رمضان فرصة لتجديد العهد مع القرآن

image_print

تمتلئ الحياة بالتقلبات والتغيرات، وفي بعض الأحيان ينغمس الفرد منا في معتركها وتملأ وقته حتى يغفل عن بعض التزاماته الدينية، ويبدأ بالشعور بالبعد رويدا رويدا عن ربه وعن مناجاته حتى يعتاد قلبه على ذلك، ومن ثم تصبح هنالك فجوة بين الإنسان المسلم وتعاليم دينه، فيترك ذكر الله وورده القرآني وتدبّر معانيه من أجل العمل به، ويغفل عن إقامة صلاته والحفاظ على أركانها والخشوع فيها، ويهجر مجالس الذكر، وكل ذلك بعلة الانشغال بمسؤوليات الحياة من عمل وحياة زوجية وأسرية، مما يؤدى إلى ضعف الصلة بيننا وبين ديننا، وبالتالي ينعكس ذلك سلبا على حياتنا اليومية بطول الزمن واعتيادنا على هذا النسق من الحياة، فتصبح تعاملاتنا وأقوالنا وأفعالنا وتفكيرنا بعيدة كل البعد عن منهج الله ومخالفة له.

ولعل من الحكمة التي شرعها الله لنا بجعل مواسم طاعات متفرقة في كل عام لإيقاظ القلوب من غفلتها ونفض الغبار عن نفوسنا وبعث روح الإيمان فيها من جديد وتجديد العهد في علاقتنا مع ربّنا ومع ديننا ومع سنة رسولنا صلوات الله عليه وسلامه ويظهر ذلك في الحديث النبوي الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا) [أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو ضعيف]

رمضان موسم الطاعات

ها نحن اليوم في أيام شهر كريم نادى الله فيه عباده المؤمنين قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فهنا يُذكّرنا الله عز وجل بأنّ الصيام عبادة كتبها علينا وعلى من قبلنا من الأمم وفي هذا إشارة لانتماء البشرية إلى ركب عظيم من الأنبياء والرسل ومن تبعهم من الصالحين والمصلحين وما نحن إلا وارثين لمشعل الإيمان مطالَبين بإقامته في واقع الحياة والدفاع عنه ضد كل من يسعى لإخماد نوره، فعلى المسلم أن يعتز بتاريخه وبدينه ويستعظم هذا الانتماء وأن يكون خير خلف لخير سلف، إذ إنه من المخجل أن نكون من أتباع هذا الركب العظيم من أفضل خلق الله ومن أتباع خاتم النبيين محمد صلى الله عليه و سلم وصحابته الكرام وأن يكون واقعنا متسمًا بالجمود والتخلف والضعف والفوضى في كل ميادين الحياة!

ومن المحزن أن نجد مسلمين يشعرون بالخجل بسبب انتمائهم الديني وفي المقابل يتمنون أن يكونوا من أبناء الحضارة الغربية متناسين تاريخ هذه الحضارة المُتّسم بالإبادة والاستعمار والعنصرية والظلم الذي يمارسونه إلى اليوم ضد الأقليات المسلمة داخل أوطانهم أو خارجها، بل هؤلاء يُبيحون الفواحش ويَتفنّنون فيها، مُشوّهين بذلك الفطرة الإنسانية، فيُبيحون الزنا ويَعتبرُونه علاقة حب، ويُبيحون المثلية ويعتبرونها حرية شخصية وفطرة إنسانيّة، ويُبيحون الربا ويعتبرونه ربحًا اقتصاديًّا، ولا يرون حرجًا في قتل الأبرياء واغتصاب الأراضي ونهب الخيرات من أجل مصالحهم العليا وبقاء هيمنتهم! فأيّ الفريقين أحق بالخجل من تاريخه وانتمائه؟!

وفي المقابل نجد في تاريخنا رسلًا وأنبياء وأتباعهم المصلحين واجهوا الظالمين والمستبدين من أجل إعلاء كلمة الحق ونشر العدل والمساواة في الأرض وجاهدوا في سبيل ذلك بأموالهم وأنفسهم وأفنوا حياتهم في محاربة الجهل والخرافات والفسق والفجور من أجل إقامة قِيَم العلم والطُّهر والحياء مكانها! فيا ليتنا كمسلمين نعي هذه الحقيقة و لا ننخدع بالثقافة الغربية المُزيّنة اليوم بغطاء التقدّم العلمي والتّكنولوجيا ورفاهية الحياة.

حقيقة التقوى

في هذه الآية أيضا تذكير للمؤمنين بغاية الصيام المتمثلة في التقوى، فقد قال رجلٌ لأبي هريرة رضي الله عنه: (ما التقوى؟ فقال: أما سلكت طريقًا فيه شوك؟ قال: نعم، قال: ما فعلت؟ قال الرجل: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، فقال أبو هريرة: ذاك التقوى) [أخرجه البيهقي في الزهد الكبير]، فما بال الناس والحكّام، وأين هم من حقيقة التقوى اليوم، بل أين هم من دينهم؟! وأين العلماء الربانيين الذين يصدعون بالحق ويعظونهم ويذكرونهم وينهونهم ويأمرونهم بالمعروف بلا مداهنة أو ملامسة لإرضائهم؟! بل أين المسلم الصادق الذي لا يرضى بجور الحاكم وميله عن الحق وترك تعاليم الدين وعدم الحكم بشرعه فيرفضه ولا يكتفى بالصمت والخضوع له ويرفض العيش تحت طائلة الجبن والخوف؟!

فالتقوى بكل بساطة كما بيّنها أبو هريرة هي جبل النفس على ترك المحرمات والمعاصي مع الإقبال على الطاعات والعبادات، فمن التّقوى تحقيق العدل والمساواة والدّفاع عن المظلومين، ومن التّقوى حماية المُقدّسات الإسلاميّة والجهاد في سبيل الله ورفض مُداهنة أعداء الأمّة والتّطبيع معهم، ومن التّقوى الأكل الحلال وإتقان العمل الذّي أوكِل إلينا، ومن التّقوى أداء الأمانات سواء كانت أمانة الدّين أو الحُكم أو العلم، ومن التّقوى الحفاظ على الآداب الإسلاميّة سواء كان ذلك من النّاحية الأخلاقيّة كالحياء والصّدق والشجاعة والكرم والعفّة أو من النّاحية الظاهريّة كستر العورات ولبس الحجاب بشروطه الكاملة، ومن التّقوى تربية الأبناء والإحسان للزوجة وبناء أسرة تقوم على الإسلام وقيمه، فالتّقوى هي فعل كلّ أمر يُحبّه الله ورسوله والمُسابقة في القيام به مع ترك كلّ أمر يبغضه الله ورسوله، ولنسأل أنفسنا في كلّ عمل نقوم به هل اتّقينا الله فيه أم لا؟!

  ونحن اليوم مع انتشار الفتن في كل مكان حتى داخل بيوتنا عن طريق وسائل التواصل الإجتماعي والتلفاز نحتاج في هذا الشهر الكريم إلى تجديد العهد مع كلام ربّنا حتّي نُحيي نُفوسنا من جديد فهو المنبع الصّافي الذّي به تُعالج الضّمائر وتستقيم على منهج الصّلاح والفلاح.

تجديد العهد مع القرآن

يتميز شهر رمضان بنزول القرآن فيه حيث يقول لنا الله عز وجل : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، فطريق الهداية ومعرفة الحق والتفريق بينه وبين الباطل يكون بالرجوع إلى كتاب الله، فهو منهج الحياة وهو العدل المطلَق الذي لا جور ولا ظلم فيه وهو الأساس الذي يجب أن تبنى بها حياتنا ومجتمعاتنا، فعندما ابتعدنا عن كلام ربنا وتركنا العمل به وانشغلنا بغيره فقدنا البوصلة الحقيقة المرشدة لطريق النجاح والفلاح والتحضر، وأصبحنا نتخبّط في مسالك الجاهلية ونتحاكم إلى أهوائنا، ولم تعد مبادئ القرآن هي التي نحتكم إليها سوى في حياتنا اليومية أو في قوانينا التي تنظم مجتمعاتنا المسلمة، ويا لها اليوم من فرصة بأن نتفرغ في هذا الشهر الكريم لكلام ربنا ونجدّد العهد معه، وأن نعرض أنفسنا عليه ونتلقّاه كأنه نزل لتوهّ يخاطبنا به ربنا، حتى نقوم اعوجاج أنفسنا ونتدبر آياته ونغوص في مفاهيمه، لعلنا نقتبس من نوره وهداه، ونخرج من هذا الشهر بهيئة نفسية مؤمنة جديدة، ونغير من حياتنا ونقيمها وفق القرآن ومنهجه وشريعته لا وفق الميولات والشهوات.

ومن أشد انحرافات الأنفس تعلق القلب بالشهوات أو بالسلطة أو بالمال أو بحب الدنيا وتعظيم مظاهرها الزائفة ولن يطهر نفوسنا من هذه الآفات إلا القرآن الكريم الذي هو شفاء ورحمة لنا مصداقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وتعليقًا على هذه الآية يقول الإمام بن عاشور [في تفسيره]: “أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكس له المرض، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافىً سليمًا، وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وَصَبًا، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلا لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها، فزواجر القرآن ومواعظه يشبه بنصح الطبيب على وجه المكنية، وإبطاله العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية، وتعاليمه الدينية وآدابه تشبه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية، وعبر عنها بالهدى، ورحمته للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية. ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا، ويصح أن تجعل تخييلا كأظفار المنية، ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع”، فيا ليتنا نكون في هذا الشهر من القابلين المُنتفعين بالقرآن الكريم، وليكن هذ هدفنا!

اغرس القرآن في نفوس أبنائك

وكم نحن بحاجة اليوم في هذا الشهر خاصة بتجديد العهد مع مجالس القرآن في بيوتنا حتى نغرس في نفوسنا أولاً ونفوس أبنائنا وأهلنا ثانيا قيم القرآن، وأن نفتح في ما بيننا حوارات بنّاءة نناقش فيها كيفية العمل بالقرآن في واقعنا وكيفية إصلاح النفس والمجتمع والعودة إلى منهج الله، بدلا من إضاعة أوقاتنا في نقاشات تافهة لا معنى لها أو الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعية طوال اليوم، والإقبال على البرامج التلفزية من أفلام ومسلسلات، و يمكننا أيضا فتح باب البحث والتعلم من أجل فهم كلام ربنا بالعودة للتفاسير وأهل العلم الموثوق بهم وتبيين الحقائق وترك الجهل وأخذ الدين عن علم ووعي بحقائقه لا عن طريق الوراثة والجمود، فيا لها من نعمة عظيمة أن ننير بيوتنا بكلام ربنا، وأن نربي أبناءنا على القرآن بدلا من أن نترك المواد الإعلامية هي التي ترسم لهم طريقة حياتهم والانحراف بهم عن الصراط المستقيم وأن نُحصّنهم ونُحصّن أنفسنا من الشبهات وليكن رمضان فرصة لنا بأن نقيم بيوتنا وفق ما يرضي الله ورسوله فهنيئًا لمن اغتنم هذه الفرصة وأقام الدين في أسرته وجعله هو الدستور الذي ينظم حياتهم!

ولن يكون تجديد العهد مع القرآن وتدبره والعمل به بعد هجراننا له بالأمر الهين بل يحتاج منا لبذل الجهد والصبر عليه ومجاهدة النفس به حتى يصبح كلام الله هو المرجع العمليّ لنا في كل شيء في كل جزئيّات حياتنا اليومية وفي المجالات الكبرى من حياة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ومن حِكَم الصيام أن يُعلّمنا هذه القيم ويُدرّبنا عليها، فلنغتنم هذه الفرصة ولنجعل هدفنا في رمضان هو تجديد العهد مع القرآن.

Author

  • حمزة بلقروية

    خريج الكلية الوطنية للهندسة تخصص الهندسة الميكانيكية، ومدرس لمادة القرآن الكريم في المدرسة القرآنية بالقيروان، ومهتم بالفكر الإسلامي وقضاياه المعاصرة.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد