رمضان موسم الخير
مرّت عدة أيام على بَدء رمضان، وبكل تأكيد فإن نفحات هذا الشهر تجول في حياتنا لتغيّرها إلى الأفضل في كل شيء، بدءًا من نمط التفكير، وصولاً للعادات الغذائية. وإذا ما أَجَلْنا النظر في آيات الصيام في القرآن الكريم، فإننا سنقف على إشاراتٍ تحثّ المسلم على الاستفادة من الوقتِ الذي يعيشه، ففيها مفردات مرتبطة بالزمن ارتباطًا وثيقًا، وأيّ مغنمٍ أكبر من أن تنال رضى الله في رمضان، وأي بذْلٍ أوفى من أن تستثمر وقتك في رمضان أتم الاستثمار؟.
رمضانُ.. الخطاب مع المؤمن
عادةً ما تُصدَّر الأوامر من قبل الله في الخطاب بما يناسب المراد، فإن كان المراد من الآية أمر الناس باعتقادٍ ما فغالبًا ما تتصدّر الآية بوصف أشمل من وصف الإيمان وهو مخاطبة الإنسان بإنسانيّته، نظرًا لعموم الحال والمقال، فيقال “يا أيّها الناس” كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} [النساء: 1] وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1].
أما كان المراد من الخطاب فرض تكليفٍ تعبُّديٍّ فغالبًا ما تُصدَّرُ الآية بتخصيصها بالإيمان لخصوص المخاطَب وحال الخطاب، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج : 77] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90].
وهنا ائذن لي أن أسألك: ألم يستوقفك نداء الله حين قرأته أمره بتشريع الصيام، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]؟ ألم يتوارد لخاطركَ، لمَ خصّ الله التكاليف بالعبادات بالمؤمن وخاطب عموم العباد في العقائد بالإنسانيّة؟
إن حال المخاطَب مهمٌّ لإيصال الصورة إليه، فمن يجحدُ وجود الله أو يؤمن بآلهة متعدّدة أولى بألّا تطالبه بالصلاة والحج، وإنما تخاطبُه بما يشترك به معك، وأيّ قيمة أظهرُ بينك وبينه من “الإنسانيّة” بينما كان خطاب التكليف مناسبًا لمن حّصل شرط صحتها ووقوعها منهم وهم “الذين آمنوا”، حيث يتوجه الله إلى الناس بمناشدة الإيمان المستقر في قلوبهم ليقوموا بما يفرضه عليهم من فرائض هو أدرى بحكمتها والغاية منها.
العبادة والزمن
لا ريب أنكَ لاحظت ارتباط العبادات بالزمان، فالزكاة لا تجبُ على المستطيع من المسلم إلا في وقتٍ معلومٍ من كل عام، وكذلك للحجُّ {أشهرٌ معلوماتٌ} [البقرة: 197]، أما الصلاة فإنها مقدّرة بوقتٍ تجبُ فيه وينقضي وقتها بمروره، فلا تصحُّ إن فات وقتها إلا أن تصلّى قضاءً.
هذا الارتباط الوثيق بالوقت لم ينشأ عن فراغ أو جاء عن عبث، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى أن أول ما نسأل عنه يوم القيامة هي هذه الأوقات التي تمرّ علينا، فيقول: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ)
ومن تلك الإشارات التي تربط رمضان بالوقتِ، قول الحقِّ بعد فرض الصيام: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فالأيام والشهر وعاء زمني محدّد بوقت معيّن، ربطه الله بالصوم والقرآن، ممّا يلفت النظر إلى بركة هذا الشهر، وفضيلة العبادة فيه.
لقد شهد رمضان نزول الوحي الأول على قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم، وفي هذا لفتٌ للانتباه إلى ضرورة الصوم مع التدبّر هذه الأيام، فهي كشأن أي امتحان أو موسم، تنطلق من نقطة وتنتهي عند أخرى، والزمن الذي ينقضي لا يعود، فما النتيجة التي سنملأ بها صُحُفنا في نهاية المطاف؟
قم تعرّض للنفحات
هل حاولت أن تكتشف نفسك في رمضان؟ إن كثيرًا من الناس قد أصابه التيه، فهو لا يقف عند حقيقة نفسه، إلا إن تهيأت له أسباب ذلك، وإن من رحمة الله تعالى بنا أن أكثر لنا من مواسم الخير، وهيّأنا لنستقبل نفحاتها في أماكن وأزمنة بارك فيها، حدّدها لنا سبحانه وتعالى، وجعل لمن يغتنمها أن يتضاعف ثوابه وطاعته في صالح الأعمال.
قد تتساءل –وأنت محقٌّ في ذلك- كيف لي أن أستثمر وقتي في رمضان؟
وههنا فإني لست بمقام أن أُمليَ عليك ما يجب أن تفعل أو تَدَع، فذاك يعود لكلّ إنسان وما يريد، إلا أن أحوال الإنسان في سعيه للطاعة والتعبّد في هذا الشهر لا تخرج عن أحوال معيّنة، كالحاجة لإشباع العاطفة، وذلك بأن يملأ الإنسان القلوب من حوله بالفرحة الغامرة الفيّاضة لمقدم شهر الفضل والرحمات.
إضافة إلى الرغبة في الوصول للصفاء الروحي، وذلك بتخلية القلب من كَدَر الغلّ والحقد والحسد وغير ذلك من محبطات الأعمال، وتحليته بالنية الخالصة لله، إلى جانب الرغبة في التعلّم والاستفادة فكرًا وعقلاً، وذلك بالسعي للتأمل والتدبّر في آيات الله وكلامه، والرغبة في نفع الناس معنويًّا وماديًّا، بنشر الخيرات والتذكير بموسم الطاعات، وإيقاظ الغافلين وإرشاد التائهين إلى التعرض لنفحات الله.
إن هذا كلّه يحتّم عليك أن تضع الخطة الملائمة لنفسك، فتراعي فيها جانب (الله، والذات، والآخر) فتمتلئ بما يقرب القرآن وإعجازه إليك، فارقب قلبك عند القرآن، فإن وجدت فيه نشاطًا في رمضان وإقبالًا عليه، فإن قلبك سليم –بإذن الله- وإن رأيته معرضًا عنه؛ فإنك بحاجة لتغوص في رقائقه لتداوي القسوة الطارئة في فؤادك، ولتجعل منه طريقًا لتغيير عاداتك السيئة وصفاتك السلبية المنفلتة من عقال المراقبة وبناء عادات إيجابيّة تجعلك أكثرَ سعادةً وقربًا من الله فـ “إن المرء إذا أراد استطاع”..
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!