زواج القاصرات .. جُرمٌ أم حقٌّ؟ (1\2)

image_print

فتاتان في الثلاثة عشرة ربيعاً، تختلفان في مكان نشأتهما وتتقاربان بنهاية مصيرهما، سلبت الحرب من الفتاة الأولى الشعور بالأمان، ليتبدل البيت إلى خيمة والمدرسة إلى مأوى، وقدمت الحضارة للفتاة الأخرى تعليماً جيداً وبيتاً من جدران إلّا أنها لم تغنِها عن الحاجة للمال، فما تفعل دولة ذات حضارة بأُمٍّ تصب جام غضبها على ابنتها الصغيرة بعد أن تخلى والد الفتاة عنهما، ليكون عقابها لذنب لم تقترفه الضرب المبرح والحرمان من أدنى المقومات كالطعام والشراب؟! تمر أيام الفتاتين ثقيلة بائسة دون أن يلتفت العالم يوماً إلى معاناتهما، فقد كان منشغلاً بتجريم زواج القاصرات، والذي ربما كان آخر طريق لنجاتهما، لتتحولا فريسة سهلة أمام كل ذئب بشري، وينتهي بهما المطاف إما في بيوت البغاء أوفي ملاجئ النساء بروحين وقلبين محطمين، وهنا تهدأ الأصوات وترتفع الأقلام، ولا تذكر قصتيهما إلا بخجل وعار عن فتاتين في الثلاثة عشر لم تجدا من يدفع عنهما قسوة الأيام، ولم يبق لهما ما تبيعانه سوى جسديهما[1].

تعاطف مُتجاهل

وكان لا بد من تسليط الضوء على واقع مَنسيٍّ بذات الطريقة القصصية العاطفية التي يتبعها مُجرِّمو زواج القاصرات، فقد شغلت أصواتهم سمع العالم ونظره عن قصص فتيات انتهى بهن الأمر ضحايا للاستغلال، وبعد أن فشل العالم بتقديم الأمان والحماية لهن وكفاية أقل حاجاتهن ثم سلب الحق في زواج اختياري كان من الممكن أن يقدم لهن ما فشلوا في تقديمه، فإن لم ننكر وجود أضرار مرتبطة بالجهل في بعض حالات زواج القاصرات، إلّا أن تحكيم الأمر من وجهة نظر واحدة وبناء على مشاعر مجردة سيحول دون نظرة دقيقة في المشكلة وجذورها، وإن حَكم القاضي بسماعه لشهادة طرف دون الآخر لكان ظلماً شديداً و لاختل الميزان، ولكان أسهل الحلول المَنع، كمن يمنع الزواج لكثرة الحالات التي تنتهي بالطلاق، متجاهلاً حالات الزواج الناجح، ودون النظر في إن كان الزواج هو المُسبِّب وحسب، أم أنه سوء تطبيقٍ وجهلٍ بأحكامه.

خلط المفاهيم والمتهم الإسلام

ولا تمر قضية زواج القاصرات من دون أن تُشعل حالة من الغضب والاستنكار، ليطال شرارها الإسلام ويوضع مقام المتهم الأول بل الوحيد، ثم تُطلق أحكام القرن الحادي والعشرين على حقبة مرت منذ 1400 سنة، ليجعلها البعض ذريعة ساذجة ويتجرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير الرسل وأطهر البشر لزواجه من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبالإمعان في كيفية التعاطي مع قضية زواج القاصرات، في وقتنا الحالي، فلا نكاد نجد سبيلاً للتفرقة بين علم وشريعة إسلامية وقوانين وضعية وعادات قبلية، وأكثر اللًّغط وأوله يكون في تعريف القاصر والبالغ العاقل.

القاصر بين العلم والقانون:

القاصر مصطلح قانوني للدلالة على الطفل أو الشاب والفتاة ما دون سن الرشد المحدد قانوناً، فيكون القاصر تحت وصاية والديه ولا يحق له التصرف بشؤونه الخاصة أو القيام بالأمور المدنية، كالانتخاب وإبرام العقود، وله عقوبات مخففة عن الجرائم والجنحات التي يرتكبها، وبالإمكان أن يختلف السن المحدد للرشد عن السن القانوني المحدد للزواج، أو القيادة أو التدخين أو العمل في بعض المهن الطبية والحكومية وبعض المناصب كرئاسة الدولة، فيختلف الأمر بين البلدين.

أما من الناحية البيولوجية فالطفولة هي المرحلة ما بين المهد والمراهقة، والمراهقة هي المرحلة التالية للطفولة والتي تبدأ مع بدأ التغيرات الطارئة على جسد الصغير ببلوغه سن العاشرة تقريباً أو قبل ذلك، وتنتهي بالبلوغ التام من الناحية الجسدية ونمو الأعضاء التناسلية والنضج العقلي، ويكون ذلك مع بدأ الحيض عند الفتيات ومظاهر الرجولة والاحتلام عند الفتيان، أما العمر الذي يحصل فيه البلوغ فيتفاوت باختلاف الأفراد[2].

ويبقى الدماغ في تطور إلى ما بعد البلوغ أو بالأحرى في تطور دائم، ولكن اختلف العلماء في العمر الذي يصل فيه الدماغ إلى التطور الكافي ليصبح الشخص راشداً، لارتباط ذلك باكتمال نمو مناطق دماغية مهمة، فقُدِّر سن بلوغ الرشد بين عمر الثماني عشر والعشرين والبعض ذهب إلى الثلاثين عاماً، مع الإشارة إلى عدم توافر دراسات كافية بعد[3].

الصغير والقاصر في الإسلام

لا وجود للفظ القاصر في الإسلام، فإما طفل صغير قبل البلوغ، وإما بالغ بعد حصول البلوغ الذي يحدد بعلامات معينة كالاحتلام عند الذكر والحيض عند الفتاة، أو باعتبار السن[i] في حال عدم ظهور علامات البلوغ[4]، فيصبح الذكر والفتاة مكلفين ومحاسبين عن الأفعال والأقوال، إلّا إن كان هناك عارض يُسقط عنهم التكليف كالجنون والعته، أي عارض يعترض العقل الذي هو مناط التكليف.

اختزال المسميات بقاصر اجحاف بحق الشباب

وبناء على التفسيرات السابقة نجد أن الصغير والبالغ العاقل المكلف في الإسلام يختصران بلفظ القاصر القانوني، فتجري عليهم ذات الأحكام إلى حد لابأس به مع اختلافهما الكبير بالبنية والعقل والاحتياجات ثم يُحدد سن واحد للرشد، وكأنها عصاة سحرية ستحول الطفل إلى راشد بمجرد بلوغه الثامنة عشرة، ففكرة الانتقال من مرحلة المراهقة إلى الرشد بمجرد بلوغ سن معينة غير مقبولة علميا، لانتفاء وجود رابط كبير بين العمر والنضج[5]، فكيف إن كان الشخص رشيداً قبل السن القانوني وبقي يعامل كالمراهق[ii]؟ وكيف إن حصل خلاف ذلك؟ وقد جعل هذا الأمر عدداً من الشباب يتذمر من قانونٍ يلقي بمسؤوليات البالغين على عاتقهم من دون سابق إنذار بمجرد بلوغهم سناً معينة، وقد كانوا قبل ذلك يعاملون معاملة الطفل المراهق.

تحديد سن الرشد بين عدل الإسلام ومادية العلم

إن تحديد بدء التكليف في الإسلام مرتبط بالبلوغ أولاً ثم بالعقل،”وعلة ارتباط أهلية الأداء-أي التكليف-بالبلوغ أن تتحقق بتوافر العقل، ولما كان العقل من الأمور الخفية ارتبط بالبلوغ، لأنه مظنة العقل، فيصبح الشخص عاقلاً بمجرد البلوغ، ما لم يعترضه عارض من عوارض الأهلية، وإذا بلغ الشخص رشيداً كملت أهليته، وارتفعت الولاية عنه، والرشد عند أهل العلم هو صلاح المال والقدرة على استثماره وحفظه بدلاً من الإسراف وتضييعه، أي أن اشتراط الرشد محصور في التصرفات المالية، وأما غير ذلك كالزواج والطلاق فإنها نافذة منه بمجرد البلوغ عاقلاً.](كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي)[6] ولذا لم يحدد في الإسلام سن واحد للرشد للاختلاف الكبير بين الأفراد، فقد يرافق الرشد البلوغ أو يأتي بعده.

وكذلك تحديد سن الرشد في القانون مرتبط بالعقل وباكتمال نموه من حيث القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية وتحديد النتائج المترتبة على الأفعال ومقدرة التصرف بالمال، وبناء على الدراسات العصبية التي تجرى على الدماغ يتم تحديده بسن واحدة، فما مدى صحة الاعتماد على هذه الدراسات؟

اجتزاء سياسي إعلامي للدراسات الدماغية العصبية

إن بلوغ سن الرشد مرتبط بعدة عوامل منها البيئة المحيطة والتعليم والتربية والتجارب الشخصية وحتى تأثير التغذية والإدمان والصحة النفسية[7]، أما العمر فليس شرطاً للرشد وإنما يساعد تقديره في تسهيل أمور المعاملات القانونية، ولكن الأمر تحول بحسب ورقة بحثية نشرت في موقع المكتبة الأمريكية الوطنية للطب إلى قوانين تعسفية، تمتد للمنع من الزواج والقيادة والتصرف بالشؤون الخاصة، وذلك بسبب اعتماد سن القوانين المختصة بتحديد العمر على دراسات علم الأعصاب والدماغ، والتي يشدد العلماء على عدم جعلها مرجعاً للحكم على سلوكيات المراهقين وأفعالهم في العالم الخارجي، لأنها تنبثق من علم ماديٍّ معرض للأخطاء، ولا يمكنه إعطاء تفسيرات كاملة لسلوكيات المراهقين، فلا يكشف الكذب ولا يحدد القدرة على الزواج والقيادة، بالإضافة إلى أن الأبحاث التي تدعم سن الرشد المحدد حالياً قليلة جدا، مما يطرح سؤال إمكانية تحديد علم الأعصاب سناً معينة للرشد، أم أنّ الاختلافات بين الأفراد ستكون متفاوتة إلى حد يستحيل معه تحديد سن واحدة للجميع؟[8]

جريمة فيالفا تثير النقاش

ولتوضيح الزلل في قانون تحديد سن واحد للرشد، سنعود بالزمن لقصة قاتل طبق في حقه حكم الإعدام، الذي يندر تطبيقه في الولايات المتحدة الأمريكية، لاعترافه بجريمة اقترفها عندما كان عمره 19 سنة بمساعدة صديقه، حيث قاموا بسرقة زوجين ثم قتلهم رمياً بالرصاص وإضرام النيران في سيارتهم لإخفاء الأدلة، ليشكك الكثيرون في عدالة الحكم بسبب قيام القاتل فالفيا بالجرم قبل بلوغه سن الرشد، أي عندما كان عقله غير مكتمل النمو إلى الحد الذي يشابه فيه دماغ شخص بالغ بحسب التفسير العلمي المادي لبروفيسور علم النفس في جامعة تمبل، ولذلك يجد البروفيسور أن عقوبة كالإعدام بحق المجرم فيالفا هي عقوبة قاسية جدا[9].

 فالتفسيرات المادية تنظر للعقل على أنه كيان منفصل عن السلوكيات، ومع هذا يُحكم على سلوكيات المراهقين بناء على مدى تطور الدماغ ونموه، بعيداً عن النظر فيما يدركه أي عاقل، بأن شاباً بعمر التاسعة عشرة يعي تماماً شناعة جرم كالقتل والحرق.

تحديد سن أدنى للزواج  

بدأ رفع الحد الأدنى لسن الزواج تدريجياً نتيجة انتشار بيع الأطفال الصغار واستغلالهم في أعمال البغاء أو تزويج الفتيات قسراً من أجل المال أو المصالح، ويتم تحديد الحد الأدنى للعمر بناء على قدرة الفتاة والشاب العقليّة في اتخاذ قرار مصيري كالزواج وبعد انتهاء الوصاية الأبوية، لكي لا يكون للوالدين أي رأي أو سلطة في زواج أبنائهم وبناتهم، مع تخل عن الدين والأخلاق، وتحليل الزنا وإعطاء حق حرية الجسد والتصرف بالنفس لمن يسمى قاصراً، ليجدون أنفسهم غارقين بمستنقعات أقذر مثل مشاكل حمل المراهقات وضياع الأنساب وانتشار الأمراض، ولم تخفف هذه الإجراءات من وطأة المعاناة للفتيات بل تحول الأمر لشبكات تدار خفية وضحايا تبقى طي الكتمان.

وعندما تم التخلي عن مرجعية الدين كتشريع استندت القوانين الغربية إلى علوم مادية لا تتسم بالشمولية ويحدث فيها الخطأ والنقص كما تبين لنا سابقا، ليظهر الخلل جليّاً في القوانين التي تختص بأحكام القُصَّر والمراهقين، والتي تشكل قاعدة لبعض القوانين المُشرَّعة في بلاد المسلمين، لتتحول لطوق يخنق الشباب المسلم الذي لا يعيش حياة الغربي، وليستباح تجريم زواج القاصرات في البلدان الإسلامية دون التفريق بين طفلة وفتاة بالغة، مع دعم  حملات ومشاريع لا حصر لها، مع أن الإسلام اعتنى بالاختلاف الدقيق بين الصغيرة والفتاة البالغة العاقلة بإصدار حكم لكل فئة بحسب ما يقتضيه الحال، وهذا ما سيأتي تفصيله في مقال قادم بإذن الله.


المصادر

[1] قصة واقعية للفتاة هيلينا ترويها بنفسها Helena.(2021,03 17).Helena hat sich als Kind prostituiert.(f.m.Hannah,Interviewer) youtube.

[2] https://www.nhs.uk/live-well/sexual-health/stages-of-puberty-what-happens-to-boys-and-girls/

[3] https://www.reference.com/science/age-human-brain-fully-developed-b909a4ffd8d4f75d

 [4]  انظر المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم،الجزء6،تعريف البالغة العاقلة،الصفحات 420-425

[5] https://psychology.stackexchange.com/questions/21384/how-do-we-know-human-brain-development-stops-around-age-25

[6] أ.د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ. كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي.(الإصدار الطبعة الرابعة،المجلد القسْمُ الثَّاني: النّظَريّات الفقهيّة،الصفحات 2960-2971).دمشق، سورية:دار الفكر.

[7] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3621648/

[8] Sara B. Johnson, R.W.(2009, September).US National Library of Medicine. doi:10.1016/j.jadohealth.2009.05.016

[9]Harmeet Kaur.(24 September, 2020).CNN.
———

[i] الراجح أنه في الخامسة عشرة

[ii] استخدم لفظ المراهق مع عدم استحبابه لشيوعه وخدمة للنص.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد