إلى جانب بقية الآية {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، فالإنسان لم يُخلق ليعبد المال، ولم يوجد عبثاً، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، ولنوجههم منذ الصغر إلى الهدف من خَلقهم، أي عبادة الله بمفهوم العبادة الشامل، الله المستحقّ وحده للعبادة والذي كَرَّمهم وجعل لهم مسؤولية مجتمعية وأًمَمِيَّةً وعالمية، وحمَّلهم أمانة عظيمة تحتاج عقولاً سليمة وفكراً حراً وأجساداً قوية؛ مهمة استخلاف الأرض وعمارتها ونشر العدل والإسلام والحق فيها.


[1] Number of digital content creators worldwide as of May 2022, by country

[2] Millions work as content creators.In official records, they barely exist.By Drew Harwell and Taylor Lorenz October.26.2023. Washingtonpost.

[3] المصدر السابق

[4] هل دمرت الرأسمالية الأسرة| بودكاست مربع. الدكتورة آلاء نصيف،(44:26)-أسلوب التربية-إذاعة ثمانية: 30.11.2023. يوتيوب.

[5] د.جاسم المطوع-هل على الوالدين اثم في هذه الحالة؟-قناة انستغرام.

 

شارك المقال